ما هو المقصود بـ(بِالْعَدْلِ) وما هو المراد من (الْإِحْسانِ) وما هو المعيار الذي يحدد لنا كلّاً منهما؟ وما هو المرجع الذي نلجأ إليه في تشخيص المصاديق المختلفة أو المختلف فيها، وهل هذا عدل وذاك إحسان أو لا. العدل والإحسان مفهومان مجملان، لكثرة الاختلافات في تفسيرهما...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(1).
ما هو المقصود بالعدل والإحسان؟
ونحن في طور دراستنا للعدل والإحسان لا بد ان نكتشف الإجابة الدقيقة على السؤال التالي وهو: ما هو المقصود بـ(بِالْعَدْلِ) وما هو المراد من (الْإِحْسانِ) وما هو المعيار الذي يحدد لنا كلّاً منهما؟ وما هو المرجع الذي نلجأ إليه في تشخيص المصاديق المختلفة أو المختلف فيها، وهل هذا عدل وذاك إحسان أو لا.
ويمكننا الإجابة عن ذلك بان المحتملات في المقصود من هاتين المفردتين هي:
العدل والإحسان بالمعنى الشرعي
أولاً: ان المراد بالعدل والإحسان، العدل والإحسان الشرعيان، وهذا يعني ان علينا ان نرجع إلى النصوص الدينية لتحديد مفهومهما ثم لتحديد مصاديقهما، وذلك عبارة أخرى عن كونهما من الحقائق الشرعية، كالصلاة والصوم، التي تؤخذ من الشارع، ولكن لا شك في ان الشارع لم يخترع مفهوماً جديداً للعدل والإحسان، غاية الأمر انه في عالم المصاديق كشف لنا عن مصاديق كانت قد خفيت علينا أو استبعد مصاديق ظنناها عدلاً أو إحساناً فكشف عن زيف ذلك التوهم.
العدل والإحسان بالمعنى اللغوي
ثانياً: ان المراد، العدل والإحسان اللغويان، وعليه يجب ان نرجع إلى اللغة في تحديد مفهوميهما، لكن كتب اللغة لم تضطلع بهذه المهمة إلا على نحو شرح الاسم الذي ليس بالحد ولا بالفصل وبشكل واسع وفضفاض، على ان مشهور المتأخرين على ان قول اللغوي ليس بحجة خلافاً لمشهور المتقدمين كما صرح به المحقق النائيني.
وعلى كل التقادير فان اللغة لم تضطلع أبداً بالحديث عن المصاديق وتحديدها غاية الأمر ان تكون قد قامت بتحديد المفهوم.
العدل والإحسان بالمعنى الواقعي
ثالثاً: ان المراد العدل والإحسان الواقعيان، الثبوتيان، وذلك وإن كان هو الأصل في الألفاظ والمفردات إذ انها وضعت لمعانيها الثبوتية، ولكن إذا كان العدل والإحسان موضوعين للعدل والإحسان الواقعيين فما هو الطريق لاكتشاف الواقع، خاصة وان الآراء متضاربة والأنظار مختلفة؟ ولئن شئت فقل: انه إحالة على المجهول في الجملة أو إحالة على الأخفى.
العدل والإحسان بالمعنى العرفي
رابعاً: ان المراد العدل والإحسان العرفيان، ويقصد بالعرفي، العرف العام أي عرف أهل البلاد، أي عرف العالم، فكل ما رآه عامة الناس عدلاً فهو عدل وكل ما لم يروه عدلاً فليس بعدل، ولكن ما الدليل على مرجعية العرف العام في تحديد المصاديق؟، بل المشهور على خلاف ذلك، ثم ما الدليل على مرجعيتهم في تحديد المفاهيم فيما إذا اختلف ذلك التحديد مع اجتهاد الشخص نفسه أو مع قناعاته أو فيما لو اختلفت مع نصوص الشارع لو وجدت في موطن ما، ولماذا لا يكون المرجع مثلاً الوجه الآتي وهو:
العدل والإحسان بحسب العرف الخاص
خامساً: ان المراد العدل والإحسان بحسب العرف الخاص، ويراد بالعرف الخاص أحد المحتملات التالية:
أ- عُرف العلماء ولكن أي علماء؟ علماء التفسير؟ أو الفقه؟ أو علماء الاجتماع؟ أو علماء فقه اللغة؟ أو غير ذلك؟.
ب- عُرف العقلاء بما هم عقلاء.
