واقعة الطف.. الملحمة الخالدة التي على الرغم من مرور أكثر من ألف
عام على حدوثها، ظلت طرية ومتجددة وكأنها قد حدثت للتو.. هذا ما
تؤكده جميع الكتابات التي تناولت هذه المأساة الإنسانية سواء تعاطت
هذه الكتابات معها من الزاوية التاريخية أو الإنسانية أو الأخلاقية
أو الأدبية أو غير ذلك من الزوايا.
وتعود هذه الظاهرة في واقعة الطف إلى عدة أسباب أسهب فيها
الباحثون والمؤرخون والكتاب، تأتي في مقدمتها بشاعة الحدث ومأساويته،
وشمولية هذه الواقعة للعديد من الأبعاد الحياتية، وقيام الحالة
الثورية على واقع الظلم والطغيان. ولعل هذه الأسباب وغيرها بطبيعة
الحال هي ما جعلت من واقعة الطف مثار اهتمام مختلف الشرائح
والانتماءات الفكرية والعقائدية، فتحدث فيها المسلم والمسيحي
واليهودي وغيرهم، كما تحدث فيها المؤرخ والمفكر والتربوي والباحث
وعالم الدين وغيرهم. فالأديب، مثلاً، رآها مصدر إثراء للشعر والنثر،
ورآها المؤرخ نقطة تحول في أحداث التاريخ وصراع القوميات، ورآها عالم
الدين نقطة ارتكاز للعقيدة ورفض للمعتقدات الشاذة واستغلال الدين
لتحقيق المصالح والمكسبات الدنيوية والسياسية، ورآها عالم الاجتماع
نقطة تمايز اجتماعي وانقسامات وتجمعات اجتماعية، ورآها السياسي مدرسة
للتخطيط والتنظيم الإداري، ورآها العوام مبعثاً للطاقة والعزيمة في
المطالبة بالحقوق والثورة على الظلم والالتزام بالمبادئ.. وهكذا.
واتفقت جميع هذه الشرائح والفئات على أن واقعة الطف عبارة عن مأساة
إنسانية حقيقية حملت في طياتها بُعدين اثنين، اتفق الجميع على الأول
منهما وهو البعد العاطفي، فيما تباينوا في البعد الآخر، فالمؤرخ رآه
بعداً تاريخياً، وعالم الدين رآه بعداً عقائدياً، والأديب رآه بعداً
أدبياً، والتربوي رآه بعداً تربوياً..
وفي الواقع، لا يوجد أي تضارب بين جميع هذه الرؤى، فمأساة كربلاء
كانت حدثاً شمولياً بكل معاني الكلمة، غير أن كل ذي اختصاص رآها من
واقع اختصاصه، إلى جانب إنسانيته التي لم تترك له الخيار في اعتبارها
مأساة إنسانية، أو بمعنى آخر لم تتح له الفرصة لتجاهل البعد العاطفي
في هذه المأساة. وفي تقديري الشخصي، فإن مثل هذا الاتجاه ساهم في
تعزيز الاستفادة من هذا الحدث التاريخي الإنساني في جميع المجالات
الحياتية، أي أنه اتجاه إيجابي وليس سلبياً على الإطلاق.
وعلى الرغم من إدراك العديد من الفعاليات الدينية والفكرية لهذا
الأمر، إلا أننا لا نزال نعيش واقع افتقار المكتبة الإسلامية
والتربوية للإصدارات التي تستخرج الدروس التربوية والأخلاقية من بين
ثنايا هذه الواقعة وتصوغها في قوالب تتماشى والذهنية العامة وتتناسب
ولغة العصر الذي نعيش فيه لتعمل من خلالها على بناء النفس الإنسانية
بناء سليماً بعيداً عن الاعتلال، سعياً وراء خلق مجتمع يسمو بذاته
وكيانه، ويحتفظ لنفسه بهوية تميزه عن باقي المجتمعات الإنسانية.
