الصفحة الرئيسية

مجلة النبأ

المرجعية الدينية

التاريخ يصنعة العظماء

 

 

 

عاشوراء مِن السُّنةِ فهلْ السُّنةُ مِن عاشوراء!!؟

بقلم: المهندس فؤاد الصادق

لا شك ولا ريب أن الإمامُ الحسينِ بن علي بن أبي طالب... بن بنت الرسول الأكرم فاطمة الزهراء (عليهم الصلاة والسلام) أحيا الإسلامَ والقرآنَ الكريمَ في نهضته الإصلاحيةِ العظيمةِ، فرسمَ ما كان يجب في العقول، النفوس، العواطف، المشاعر... والتاريخ.

فما هي العوامل التي حولت ذلك الرسم إلى حفرٍ في ذاكرة الأمة، وبهذه الحيوية والديناميكية والخلود، وبعيداً عن أي إنحراف أو تحريف؟

هناك مجموعة عوامل منها:

المجموعة الأولى

العوامل الذاتية لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، وأعني بذلك خصوصيات ومميزات رسالة هذه النهضة، والتي تتصدرها كون النهضة إمتداداً وتأكيداً ومناداة بنفس المبادئ والأسس التي جاء بها جده الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كتكريس الإيمان والقيم والقانون والعدالة والحرية ونفي الظلم والفساد والتميز والتعسف، فهذه قيم مُقدسة وأمور تُحِبها وتُقدِسها الأمةُ بلْ البشرية كلّها.

المجموعة الثانية

من مجموعة العوامل التي ساهمت في تخليد نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) هي العوامل التي ترتبط بتعامل وموقف الحاكم الأموي وقتئذٍ، أعني البطش والقتل والتعذيب والأسر الذي لم يسلمْ منه حتى الطفل الرضيع للإمام الحسين (عليهما السلام) إبن الستة أشهر الذي ذُبِحَ من الوريد إلى الوريد، وبقسوة ووحشية لَم يسبق لها مثيل في التاريخ الإسلامي أو البشري... نتائج هذه النهضة الإصلاحية على المدى القصير، مما أشرنا إليه وتُفصله التواريخُ المعتبرة أحدثت هزة وصدمة بل زلزالاً في ضمير الأمة فتلّمست أكثر واقعية وضرورة ومغزى نداء الإصلاح والتصحيح الذي هتفَ به الإمام الحسين (عليه السلام)، وصَمَدَ وجَاهَدَ بالحوار حتى آخر رمق وآخر نفس... لكن الطاغية أبى إلاّ القتل والتذبيح والحرق والأسر وقطع الرؤوس الشريفة، ورفعها على الأسِنة والمشي بها أمام أُسر وأطفال وذوي الأسرى التي قِيدت بعد كلِّ ذلك مِن كربلاء إلى الكوفةِ في العراق ومِن العراق إلى الشام حيث العاصمة آنذاك.

وبعبارة أخرى: مِن عوامل خلود نهضة الإمام الحسين (عليه السلام):

أولاً: كون النهضة إمتداداً وتأكيداً لرسالة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

فلقد حددَ ذلك الإمام (عليه السلام) في قوله:

(... وإنما خرجتُ أطلبُ الإصلاحَ في أمة جدي محمد..)

ثانياً: كون نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت للدفاع عن القيم والمبادئ المقدسة لدى الأمة والإنسانية.

ثالثاً: كون النهضة إصلاحية تصحيحية التزمت السِلّم والحوار في جميع مراحلها تقابلها مِن الجهة الأُخرى مواجهة قمعية تصفوية جسدية وحشية دموية مِن قِبل الحاكم الظالِم الجائر، وحتى بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء.

لقد أحبّ الإمام الحسين (عليه السلام) اللهَ، فأحبّ أمته وأرادَ لها الخير والصلاح والإصلاح وهو القائل:

(... ومَنْ أحبكَ نهاكَ ومَنْ أبغضكَ أغراكَ).

