نبض الإنسانية الخالد..

عودة إلى صفحة عاشوراء >>

المرجعية الدينية

شارك في الكتابة

مجلة النبأ

الصفحة الرئيسية

 
 

اين أعراسنا من موكب عرس زينب عليها السلام؟!

هشام محمد الحرك

بعد حقبة من الأعوام، ورغم تعاسة الأيام، فقد شبت زينب، وبلغت مبلغ النساء، وبزغ اسمها على لسان أسرتها، وعرفت بالعقيلة أو عقيلة بني هاشم، لأنها كريمة قومها، وعزيزة بيتها، وألحّ الطالبون يدها على أبيها، وهي حفيدة الرسول، وابنة علي، ووريثة الزهراء، وأخت الحسنين، وأيّ فضل أكثر من هذا، وقدراً أعلى من هذا.. وقد روى عمر بن الخطاب مرة قائلاً: (سمعت رسول الله يقول: كل سبب ونسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري).إذاً فليس غريباً أن يتقدم إليها - كما يتحدث الراوون - الأشعث بن قيس، من رؤساء كندة، ويطلب يدها من أبيها الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)...وقالوا عنه: (رغم أنه كان فاتكاً شجاعاً قوياً، لكنه أخمل حسباً وأوضع نسباً، إذا قيس حسبه ونسبه بقريش، وإذا قيس بأهل البيت كان أكثر ضعة، ولكن الخليفة أبا بكر تلطف عليه، فقرّبه منه، وزوجه اخته أمّ فروة، فصارت للرجل بهذه المصاهرة جرأة على عظماء الرجال حتى الخلفاء).وبهذا الاعتبار تقدم من الإمام علي يخطب منه عقيلة الهاشميين لكن علياً - ولم تخف عليه نفسية الرجل - نهره قائلاً: أغرب.. أغرب.. أغرّك ابن أبي قحافة حين زوجك أم فروة.ولم تكن الكلمة يسيرة على ابن الأشعث فقال للإمام: وهل كانت إلا أخت خليفة..فردّ الإمام علي: إنها لم تكن من الفواطم والعواتك.وغضب الأشعث، ولمح لعلي بأنه لا ينسى ردّه وأنه الفاتك الشجاع.. لكن الإمام ابن أبي طالب استصغره، وأشاح بوجهه عنه وهو يرد عليه: (أبالموت تهدّدني؟ فو الله ما أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت عليَّ).وجرّ الأشعث أذيال الخيبة، وخرج من الإمام، وتوعد ان يشفي حقده منه، عندما يحين الحين. والمستقبل لهم بالمرصاد. والإمام حينما ردّ الأشعث أفهم الباقين بأن الباب موصدة أمامهم فلا يطرقها أحد بعدئذ، كما أعقب ذلك بقوله عدة مرات: (بناتنا لبنينا وبنونا لبناتنا).وهذه الصراحة كافية لأن تصدّ الطالبين يد زينب، وتوقف إلحاحهم.. إن الإمام علياً لا يغره مال، فهو يقول: (يا صفراء ويا بيضاء غرّي غيري)، ولا يعوزه جاه، ومن ذا يكون أرفع من علي قدراً وشرفاً إنما يريد (عليه السلام) لابنته الكفؤ والكفؤ عند علي ليس بالمال والجاه. وتقدم إليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - وهو الكفؤ - لعقيلة بني هاشم.. وأبعاد الكفاءة نتلمسها عند عبد الله من خلال أبويه، وقسط من سيرته، فأبوه جعفر بن أبي طالب. ويحدثنا المتحدثون بأن أبا طالب قد افتقد محمد (صلى الله عليه وآله) - وكان كافله - في إحدى الليالي، ومرّ شطر منه، ولم يعد محمد - وذلك قبل إعلان الدعوة - وقلق أبو طالب، وشاركته زوجته فاطمة بنت أسد بذلك، وساورها شيء من القلق عليه، أكثر من قلقها على ولدها علي الذي كان معه، ومر الثلث الثاني من الليل، وهدأت الأنفاس ونامت العيون، وبيت أبي طالب ساهر ينتظر رؤية محمد ولم يعد وأخذ يسأل عنه كالملهوف، انه يخشى عليه من قريش المتكالبة على حرب محمد، وصبّ الأذى عليه. ولم يهدأ أبو طالب ولم تستقر فاطمة بنت أسد، والليل يكاد يودع سمّاره، وشيخ الأبطح لم تغمض له جفن وأمر ولده جعفراً بأن يحمل سلاحه ويخرج معه ليبدأ البحث عن محمد. وعلي إلى يمينه يتبعه في حركاته يركعان ويسجدان. وخشع قلب الرجل الحنون.. وسرت الطمأنينة تدقّ أبواب نفسه الرحيمة، واسترد أنفاسه، وارتاح لهذا المنظر، وما لبث أن أخذ يد ولده جعفر، وأوقفه إلى يسار محمد، وقال له: (صل جناح ابن عمك).. وانساب الفتى اليافع مع ابن عمّه رسول الإنسانية وأخيه يركع ويسجد، حتى أكملوا جميعاً صلاتهم فالتفت الرسول إلى جعفر قائلاً: (يا جعفر، وصلت جناح ابن عمك، إن الله يعوّضك عن ذلك بجناحين تطير بهما في الجنة).وإذا اشتد سعير قريش على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) في بداية دعوته وأذاقوهم أنواع الأذى والألم، أمرهم النبي (صلى الله عليه وآله) أن يتركوا مكة ويهاجروا إلى الحبشة خوفاً على دينهم وأنفسهم، وكان جعفر من المهاجرين الأوائل إلى الحبشة ومعه زوجته أسماء بنت عميس. وإذا ما توسّع الإسلام، وأخذ يدكّ حصون المشركين عاد جعفر إلى المدينة وأقبل على رسول الله يوم فتح خيبر، فاستقبله محمد وهو يقبله ويقول له: (ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر).ودارت الأيام وجعفر يشب مع ابن عمه وينتهل من نميره ويتحلى بأخلاقه، حتى يقول فيه الرسول الأعظم: (أشبهت خلقي وخُلقي..).وجعفر كان قائد المسلمين في غزوة مؤتة وقطعت يداه في المعركة وجلّ همه أن لا تنتكس راية المسلمين، فاحتضنها بعضديه يجول بها ثم يسقط صريعاً في ساحة الشرف يدافع عن عقيدته.. ويصل الخبر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فيتأثر، وتدمع عيناه ويدعو له: (اللهم إنّ جعفراً قد قدم إليّ أحسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته).وإذا كان هذا والد عبد الله بن جعفر وبهذه المنزلة الرفيعة، وما ذلك الا قليل من كثير.