ج- عُرف أهل مكة والمدينة لأنهم الذين نزل القرآن بلسانهم (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ)(2).
د- عُرف كل بلد، إذ الأعراف قد تختلف فالمرجع في كل بلدٍ في تحديد مفهوم اللفظ ومصداقه، هو عرف ذلك البلد، ولكن ما الدليل على ذلك؟ وألا يستلزم ذلك الفوضى والاضطراب والاختلاف؟، فهذا البلد يدّعي ان الحق هو ان العدل مفهومه كذا أو مصداقه كذا، والبلد الآخر يدعي ان الحق معه لأن العدالة تفسر بكذا أو مصداقها كذا، فإذا منحنا الشرعية لكل التفسيرات، إذ أرجعنا أهل كل بلد إلى أعرافهم، كان معنى ذلك التأسيس لشرعنة الاختلاف.
هـ- عُرف أهل كل اختصاص في مجال اختصاصهم، فالعدل والإحسان في القضايا الاقتصادية مرجعه عرف/خبراء الاقتصاد، والعدل والإحسان في القضايا السياسية مرجعه عرف السياسيين أو خبراؤهم، والعدل والإحسان في الشؤون الاجتماعية المرجع فيه علماء الاجتماع أو أهل الحل والعقد أو العشائر أو شبه ذلك.
العدل والإحسان مفهومان مجملان
سادساً: ان العدل والإحسان مفهومان مجملان، لكثرة الاختلافات في تفسيرهما، وأما على صعيد المصاديق فالإجمال أشد في كثير من المصاديق، نعم بعض المصاديق لا شك فيها ولا خلاف.
ما هو المقصود بالخبيث والطيب؟
وهذا البحث بحث سيّال وقد طرح الفقهاء عدداً من الاحتمالات السابقة في عناوين أخرى مبتلى بها فمثلاً قوله تعالى: (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ)(3) وقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)(4) فما هو المراد بالطيبات وما هو المراد بالخبائث ومن هو المرجع في تحديدهما؟
قال السيد الوالد في موسوعة الفقه: (وإنما وقع الخلاف في المراد بالخبائث، وفيها ثمانية أقوال واحتمالات:
الأول: أنّ المراد به الخبيث الشرعي، أي الذي عينه الشرع، فكل ما حرّمه الشرع فهو خبيث، وكل ما حلّله فهو طيب.
وفيه: أنّ بين المتبادر من الخبيث وبين المحرم شرعاً عموم من وجه، بالإضافة إلى أن المرجع في الموضوعات العرف واللغة، لا الشرع فقط، إلا في الموضوعات المستنبطة على إشكال في الاستثناء أيضاً.
الثاني: إن المراد به الخبيث اللغوي.
وفيه: انّ اللغة لم تحدد هذا المفهوم، بل فيه إجمال، كما لا يخفى على من راجع اللغة.
الثالث: أنّ المراد به الخبيث الواقعي الذي فيه قذارة وخباثة، ومن المعلوم أن بينه وبين الخبيث والطيب اللغوي والعرفي، عموماً من وجه.
والجواب: أنّ هذا تعريف بالأخفى.
الرابع: المراد به الخبيث العرفي وهو الذي يشمئز منه أكثر النفوس المستقيمة، ويتنفر منه غالب الطبائع السليمة.
وفيه: أنّ أكثر النفوس يتنفر من العقاقير والأدوية مع أنها ليست بمحرمة، ولا تتنفر من لحوم بعض الطيور والحيوانات المحرمة مع أنها محرّمة)(5).
ثم ذكر (قدس سره) وجهين آخرين لا يتناسبان مع مقامنا هذا، وأضاف:
(السابع: تقييد السادس بنفوس العرب، حيث أنّ القرآن نزل عليهم فكلما يتنفرّون منه خبيث، وإن استطابه غيرهم، وبالعكس.
وفيه: أنّ العرب لم يكونوا يتنفرون من كثير من الخبائث قبل الإسلام، بالإضافة إلى بقاء العموم من وجه.
الثامن: أنّه مجمل، فكلما علم أنّه من الخبيث اجتنب عنه، وإلا أجري أصل الحلّ.
قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد: (معنى الخبيث غير ظاهر، إذ الشرع ما بيّنه، واللغة غير مرادة، والعرف غير منضبط). وهذا هو الذي اختاره المستند، خلافاً للجواهر الذي أحاله إلى العرف، ولو شك في انقلاب شيء من الخبيث إلى الطيب أو العكس جرى الاستصحاب)(6).