وفوق كلَّ هذا وذاك نقاء وخلو هذه النهضة من الغايات المادية أو الدنيوية، وتوجهها الكامل إلى الله سبحانه وتعالى، حيث يقول وهو الإمام المعصوم ما مضمونه:

(كفاني أنّ ما نزلَ بيّ في عين الله).

نعم لقد أخذَ الإمام الحسين (عليه السلام) كل شيء في نهضته من الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فأحيا الإسلام والقرآن الحكيم، فهو (عليه السلام) امتداد لرسالة الرسول الأكرم، وهنا يتجسد لنا ظهوراً وفهماً آخراً لما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول:

(حسين مِنّي وأنا مِن حسين).

لكن:

ما هي أسباب استمرار هذه النهضة وبهذا الزخم الحيوي الديناميكي المنقطع النظير وما هو سرّ بقاءها عبرَ كلّ هذه القرون دونَ أي تحريف أو تزيّف؟

فيما تقدمَ ذكرنا بعضَ أهمِ أسباب الاستمرارية الفاعِلة الحيّة لنهضة الإمام الحسين، بقى أن نشير إلى نقطتين:

النقطة الأولى:

الدور الإعلامي الذي أدّته السيدة الثانية للإعلام العربي والإسلامي، أعني الحوراء زينب أخت الإمام الحسين بنت فاطمة الزهراء بنت الرسول الأكرم (عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام)، ذلك الدور المحوري الذي بدأ مع النهضة وبلغَ أوجه بعدَ شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) واستمرَ خلالَ الأسرِ وفي البلاطِ وخارجه ... في العاصمة وقبلها، وبعدها في المدينة المنورة، حتى حُكِمَ عليها بالنفي مِن مدينة جدها، وبهذا الدور وضعت (عليها السلام) النقاط على الحروف وعرّفَت النهضةَ الحسينية وأبعادها وأهدافها وقيمها ورسالتها للرأي العام الإسلامي والعالمي في مسيرة الأسر الطويلة وفي خِطابها في البلاط حيث بعض السفراء وأتباع الديانات الأخرى.

أما النقطة الثانية:

التي حافظت على نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) لتستمر حية فاعِلة وبعيداً عن التحريف فتتمثل في أُسس الشعائر التي زرعها وكرّسها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)... أعني الأُسس المرتبطة بمكانة وقداسة الشهيد وإحياء أمر الشهيد وذكر الشهيد حين استشهدَ عمُّ الرسولِ حمزة (عليهما الصلاة والسلام) مثلاً، هذا إضافة إلى الموقع الفريد والكبير المخصص في السُنة النبوية للإمام الحسين (عليه السلام) في هذا المنحى حين كان يُحّدِثُ الرسولُ أهلَ بيته وبعض أصحابه بقراءته لمستقبل الأمة والدور الحيوي الإستراتيجي الذي ينتظر الإمام الحسين (عليه السلام).

ومِن ثم إلتزام وتأكيد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بهذا النهج الذي رسمه وحدد معالمه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كتبَ الإستمرارية الحيّة الفاعلة لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام) وصانها مِن الإنحراف والتحريف... هذا النهج الذي تمثلَ في إقامتهم وتأكيدهم على إقامة مجالس الحزن والعزاء على سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في ذكراه وتناقل الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في هذا الإحياء الذي هو إحياء لأمر الله وشريعة الله.

نعم هذه المجالس والمراسم والشعائر... وأعني الشعائر الحسينية إضافة إلى كل ما تقدم هي التي ضمنت خلود وإستمرارية نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) وصانتها عن الإنحراف أو التحريف أو التزيف.

الإمام الحسين (عليه السلام) أحيا الإسلامَ والقرآن الكريم بنهضته الإصلاحية، والسيدة زينب (عليها السلام) واصلت مسيرة الكشفِ عن الحقيقة، وإضافة إلى هذين العاملين قام الأئمة الأطهار من أهل البيت (عليهم السلام) بنشر حقائق النهضة بوسائل وآليات عديدة وطبقاً لِما وردَ في السُنة النبوية الشريفة وممارسات الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يرتبط بمناهج وسُبل التعبير عن إحترام وتقديس مكانة وموقع الشهيد ورسالته بصورة عامة، وما للإمام الحسين (عليه السلام) من مكانة خاصة وفريدة في السُنة النبوية، وكما أشرتُ حين كان يتحدث الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المستقبل والنهضة التي سيقوم بها الإمام الحسين (عليه السلام) وشهادته.