 فمن هي أمه؟.. أمه: أسماء بنت عميس الخثعمية، من المهاجرات المؤمنات هاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر لتحفظ دينها، وتصون نفسها من شر الأعداء وبعد أن استشهد جعفر وتزوجها أبو بكر فولدت له محمداً ثم تزوجها بعد ذلك الإمام علي (عليه السلام) فولدت له عوناً ويحيى. قال لها عمر بن الخطاب مرة - وهو يريد أن يحطّ من قدرها -: نعم القوم أنتم لولا أن سبقناكم إلى الهجرة. فذكرت ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: (بل لكم هجرتان: إلى أرض الحبشة، وإلى المدينة).وأسماء معروفة بالتقى والصلاح، وقد عبّر عنها الإمام الصادق (عليه السلام) بـ: (النجيبة) وترحم عليها بقوله: (رحم الله الأخوات من أهل الجنة، وعدّ أسماء في مقدمتهن).وإذا كان هذان أبويه. فمن هو؟ لقد حفلت به المصادر التاريخية، وعرفته بأنه شخصية فدّة لها مكانتها ومنزلتها. وعدّ تارة من أصحاب الرسول، وأخرى من أصحاب الإمام علي، وثالثة من أصحاب الحسن، وأخيراً من أصحاب الحسين (عليهم السلام).والكرم والجود من شمائل عبد الله، حتى لقب بـ (بحر الجود)، وقد ذكر أنه لم يكن يستحى منه، ومرّة قصده صاحب حاجة عند عمه الإمام علي (عليه السلام) أمير المؤمنين فقضاها، وما كان من صاحب الحاجة إلا أن أرسل لعبد الله مبلغاً يصل إلى أربعين ألف دينار مكافأة، فلم يسل لعابه لهذا المبلغ الضخم، بل ردّه عليه قائلاً: (إنّا لا نبيع معروفاً).