العدل في تحديد الحصص من الموارد المائية بين الدول
وستتضح لنا أهمية تحديد المقصود بالعدل وانه العدل الواقعي أو الشرعي أو اللغوي أو العرفي أو غيرها، عندما نقوم بدراسة عدد من أهم المسائل المتنازع عليها في العالم سواء على مستوى الحكومات أم على مستوى الشعوب، ومن ذلك مثلاً النزاع على الأنهار وموارد المياه؛ وذلك لأن هنالك مأتين وثلاثة وستين حوضاً نهرياً مشتركاً بين مائة وخمسة وأربعين دولة، والخلاف بين كثير من الدول المتشاركة في الأنهار، شديد وبين بعضها خَطِر، في تحديد حصة كل منها من المياه وعلى سبيل المثال النزاع بين العراق وسوريا وتركيا على الحصص من نهر دجلة والفرات، والنزاع بين إحدى عشرة دولة أفريقية على حصصها من نهر النيل بدءاً من دولة المنبع (اثيوبياً) وصولاً إلى مصر والسودان وهي من دول المصب، وكذلك النزاع على بحر الآرال بين خمس دول هي أوزبكستان، تركمنستان، طاجكستان، قرقيزستان وكازاخستان، والنزاع على نهر الأردن بين الاردن وإسرائيل ولبنان والسلطة الفلسطينية.
والسؤال هو ما هو مقتضى العدل في توزيع الحصص؟ فإن أريد بالعدل العدل الواقعي فانه إحالة على مجهول؛ إذ ما هو العدل الواقعي وما هو ضابطه ومقياسه؟ وإن أريد العدل الشرعي وَرَدَ ان الشرع لم يصلنا منه نص يحدد ذلك؟ واما اللغة فإنها عاجزة عن التدخل لحل مثل هذه المعضلة! واما العرف فقد يقال ان العرف العام العالمي هو المرجع في تحديد العدل، ولكن المعضلة تكمن في انه كثيراً ما لا يوجد اتفاق في العرف العام العالمي على رأي محدد، ثم انه على فرضه فان المشهور كما سبق ان العرف ليس حجة في تحديد المصاديق، خلافاً لرأي السيد الوالد والسيد العم إذ ارتأيا حجيته في تحديد المصاديق، على تفصيل، ولهذا البحث تتمة بإذن الله تعالى.
مثال آخر: هل يحق للزوج منع زوجته من زيارة والديها يومياً؟ أسبوعياً؟ شهرياً؟ أو أكثر من ذلك؟ قال بعض الفقهاء نعم، ولكن السيد الوالد (قدس سره) ارتأى انه لا ولاية له على منعها من الزيارة بمقدار المعروف لقوله تعالى (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(7) ولأن ذلك (أي السماح لها بالزيارة) إما من مصاديق العدل فهو واجب وإما هو من مصاديق الإحسان، ولا شك في انه كذلك حتى لو شككنا في كونه من مصاديق العدل، فإذا كان من مصاديق الإحسان أمكن القول بانه مندرج في (الواجب في الجملة) ولو بضميمة آية (بِالْمَعْرُوفِ).
مثال ثالث: هل للزوج منع زوجته من زيارة الإمام الحسين j لا لعذر؟ أو لعذر غير راجح؟ فإذا قلنا بإطلاق وجوب الإحسان إلا ما ثبت خروجه، استناداً للأدلة الثلاثة الأولى (كونه من المستقلات... الخ) وجب عليه السماح إلا إذا زاحم حقاً آخر يتوقف على تواجدها في منطقتها وأحرزت أهميته.
وإن قلنا بوجوبه في الجملة كان محتمل الاندراج وإن لم يمكن حينئذٍ التمسك بالآية إذ لا إطلاق لها على الفرض لكنه يدخل حينئذٍ في دائرة الشبهة الوجوبية، والاحتياط حَسَنٌ على كل حال. هذا إن لم نقل بتتميم الاستدلال بآية الإحسان، بضم آية المعروف إليها نظير ما سبق.