وبعبارة أُخرى النهضة، خصوصياتها، رسالتها، نتائجها من ناحية دور الحوراء زينب (عليها السلام) من ناحية ثانية، ودور الأئمة الأطهار (عليهم السلام) المُستمد مِن السُنة النبوية في نشر وتفهيم وإحياء هذه النهضة وعبرَ الوسائل التي رسمها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي على رأسها الشعائر التي باتت تُعرف بالشعائر الحسينية...

هذه العوامل الثلاثة بعد الرعاية الإلهية مِن أهم عوامل بقاء وإستمرارية نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) ودون أن تنالها يدُ التحريف.

الشعائر الحسينية مِن العوامل الهامة لاستمرارية وبقاء النهضة حية بعيدة عن الإنحراف أو التحريف، ومِن هذه الشعائر مجالس العزاء التي يقوم فيها خطيب المنبر الحسيني بدور محوري:

ما هي رسالة المنبر الحسيني في المأتم التي تقام لشهادة الإمام الحسين (عليه السلام)؟

هي نفس رسالة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، والتي تتمثلُ في إحياء الإسلام والقرآن الكريم وبنفس الثوابت والميزات الإصلاحية للنهضة، وطبقاً للمكانة والمنـزلة الرفعية التي عينها الإسلامُ للشهيد عموماً ولسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) خصوصاً، وكما في السُّنة النبوية الشريفة التي تؤكد مِن جهة على حبِّ الحسين (عليه السلام) ومنـزلته ومقامه الفريد وعظيم ما نزلَ به وبأسرته وأولاده وأصحابه، وتُرسِمُ السّنةُ النبوية من جهة ثانية طُرق ووسائل تخليد الشهيد بصورة عامة كما فعلَ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد إستشهادِ عمِّه حمزة (عليه السلام)، وما يجِبُ على الأُمة بصورة خاصة تجاه الإمام الحسين (عليه السلام) ونهضته في هذا المنحنى، والمنبر الحسيني بأجزائه قسم من هذه الوسائل والطُرق للتعبير عن الحب والأحزان والولاء والإخلاص للإمام ورسالته وإستمراراً لنهضته التي هي امتداد لرسالة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّها أحيت الإسلامَ والقرآنَ الكريم كما تقدم.

فيبدأ الخطيبُ المنبر عادة بتلاوة آية أو أكثر من القرآن الكريم وتُسمى تلك بالمقدمة الأولى، ويتبعُ التلاوةَ بقراءة أبيات شعرية مستوحاة من السُّنة النبوية وذلك في منـزلة ومكانة الرسول الأكرم وأهل بيته والإمام الحسين (عليهم جميعاً الصلاة والسلام) ومصائبهم ومعاناتهم لنشر الإسلام وحفظه وإحيائه، وتُسمى تلك بالمقدمة الثانية.

ثم ينتقِلُ بعد تلك المقدمتين الخطيبُ إلى الفقرة الثالثة مِن الخطاب وهي فقرة التوجيه والإرشاد وذلك بتفسير الآية الكريمة التي تلاها في المقدمة الأولى، وخلال ذلك يتطرقُ ويشرحُ ويؤكدُ الخطيبُ على المبادئ والقيم الإسلامية والإنسانية مع ذكر أدِلة من السنة النبوية وروايات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الـمُستمدة مِن السُنة النبوية الشريفة إلى جانب الأدلة العقلية والعلمية والتجربية.

ولاسيما ما يرتبط في ذلك بنهضة الإمام الحسين (عليه السلام) الإصلاحية وميزاتها وما يُعانيه المجتمعُ مِن مشاكل معنوية أو مادية أو أخلاقية، فيربط بين الماضي والحاضر ويُقدم توصيات وحلول، وبعدها ينتقل الخطيبُ إلى الجزء أو الفقرة الرابعة والتي يربطُ بهِ الخطيبُ في خطابه بين أهم نتائج بحثه في فقرة التوجيه والإرشاد - بالتفصيل الذي ذكرناه- وبين الفقرة الخامسة التي يختم بها خِطابه.

