الفراتُ الظاميء جاء لاهثاً يخترق السنينَ والبقاعَ
يبحثُ عَنْ سَقَّاءِهِ المَوْعود. جاء يوزِّعُ الحياةَ على جانِبَيْه وهو
ظَامٍ يتَلَهَّفُ شَوقَاً لساقي العُطاشى... وأخيراً رآه... رآه بدراً
ساحراً يتلألأ في سماء الطفوف وقطراتُ النورِ تنسكب على ذوائبِهِ ووجنتيه .
رآه يحمل الصارمَ والجودَ والسماءُ تُديرُ نجومَها عليهما فَعَلِمَ أنهُ
وصَلَ إلى غايته فتجارى بين يديه... وابتدأت النجوى.
الفرات: يتمتم خاشِعاً بين يدي أبي الفَضل
مِنْ عُصُورٍ غابِراتٍ *** وأَنا أَسْعَى إليكْ
بَرْعَمَ الدَرْبُ حَياةً *** حِينَ دَلاَّني
عليكْ
أنا يا عَبَّاسُ آمَالٌ *** بَفَجْرَي
مُقْلَتَيْكْ
سَكَبَتْها الشَمْسُ دِفْئاً *** وضِياءً في
يَدَيْكْ
أنا نَزْفٌ مِنْ سِنِينٍ *** سَبَّحَتْ في
وَدَجَيكْ
ضَعْ عُروقي وعُيُوني *** تحتَ مَسْرى قَدَميكْ
عِندَها يَخفِقُ دَفْقِي
*** قُبَلاً في ضِفَّتيكْ
وينادي أنت ظامٍ *** خُذْ وبلِّلْ شَفَتَيكْ
وارتويني
***
أنا يا مولاي وِرْدٌ ***
يَتَمَنَّاكَ فَمَا
أنا طِفْلٌ جَاءَ يحبو *** وبِزَنْدَيْكَ ارتمى
أنا جُرْحٌ ورَعِيْفٌ *** غَارَ لكِن عِنْدَما
جَسَّ معناكَ مَداهُ *** قد تطامَى وهَمَى
وغدا يفْرِشُ بالنَجـْ *** مِ مَدَاراتَ السَما
ودُروبَ العِزِّ غَيثَاً
*** ودُمُوعَاً ودِما
فَسَقى كُلَّ عُطَاشا *** ه ُولكن كُلَّما
جَاءَ سَقَّاءَ العُطاشى *** عادَ يشْكوهُ
الظَما
يامَعيني
جئتُكَ اليومَ ووِرْدِي ***
حائِرٌ بين الفَلاةْ
وزَّع العُمرَ بشَطَّيهِ *** ولم يدري الحياةْ
ها أنا جئتُك وَجْداً *** وهُياماً وصَلاةْ
ها أنا جئتُكَ أبكي *** وعلى إثْرِي البُكاةْ
أرسلتني لكَ أشوا *** قٌ وآمالٌ ظُمَاةْ
بَعَثَتها في مَسِيلي *** لكَ أرواحُ الأُباةْ
بين كَفَّيكَ تُلَبِّي *** فتُلَّبي القَطَراتْ
أنا يامولايَ عَبْدٌ *** أنا مَولاكَ الفُراتْ
يا سَفيني
أبو الفضل: ينحني ويَمَسَح برِفقٍ على ناصيةِ الفرات
ها أنا جئتُ فأَوْقِفْ ***
وَسْطَ مَجْراكَ المَسيلْ
أنا سَقَّاءُ العُطاشى *** أنا رَوَّاءُ
الغَلِيْلْ
أنا بَدْرٌ في سِرَاطٍ *** صارَ للفَضلِ دليلْ
أنا جُودٌ وعَطاءٌ *** وهَدِيرٌ وصَلِيْلْ
هاكَ يُمنايَ ترَشَّفْ *** فالكراماتُ تسيلْ
صُفَّ قطراتِكَ حَولي *** فأنا كَفُّ الجليلْ
وأنا عَزمٌ عليهِ *** يتفَرَّى المُسْتَحِيلْ
ووجودٌ في هَوَاهُ *** سِدْرَةُ الخُلدِ تميلْ
فاهتديني
إنني يا نَهْرُ بأسٌ ***
في مَدَى المَجْدِ قِرَاهْ
حُلَّ أزرارَ فؤادِي *** ستَرَى الدِرْعَ
وَرَاهْ
ها هُنا عَزْمٌ بَعيدٌ *** أتْعَبَ الليلَ
سُرَاهْ
عجِزَ الدربُ ولَمَّا *** يُدركِ النَجمُ ثَراهْ