إن هذا الإرث الضخم الذي خلفه لنا الحسين وأهل بيته وأصحابه عليهم
جميعاً أفضل الصلاة وأزكى السلام، وسطروا صفحاته بدمائهم الزكية
الطاهرة، ليس مجرد إرث تاريخي، وليس مجرد إرث أدبي، وليس مجرد إرث
ديني، وإنما هو إرث تربوي بالدرجة الأولى.. وهذا يعني أن واقعة
كربلاء هي في الواقع مدرسة تربوية لا تنحصر في دين أو مذهب أو تيار
مُعيَّن، فهي مَعينٌ تنهل منه النفس البشرية بغض النظر عن انتمائها،
لأن فيه ما يسمو بهذه النفس باعتبارها نفساً إنسانية، لا باعتبارها
نفساً إسلامية. وهذا المعنى يمكن أن نستقيه من قوله عليه السلام وهو
يخاطب جيشاً عرمرم اجتمع من كل حدب وصوب لقتله أو إذلاله: "أيها
الناس، إن لم يكن لكم دين، فكونوا أحراراً في دنياكم"..
هذه العمومية في خطاب الحسين عليه السلام، وكذلك هي الحال في ما
اشتملت عليه هذه الواقعة من خطب وعبارات وحوارات، تدلل بما لا يترك
مجالاً للشك على عمومية ثورة الحسين عليه السلام، وبالتالي عمومية
الخطاب الوجداني في هذه الثورة الخالدة. فإذا ما سلمنا بهذه
العمومية، توجب علينا أن نسلم بضرورة استقصاء الدروس التربوية والقيم
الفاضلة التي تضمنتها ثورة الحسين، وليس فقط حادثة يوم العاشر من
المحرم، بما يسهم في تعزيز حالة السمو النفسي على المستويين الفردي
والاجتماعي. ولتحقيق ذلك، فإنه لابد من البدء في الحصر النوعي لهذا
التراث التربوي والأخلاقي، ومن ثم إعادة صياغته في عدة قوالب يتم
توجيهها لمختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية بدئاً بالطفل
وانتهاءً بالشيخ والعجوز.
وفي إطار هذا العمل، فإنه لابد من التركيز على مرحلة الطفولة على
اعتبارها مرحلة التأسيس والبناء. وهذا يقتضي بالضرورة الالتفات إلى
عدة أمور، أبرزها:
التنوع في أساليب العرض كالقصة والمسرح والكتاب والرسوم.. الخ.
التدرج في مستويات العرض، بحيث يتم الانتقال من البساطة إلى
التعقيد، ومن العمومية إلى التحديد، ومن الإطلاق إلى التخصيص، بشكل
تدريجي ومنظم.
البرمجة والتنظيم بحيث تصب الجهود المتفرقة في إطار واحد.
تناسب العرض مع سن الطفل.
إشراك الطفل في عملية الصياغة أو التنفيذ.
الابتعاد عن الأساليب التقليدية في التعليم والتوجيه، والتي تعتمد
بالأساس على التلقين الجامد، واستبدالها بالأساليب التي تجعل من
المتلقي مركزاً للتعلم فيما يتحول المربي والمعلم أو الخطيب إلى محفز
للعملية التعليمية.
استثمار الطبيعة التكوينية للطفل والغرائز النشطة لديه، كحب
الاستطلاع والاستكشاف، والفضول، والرغبة في إثبات الذات.. وغيرها، في
ترسيخ القيم الأخلاقية ونتاج الدروس التربوية لواقعة الطف في نفس
الطفل، وتوطيد علاقته بها بدل تحويلها إلى مجرد حادثة مأساوية أليمة،
وذلك من خلال إشراكه في العمل على اختلاف مستوياته ومراحله.