وجود ابن جعفر يفتقر إلى نهاية، فهو معطاء كريم النفس، لا يقف كرمه عند حد، وقد قال أحد الشعراء فيه:

مـــا كنـــت غلا كالأغر ابن جعفر***رأى المال لا يبقى، فأبقى له ذكــرا

وفي إخلاصه لبيت عمه الإمام علي (عليه السلام) يصل إلى حدِّ التفاني وقد حدث مرة انه كان في مجلس معاوية بن أبي سفيان، وكان يضم أيضاً عمرو بن العاص، فأشار معاوية لابن العاص أن يغمز ويلمز بعلي بن أبي طالب ليخفف بذلك عن حقده لعلي وأهل بيته.. فتكلم ابن العاص ونال من علي (عليه السلام) وثلبه، ومس به دون رحمة. فانتفض عبد الله وانفجر عليه أمام معاوية بما أسكته، واضطر معاوية أن يحاول إرضاء ابن جعفر فقال: يا ابن جعفر أقسمت عليك لتجلس لعن الله من أخرج ضبّ صدرك من وجاره، فلو لم يكن مجدك ومنصبك لكان خلقك وخلقك شافعين لك إلينا، وأنت ابن ذي الجناحين سيد بني هاشم.وثار عبد الله في وجه معاوية، وارتعدت فرائصه، وصرخ قائلاً: كلا يا معاوية، سيد بني هاشم الحسن والحسين، لا ينازعهما عليها في ذلك أحد..ويسكت معاوية على مضض، ويغصّ بريقه، ويمتقع لونه، وتبدو على وجه ابن العاص سحابة خزي دكناء، ويتبادلان النظرات فقد كان يعتقد أن ابن جعفر قد يلين، وينفر، ويتأثر، ويسيطر عليه.. لكن الظنون خابت فإن جعفراً يحمل نفس أبيه بين جنبيه، وهو مخلص يتفانى في حبّ ولدي عمّه، يراهما إمامين إن قاما أو قعدا.والتفت معاوية إلى ابن العاص - بعد أن فارق ابن جعفر مجلسه - وقال له: يا أبا عبد الله، ما تراه منعه من الكلام معك؟ قال ابن العاص: ما لا خفاء به عنك.قال معاوية أظنك تقول انه هاب جوابك، لا والله، ولكنه ازدراك، واستحقرك، ولم يرك للكلام أهلاً.. أما رأيت إقباله علي من دونك زاهداً بنفسه عنك.فقال ابن العاص: وهل لك أن تسمع ما أعددته لجوابه.قال معاوية: اذهب أبا عبد الله فلات حين جواب سائر اليوم.هذا كان عبد الله بن جعفر من جميع جوانبه إنساناً له شخصيته المرموقة ومنزلته الرفيعة..ولا غرابة إذا رأيناه يتقدم لعمه علي يطلب يد ابنة عمه زينب وعلي ينتظر الكفؤ لابنته، فيوافق على زواجه منها.كيف لا يكون ابن جعفر كفؤا، وهو ابن الطيار، وقد تربى في بيت علي، ومع الحسنين وقد سمع من النبي (صلى الله عليه وآله) وروى عنه. وأصدقها الإمام كصداق أمها فاطمة الزهراء (أربعمائة وثمانين درهما) من خالص ماله.وزفت إلى بيت ابن عمها، لتسرج فيه - بعد زمان - شموعا تضيء الدنيا بأنوارها الزاهية.

وزحفت البركة على ابن جعفر مع زينب، فوفد عليه (الرزق من المال والولد، وامتلاك الضياع وفاضت أرضه بالثمار، والغلات، ووفد أهل المدينة، وأبناء السبيل في حاجاتهم إلى بابه: باب زينب بنت الزهراء ثم مالبث أن جعل السخاء بينه وبين الأجواد سبّاقاً في إرضاء العلي، واهلاك المال، فسبقهم جميعاً، فسماه الناس - بحر الجود -).ولم تحاول عقيلة بني هاشم أن تمنع زوجها السخي من سبيل السخاء ولم تحاول أن تكف يده عن هذا البذل. وقد حاول الحسنان مرة، واشفاقاً عليه ان ينصحاه، عسى أن يخفف مما اعتاد من البذل والعطاء وقد يصل إلى حد الإسراف فقالا له: (إنك أسرفت في بذلك المال).فقال لهما: بأبي وأمي أنتما أنّ الله قد عوّدني أن يتفضّل علي وعودته أن اتفضّل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عني بركته..

ورغم أن زينب عاشت في بيت الزوجية، لكن الزواج لم يشغلها عن تحمل مسؤوليات بيت أبيها علي، فهي بنت الزهراء، وحفيدة خديجة وتحمل المسؤولية من خصال ربات هذا البيت.وزينب عقيلة بني هاشم، وسيدة البيت العلوي، وزعيمة القوم رغم أنها تزوجت، وانتقلت إلى بيت ابن جعفر إلا أنها لم تتخلّ عن المسؤولية، لتدبر بيت أبيها، وتهتم بشؤون أخويها وتصبح المسؤولة بهم أولاً وآخراً..


هشام محمد الحرك - مصياف - سورية