فالفقرة الرابعة... فقرة قصيرة عادةً تربط بين الفقرة الثالثة والخامسة للإنتقال، فهي واسطة توجهِ الإنتقال، أو تتصدى لبيان المناسبة والربط بين فقرة التوجيه والإرشاد والفقرة الأخيرة لتمهيد المستمعين للإنتقال إلى الفقرة الأخيرة والتي تبدأ عادةً بأبيات شعر تصِفُ وتُجّسدُ المصاعبَ والمصائبَ التي تعرّضَ لها الإمام الحسين وأولاده وأهل بيته وأصحابه وأتباعه (عليهم السلام) على طريق إحياء الإسلام والقرآن الكريم، ويختم ذلك بأبيات تنعى الإمام الحسين (عليه السلام) وتحكي عن مقتله وشهادته، أو عن تفاصيل شهادة أحد أبنائه أو أصحابه، لتُذرف الدموع ويبكي المؤمنون على إمامهم الذي ما أراد إلاّ الإصلاح في أمة جده محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالبكاء بل حتى التباكي على الإمام الحسين (عليه السلام) أمر مؤكد في السُنة النبوية الشريفة.

فالخطاب بأجزائه في المنبر الحسيني، فهو خِطاب للمسلم بكل مكوناته... خطابٌ موجَّه للروح والجسد والنفس والعقل والعواطف والمشاعر.

هل تُقام مثل هذه المجالس والخُطب في مناسبات دينية أخرى؟

نعم.. ففي يوم وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الثامن والعشرين من صفر في كل عامٍٍ، تُقام مجالس عزاء حاشدة تُلقى فيها الخُطب وعلى نفس النسق الذي ذكرناه، لكن موضوع الخطاب بفقراته المذكورة تدور جُلها حول النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك في ذكرى رحيل سيدة النساء فاطمة الزهراء بنت محمد (عليها الصلاة والسلام) وهكذا في ذكرى وفاة أهل بيت الرسول من الأئمة الأطهار (عليهم الصلاة والسلام).

هذا ويحافظ المؤمنون أيضاً على زيارة المرقد المقدس للإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) وأهل بيته وأصحابه (عليهم السلام)، لنصوص السنة المطهرة الكثيرة السليمة سنداً ودلالة، والتي تدل بما لا يرتقي إليه الشك إلى مكانة وأهمية وأجر وثواب زيارة المراقد والعتبات المقدسة عموماً، ومرقد الإمام الحسين (عليه السلام) خصوصاً، ولاسيما في يوم العاشر من محرم الحرام يوم شهادته، وهي جديرة لئن تكون من أجلِّ القُرب، لذلك العطاء، وتلك التضحيات وذلك الإخلاص لله و...، والكفاح على طريق الإصلاح والإنقاذ.

لقد ضحّى الإمام الحسين (عليه السلام) بكل شيء وبسخاء وكرم منقطع النظير، فجعل الله الأفئدة والقلوب تهوى فتقتدي به وأقواله وسيرته التي لا تمثل إلا إمتداداً لسيرة جده الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

وكيفْ لا يكون الأمر لسبط الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كذلك؟

وهذا سيدنا إبراهيم (عليه السلام) يقول كما في القرآن الكريم:

﴿ربنا إني أسكنتُ مِن ذُريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليُقيموا الصلوة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلَّهم يشكرون﴾ (إبراهيم الآية 37).

هذا وعلاوة على الروايات الخاصة بالمنـزلة الخاصة والمكانة المقدسة لمرقد الإمام الحسين وبقية المراقد المقدسة (عليهم السلام) وزيارتها فثمة أحاديث كثيرة معتمدة عند المسلمين تُحبب إلى المسلم زيارة القبور ولاسيما قبور الأنبياء والشهداء والصالحين وعلى سبيل المثال:

1- كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يُعّلم المسلمين ما يدعون به الله حين يزورون المقابر، فهذا مُسلم يروي في صحيحه:

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية).