فإذا الجوزاءُ سَهْرَى *** ترتَجِي فَجْرَ
كَرَاهْ
علَّهُ يطلُعُ يوماً *** فيراها وتَراهْ
فأنا مَسْرَبُ نورٍ ***
لكنِ البغيُ فَرَاهْ
وأنا دُرَّةُ عِقدٍ *** فصمَ الدهرُ عُراهْ
فارتجيني
سَوفَ أَهْدِيْكَ يَقيني ***
وأَنا الصَلْبُ اليَقِينْ
وأُغَادِيكَ لِفَتْحي *** وأنا وِتْرُ السِنينْ
سترى الجيشَ حصيداً *** في رَحى هاتي اليدَينْ
وسَأَذْرُوهُ هَشيمَاً ***
وأنا شِبْلُ البَطينْ
وأنا مَوتُ المنايا *** وأنا لَيثُ العرينْ
وإذا عزَّ فِداءٌ ***
ودَنى النصرُ المُبينْ
سوف أُعْطيكَ سِقائي *** ويَساري واليَمينْ
وأُرَوِّيكَ نَجِيعي *** من جبِيني والوَتِينْ
أوعُيوني
الفرات: يتوسلُ للعباسِ أن يشرب وهو يراه يرمق
الأفقَ البعيدَ بعينيه الدامعتين
دونَكَ الماءُ ألا اشربْ ***
يا سِراجَ الداجِيَةْ
كُلُّ ذرّاتيَ ثغْرٌ *** وشِفاهٌ ذاويَةْ
تمتمَتْ حَولَكَ تدعوا *** وهي ذَبْلَى
صَادِيَةْ
ما لِعَينيكَ تَشَظَّى *** نحو تلك الناحيَةْ؟
مابها روحُكَ ترنو *** للقِفارِ القاصِيَةْ؟
مابِها تلكَ الرَوابي *** والخيامِ النائِيَةْ؟
سيِّدي كَفُّكَ تبكي *** ودمُوعي الجاريةْ
ولَظَى قلبِكَ يغلي *** ومياهي الظامِيَةْ
ياحنيني
إن تَكُن تَعشَقُ غيري ***
فاشربِ الماءَ ورُوحْ
لا تغِبْ عَنـِّيَ صادٍ *** والظَما فيكَ ينوحْ
عُبَّني يا فَيءَ عُمْرِي *** فَعَلَى الطَفِّ
تلوحْ
رايَةُ النصرِِ وشَمْسٌ *** ونجومٌ وصُروحْ
وعلى الأُفْقِ استطالت
*** منك للفتحِ فتوحْ
تَخِذَت إسمَكَ وِرداً ***
وندى النزفِ مُسوحْ
عُبَّني واشربْ قليلاً *** تترَجَّاكَ الجُروحْ
كَمْ ثُغورٍ فيكَ مِنها *** تتسَلَّى وتَبوحْ
يا أنيني
أبو الفضل: يجيب والماءُ يتصابب من يده على صدر
الفرات
أُنظُرِ الماءَ بِكَفِّي ***
ودُمُوعِي السَاجِمَةْ
تتجارى فوقَ خَدِّي *** وجِراحي الباسِمَةْ
قَسَماً لن أتَرَوَّى *** فشِفاهي الصائِمَةْ
لم تزل تَذْكُرُ طِفْلاً *** أَذْبَلَ الجَدْبُ
فَمَهْ
وأنا بينَ رِماحٍ *** وسِهامٍ ناقِمَةْ
من يَدِ الحِقدِ ابتِداها *** وضُلوعي
الخاتِمَةْ
وأخي بين ضُلوعي *** نبَضَاتٍ عارِمَةْ
فهو يجري في عُروقي *** عَبْرَةً من فاطِمَةْ
تنتخيني
هيَ ذِي في الأُفقِ تنعى ***
وَلَدِي ظَلَّ ظَمِي
طَلَّ مَعْصُومَ دِمَاهُ *** ظَالِمٌ طَلَّ دَمي
بين عينيهِ وعَيني *** لَطْمَةٌ مِنْ قـِدَمِ
بأَيَادٍ و سُيوفٍ *** نُقِعَت في النِقَمِ
ولَهيبٌ قد رآه ***
يصطلي في حَرَمي
شَبَّ موتورُ لظاهُ *** بين تِلكَ الخِيَمِ
إيهِ عبَّاسُ تَعَجَّل *** بالسِقَا والعلَمِ
واسقِهِ يا نورَ عيني *** دمعَةً من دِيـَمِي
واجنينني