توظيف الصورة والنص من خلال المسرحة الجزئية لأحداث كربلاء مسرحة
تربوية وليس مسرحة تاريخية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال التركيز على
جزئيات من الصورة الكلية عوضاً عن السرد التاريخي للحدث. فعلى سبيل
المثال لا الحصر، من خلال استعراض سيرة بعض شخصيات كربلاء كرقية بنت
الحسين مثلاً وبيان طبيعة ونوعية العلاقة بينها وأبويها والمحيطين
بها من أقارب وأصحاب، وما تتحلى به من خلق رفيع، يمكن خلق صورة
نموذجية للطفل، وإيجاد القدوة التي يمكن أن يرى الطفل من خلالها رأي
العين الصورة المثلى التي ينبغي أن يكون عليها.
تفعيل الآثار الإيجابية لواقعة كربلاء من خلال إبراز الشخصيات
القدوة على السطح، لتبدأ شخصية "رقية" و "القاسم" مثلاً في الحلول
محل "سوبرمان" و"ساندي بل" وغيرها من الشخصيات التي لا نكاد نجد
طفلاً لا يحفظ قصصهم عن ظهر قلب. وليبدأ الطفل في التعلق بالصلاة
وإظهار الاحترام والتعفف تشبهاً برقية والقاسم، بدل وضع عباءة على
ظهره والصعود إلى سطح المنزل ليلقي بنفسه من أعلى في محاولة لتقليد
سوبرمان الطائر، أو القفز كسوبر ماريو..
كما ينبغي أيضاً، الالتفات إلى ضرورة إشراك التربويين والمختصين
في إعداد وتنفيذ العمل سواء كان هذا العمل مسرحية أو قصة أو كتاباً
أو عملاً سينمائياً. فلا يكفي في اعتقادنا أن يقوم كاتب قصصي، مثلاً،
مهما كانت براعته في الكتابة ودرجة إتقانه لهذا الفن، بكتابة قصة
كربلائية دون الاستعانة بأحد التربويين، كما لا يكفي أن يقوم التربوي
بهذا العمل بصورة مفردة. فالكاتب القصصي سيكون حتماً حريصاً أشد
الحرص على ما يصطلح عليه البعض بـ"الحبكة الدرامية" و "الترابط
القصصي" و "تسلسل الأحداث"، وهذا أمر مطلوب، بينما قد لا يتمكن هذا
الكاتب من تحديد الأهداف والدروس التربوية الواجب التركيز عليها في
العرض، مما يضفي الطابع القصصي على العمل فيما يغيب عنه البعد
التربوي. وفي المقابل، قد يستطيع التربوي تحديد هذه الدروس، غير أنه
لا يكون بالضرورة قادراً على صياغتها في قالب يناسب الطفل ويرغبه في
العرض بحيث تتغلغل تأثيرات أحداث تلك القصة في نفس الطفل، فتترجم إلى
سلوك واقعي لدى الطفل. فالمطلوب إذن هو التحول من العمل الفردي إلى
العمل الجماعي الذي يكفل تحقيق الهدف العام من هذا العمل، قصة كان أو
مسرحية أو غير ذلك.
ولتحقيق ذلك، فإنه لابد من العمل على تطوير أداء المنبر الحسيني
بحيث يتحول من التركيز على العاطفة إلى التركيز على استخراج العِبر
والدروس، وعرضها في قوالب منطقية تشتمل على عنصر الإثارة والتأثير في
ذات الوقت، مما سيكون له الأثر البارز في تسخير الطاقات الفردية
لإنجاز عمل جماعي متميز.
إننا اليوم في أمس الحاجة للبدء الفوري في هذا الاتجاه الذي
تأخرنا فيه كثيراً، لنبدأ فعلياً في إزالة تلك الترسبات السلبية في
نفوس أبنائنا وملء تلك الفراغات بالقيم الأخلاقية الفاضلة بما يخلق
في ذات الفرد حاجزاً منيعاً وحافزاً قوياً لمواجهة ما يتهدد
مجتمعاتنا من مخاطر أخلاقية وانحلال أخلاقي وابتعاد عن القيم
الإنسانية التي كانت المنطلق الذي انطلق منه الرسول الأكرم (ص) في
نشر الثقافة الإسلامية وتعزيز أركان تلك الحضارة التي امتدت في مشارق
الأرض ومغاربها. |