فيا ترى ما أهمية وآثار زيارة المقابر كي يهتم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بهذا الأمر، ويُعلّم المسلمين ما يدعون به اللّـهَ عند زيارة القبور؟

2- ليس هذا فحسب، بلْ كان الرسولُ الأكرم بنفسه يزورُ المقابرَ، بموقعه وعظمته ومسؤولياته ومهامه، فهذا مسلم يروي أيضاً وعن أبي هريرة:

(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون).

3- ولن يتوقف الإهتمام الإلهي بزيارة المراقد والبقع المقدسة عند هذا الحد، بل يبلغ الأمرُ أن يأمر جبرئيل ليهبط على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كي يبلغه أمراً يزيارة البقيع وأهل البقيع.

فهذا مسلم أيضاً في صحيحه يروي ذلك عن عائشة في حديث طويل ذلك عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

4- كان الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله) يزورُ البقيعَ:

فهذا ابن ماجه يروي عن عائشة قالت:

(فقدته فإذا هو بالبقيع، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم لنا فرط، ونحن بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تقتنا بعدهم)

وقد ثبت عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه بعد وقعة أحد بثمان سنين خرج إلى شهداء أحد فصلّى عليهم.

بعد ثمانية أعوام الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)... قائد الأمة يخرج بنفسه إلى زيارة شهداء اُحد والصلاة عليهم.

ماذا يعني هذا السلوك؟

5- الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قام أيضاً بزيارة قبر أمه آمنة بنت وهب (عليها السلام) وفوق ذلك فان قائد وقدوة وأسوة الأمة:

بكى هو...

وأبكى مَنْ حوله...

وهذا رواه مسلم أيضاً في صحيحه.

ولعلّ بعض مَنْ ذهبَ إلى خلاف المشهور المحكم بين المسلمين عامة إلى غير ذلك، لَمْ ينظر لسبب أو آخر فيما يُروى عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله):

(نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)

الذي رواه مسلم في صحيحه عن بريده، ورواه أحمد والنسائي أيضاً مع إضافة:

(فمَنْ أرادَ أن يزورَ فليزر ولا تقولوا هجراً)

كما هو مذكور في كتاب كشف الأسرار للأحناف (ومتنه للبزودي في الجزء الثالث الصحفة 186) مع إختلاف يسير في النص، مما يستدل به البعض كمثال على جواز نسخ السُّنة بالسُّنة.

علماً أن المنع المسنوخ المستقى من الرواية الأخيرة يرتبط بعموم القبور فلا منع في السُّنة من زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) - الذي خدش فيه أيضاً البعضُ وخلافاً للمشهور أيضاً - أو الإمام الحسين أو بقية الأئمة الطاهرين من أهل بيته (عليهم السلام) أو الصالحين، بل هناك روايات ثابتة تؤكد ذلك، وتنص على رجحان ذلك وثوابه العظيم بصورة خاصة.

وقد حسمَ عبد الرحمن الـجُزيري الأمرَ في الدليل والأحاديث الواردة بشأن زيارة قبر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في كتابه الفقه على المذاهب الأربعة في الجزء 1 الصفحات 394-396 - كتاب الحج- تحت عنوان زيارة قبر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله):

(لا ريب في أن زيارة قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام من أعظم القُرب، وأجلّها شأناً، فإن بقعة ضمنت خير الرسل وأكرمهم عند الله لها شأن خاص، ومزية يعجز القلم عن وصفها...، وما كان لقادر أن يصل إلى مكة، ولا يزور المدينة، ويستمتع بمشاهدة أماكن مهبط الوحي، ومنبع الدين الحنيف، أما ما ورد من الأحاديث في زيارتها فسواء كان سنده صحيحاً أو لا، فإنه في الواقع لا حاجة إليه بعد ما بينا من زيارتها ومحاسنها التي يقرها الدينُ، وتحث عليها قواعده العامة... هذا وقد بين الفقهاء آداب زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وزيارة المساجد الأخرى على الوجه الآتي... ويستحب بعد زيارته عليه السلام أن يخرج إلى البقيع، ويأتي المشاهد والمزارات فيزور العباس ومعه الحسن بن علي و...، ويستحب أن يزور شهداء اُحد يوم الخميس، خصوصاً قبر سيد الشهداء سيدنا الحمزة ويقول: (سلام عليكم بما صبرتُم فنِعمَ عُقبى الدار) - الرعد الآية 24- وإذا أراد الرجوع إلى بلده استحب له أن يودع المسجد بركعتين، ويدعو بما أحبَّ ويأتي قبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعو بما شاء والله مجيب الدعاء).