أبو الفضل يخرج مُغْضِبَاً للميدان ويَدُه على
الصارمِ وعينه على الجود وصوته يُُرْعِدُ فغي الميدان:
ها أنا جئتُ سيوفَاً ***
مزِّقيني يا سُيوفْ
وتَحَدَّرتُ حُتوفَاً *** فخُذيني يا حُتوفْ
أشرِعي سُمْرَكِ حولي *** وارتَويني يا أُلوفْ
فعلى جِيْدِيَ جودٌ *** دَمْعُهُ هَلَّ ذَروفْ
سأُفَدِّيـْهِ بصدري *** وعيوني والكُفوفْ
عَلَّني أسقي يتامىً *** حول مولايَ تطوفْ
وإذا خَرَّ شِهابي *** وطوى بدري الخُسوفْ
أَتـْرِعِي نـَبْلَكِ مني *** واترُكيهِ يا
طُفوفْ
وخذيني
الفُرات: يتمتم وقَطَراتُهُ تتطاول لتلاحق العباس
وقد غاب في الميدان
غابَ في سُوْحِ المنايا ***
ما أرى الليثَ يَعُودْ
صيَّرَ الحربَ جحيماً *** ودَمُ الجيشِ وَقُودْ
تَرَكَ الفُرسانَ صَرعَى *** وتناهَى في
الصُعُودْ
رَكَعَ السيفُ لديهِ *** فإذا القومُ سُجودْ
ضَجَّت الأرضُ تُلَّبي *** والسماواتُ شُهودْ
أغمدِ البتارَ حسبي *** مُلِئَتْ فِيَّ اللُحودْ
ولقد عَجَّ أديمي *** وسُفوحي والنُجودْ
يا إلهي صُنْ سِقاهُ *** والمآقي والزنودْ
يا مُعيني
القَطرات تلطم صدر الفرات وهي تصف مصرع القمر
يا إلهي احتوشوه ***
وَدَنَتْ ساعَتُهُ
بَتَروا يُمْنَاهُ جَوْراً *** وانبَرَت
يُسرَتُهُ
واستداروا يطعنوهُ *** وانطَوَت رايَتُهُ
وأصابوهُ بِسَهمٍ *** فانْطَفَتْ مُقْلَتُهُ
وتوالى النَبْلُ لكن *** ما جَرَت عَبْرَتُهُ
دَمَعَتْ عَيْنَاهُ لَمَّا *** مُزِقَتْ
قِرْبَتُهُ
فإذا البدرُ هِلالاً *** مُذ بَدَت غُرَّتـُهُ
ضَرَبوهُ بِعَمودٍ، *** هُشِّمَتْ هَامَتُهُ
واطَعيني
خَرَّ بَدرُ التَمِّ مُدْمَىً
*** فاندُبيهِ يا بُدورْ
خاطِفُ الأرواحِ أهْوَى *** فاحضنيهِ يا قُبورْ
صارَ رَبـْعُ الخصبِ جَدْبَاً *** فلتموتي يا
جُذورْ
عادَ بحرُ الجُودِ غَوْراً *** فلتَغوري يا
بُحورْ
فحَكايا الوِرْدِ ماتت *** وانمَحتْ منها
السطورْ
صَرَّ عَصْفُ المَوتِ فيها *** فتنادَت
بالثُبورْ
تندُبُ الشِلْوَ المُدَمَّى *** حَوْلَ
مهتوكِ السُتورْ:
يا يتامى يا أيامى *** راحَ حَمَّايُ الخُدورْ
واضميني
جَفَّ مَبْكاهُ يَرَاعِي ***
وانكَفا حِبْرُ الدَواةْ
وذَوَى الحَرْفُ كَئِيْباً *** حَائِراً وَسْطَ
اللُهاةْ
كيفَ صارَ الأُفقُ خَسْفَاً *** تستوي فيهِ
الجِهاتْ؟
ومَدَىً كان مُغِذَّاً *** كيف تُدْمِيهِ
الرُمَاةْ؟
وبُغاثُ السَفحِ قُل لي *** كيف تصطادُ
البُزاةْ؟
والجبالُ الشُمُّ بأساً *** كيفَ تُردِيها
الحَصاةْ؟
صَدِّقِي أو كَذِّبِيني
*** يا تراتيلَ الرواةْ
ماتَ سَقَّاءُ العُطاشى *** ظامِئَاً عندَ
الفُراتْ
--------------------------
ماتَ سَقَّاءُ العُطاشى ***
ظامِئَاً عندَ الفُراتْ
|