وإلى هنا نكون قد أشرنا - وعلى سبيل المثال- إستناد زيارة القبور عموماً، والقبر الشريف للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والإمام الحسين وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) والصالحين والسائرين على سيرتهم إلى السُّنة النبوية ومن باب أولى، وهو ما عليه المسلمون جميعاً، وبطرق وأسانيد غير الشيعة، وعرضنا ما اختاره الجزيري في الفقه على المذاهب الأربعة في الإستدلال لزيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في القول بأنه لا حاجة إلى الأحاديث في زيارة قبره بعد معرفة فوائدها ومحاسنها التي يقرها الدين، وتحث عليها قواعد الدين وكأنه يريد أن يقول بأن العقل يحكم بذلك إلى جانب القواعد الدينية بغض النظر عن الأحاديث والروايات التي أخذ بها الفقهاء وبما يُفصلها حيث بيّنوا آداب زيارة قبره (صلى الله عليه وآله).

فهلْ هناك مَنْ ينكر الفوائدَ والمحاسنَ التي تترتب للزائر على زيارته لمرقد الإمام الحسين (عليه السلام)؟

وهل يمكن لنفس قواعد الدين أن لا تحث على هذه الزيارة أيضاً، مع ما للإمام الحسين (عليه السلام) مِن مقام وعطاء وتضحية وإخلاص للدين وخلوص لله؟

هذا إضافة إلى النصوص والروايات الثابتة الخاصة طبعاً.

وكيف يمكن ذلك؟

والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال:

1- (حسين مني، وأنا مِن حسين، أحب اللهُ مَنْ أحب حسيناً، حسين سبط مِن الأسباط)

كما روى ذلك الترمذي في صحيحه.

2- (مَنْ أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومَن أبغضهما فقد أبغضني)

كما روى ذلك أحمد بن حنبل في مسنده (الجزء الثاني - الصفحة 288)

3- ومثله، مع اختلاف يسير في اللفظ، وإضافة في مستدرك الصحيحين (الجزء الثالث - الصفحة 166) وقال بعد روايته للحديث:

هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين.

وللمسلم أن يسأل ويتدبر:

ماذا يعني الحديث النبوي الشريف:

حسين مني وأنا من حسين.

هل يُعقل أن يخرج قائد عادي ولو لمرّة واحدة ليخاطب الشعبَ قائلاً:

إن ابن بنتي هذا هو مني، وأنا منه!!؟

فكيفْ بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وكلامه كلّه من الوحي ولا ينطق عن الهوى؟

لابد أن يكون للحديث مدلول بل مداليل كبيرة وكثيرة.

لماذا هذا الربط بين حبّ النبي (صلى الله عليه وآله)، وحبّ ابن بنته الحسين بن علي (عليهم السلام)؟

لماذا يحب اللهُ مَنْ أحبَّ الحسينَ (عليه السلام) طبقاً لنص الحديث النبوي الشريف؟

هل يمكن - والعياذ بالله - أن يكون هذا التأكيد النبوي نابعاً من القرابة والنسب والعاطفة؟

وإذا كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) دعى وألزم المسلمين بحبِّ الحسين (عليه السلام): فما هي لوازم هذا الحب؟

أليس الالتزام بالشيء التزام بلوازمه كما في القاعدة؟

وإذا كان المسلمُ قد أقرَّ بحبه لابن بنت الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

فما الذي يترتبُ على هذا الإقرار؟

أليس الإقرار بالشيء إقرار بلوازمه؟

ما هي وسائل تعبير المسلم عن حبّه هذا الذي زرعه وأكدَّ عليه الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

هلْ يُعقل حصر هذا الحبّ في القلبِ دون أن يُترجم إلى أفعال وأعمال وشعائر؟

وهلْ يمكن عقلاً أن يزرع هذا الحبَّ وينشره ويؤكد عليه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مِن جهة، ويمنعُ من جهة ثانية التعبيرَ عن هذا الحبّ، أو لا يخطط ويرسم معالِمَ ووسائل التعبير عن هذا الحبّ؟

هذا الحبّ الذي اُريد به حفظ الدين واستمراريته وحيويته وصيانته من أي انحراف وتحريف، مضافاً ما للإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) من مقام ومنـزلة ومكانة عند الله عز وجل، لإخلاصه وإرتباطه بالله وشريعته وتفانيه لحفظ هذا الدين... وهذه الشريعة.

أجلْ لقد رسم الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) معالم شعائر هذا الحبّ للمسلمين، ومارسها بنفسه وعلى سبيل المثال - لا الحصر أيضاً- نذكر مأتماً وعزاءاً أقامه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وكما في كتاب أعلام النبوة للشيخ علي بن محمد الماوردي الشافعي - الصفحة 83 - الطبعة المصرية:

قال: ما رواه عروة عن عائشة قالت:

(دخل الحسين بن علي - عليه السلام - على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يوحى إليه، قبرك على ظهره، وهو منكب، ولعب على ظهره.

فقال جبرائيل: يا محمد، إن أمتك ستفتن بعدك، وتقتلُ ابنك هذا من بعدك، ومدَّ يعده فأتاه بتربة بيضاء، وقال:

في هذه الأرض يُقتل ابنك، اسمها الطف.

فلما ذهبَ جبرئيل خرجَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) إلى أصحابه والتربة في يده، وفيهم أبو بكر وعمر وعلي وحذيفة وعمار وأبو ذر وهو يبكي.

فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟

فقال: أخبرني جبرئيل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة، فأخبرني أن فيها مضجعه)

وذلك مما نقله العلامة السيد محسن الأمين العاملي (رحمه الله) عن كتاب أعلام النبوة المذكور آنفاً في كتابه: إقناع اللائم على إقامة المآتم - الصفحة 30 - علماً أن الحديث النبوي هذا مذكور أيضاً في كتب عديدة أخرى مع اختلاف في اللفظ لا يضر بالأصل وبأسانيد متعددة منها مسند أحمد بن حنبل الجزء 3 الصفحة 242.

وعلّق العلامة العاملي على الحديث المتقدم المروي عن عائشة قائلاً:

(ولابد أن يكون الصحابة لما رأوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبكي لقتل ولده وتربته بيده، وأخبرهم بما أخبره جبرئيل من قتله، وأراهم التربة التي جاء بها جبرئيل، أخذتهم الرقة الشديدة فبكوا لبكائه، وواسوه في الحزن على ولده، فإن ذلك مما يبعث على أشد الحزن والبكاء، لو كانت هذه الواقعة مع غير النبي (صلى الله عليه وآله) والصحابة، فكيفً بهم معه، فهذا أول مأتم أقيم على الحسين (عليه السلام) يشبه مآتمنا التي تقام عليه، وكان الذاكر فيه للمصيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمستمعون أصحابه).

هذا جذور الشعائر الحسينية في السُنة النبوية الشريفة.

هذه أسس ومعالم عاشوراء في السُنة النبوية الشريفة.

أجل عاشوراء بشعائرها ومآتمها من السُّنة، وليست السُّنة النبوية الشريفة فقط في بقاءها وبحيويتها وبديناميكيتها مِن عاشوراء، بلْ بقاء الإسلام وحيويته وإستمراريته مِن عاشوراء، رمز الإصلاح والتصحيح السلِّمي الذي قلبه الإرهابُ الأموي إلى مجزرة دموية أرهبت الإرهاب نفسه وأجهضت كلَّ محاولات التحريف والتغيّب لقيمّ ومُثل ديننا الإسلامي الحنيف.

شبكة النبأ المعلوماتية / ملف عاشوراء 1426هـ