الوجوب المقدمي للإحسان
المعروف، كما سبق، ان الإحسان مستحب، ولكن ارتأى بعض الفقهاء كالسيد الوالد، انه واجب في الجملة، وقد استدللنا على وجوبه في الجملة بأدلة عديدة: قاعدة الملازمة العقلية، وان ذلك من المستقلات العقلية، وان الإحسان وقع متعلَّقاً للأمر، فهذه أدلة على وجوبه النفسي، ولكن قد يستدل على وجوبه بجهة المقدمية التي تفيد الوجوب الغيري بمعنى ان الإحسان كثيراً ما يقع مقدمة للواجبات المطلقة أو يكون مانعاً عن المحرمات والكبائر، فيجب حينئذٍ، ويمكننا ان نستشهد على ذلك بأمثلة وشواهد على مستوى المجتمع وعلى مستوى الأشخاص:
الإحسان في حل مشكلة الفقر والبطالة
أولاً: البطالة والفقر؛ ذلك انه لا يشك أحد في:
أ- ان الفقر والبطالة يعدّان من أهم أسباب انتشار الجريمة في المجتمع: كالسرقة، والتزوير والتهريب.
ب- كما انهما يقفان وراء انتشار الفساد الأخلاقي إذ ما أكثر من يقعون في الفساد لأجل تأمين لقمة العيش.
ج- والعاطلون والفقراء يشكل الكثير منهم المنبع والمصدر لتزويد العصابات والإرهابيين بالأعضاء والمنتمين والجنود والعملاء، وقد سمعنا كثيراً عن أشخاص أضرّ بهم الفقر إلى درجة انه وافق على تفجير نفسه في حشود من الناس، مقابل ألف دولار أو حتى مائة دولار أحياناً إذ كان يجد فيها انها تطعم أطفاله وأسرته لمدة أيام معدودة بدل ان يراهم يموتون أمامه من الجوع والمرض.
د- كما ان العاطلين والمفلسين يشكلون فريسة سهلة للحركات الضالة إذ ما أكثر حركات الضلال التي استغلت عوز الفقير وبؤسه لتصطاده بشباكها لقاء مبلغ شهري بسيط أو توفير فرصة عمل متواضع أو، ربما، خطير.
والإحسان، سواء على مستوى الحكومة أم على مستوى مؤسسات المجتمع المدني أم على مستوى الأشخاص، بتوفير فرص العمل للعاطلين، ولقمة العيش للمعوزين، يتحول إلى واجب مقدمي أكيد فيما إذا شكل جدار الصدّ أمام انتشار الجريمة في المجتمع (خاصة ما عُلِم من الشارع إرادةُ عدم وقوعه في الخارج كجرائم القتل والاغتصاب وشبههما) أو إذا كان يوفر المناعة للشباب من الانتماء للحركات الضالة أو العصابات الإجرامية أو الإرهابيين، أو إذا كان السبب الأساس في المحافظة على دين الناس وتحصينهم من الارتداد، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً)(8).
عدد الفقراء والعاطلين عن العمل في العراق
ويكفي ان نعلم، على سبيل المثال، ان عدد الفقراء في العراق وحده بلغ، حسب الإحصاءات الموثقة، تسعة ملايين ومأتي ألف إنسان!!، وان عدد العاطلين عن العمل بلغ ثمانية ملايين وثمانمأة ألف عاطل عن العمل!!، وهي أرقام رهيبة حقاً، وهي تفسر السر وراء ابتعاد الكثير من الناس عن الدين وارتداد الكثيرين والسبب وراء تمدد عصابات الجريمة وكثرة الإرهابيين وازدياد الراكضين نحو الارتماء في أحضان الحركات الضالة، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك كله ان عدد الداخلين إلى سوق العمل سنوياً يبلغ ثلاثمأة ألف إنسان، مما يعني زيادة مستمرة في أعداد العاطلين عن العمل سنةً بعد سنة!
وبذلك فإن الإحسان بتوفير الحكومة، ومؤسسات المجتمع المدني، وكل واحد واحد منا، فرص العمل للعاطلين ولقمة العيش للمعدمين، يرتقي إلى مستوى الواجب المقدمي دون كلام.
هـ - إضافة إلى ذلك كله فان انتشار البطالة في مجتمعاتنا ومعه الفقر المدقع يشكل أحد الأسباب الرئيسة في تشويه سمعة الإسلام والمسلمين مما يحول، بالفعل، دون إسلام الملايين من الناس، ولا شك في حرمة ذلك، وذلك لأن وقوعنا في براثن الفقر وتخبطنا في شِباك البطالة الواسعة النطاق يشكّل حاجزاً نفسياً بينهم وبين الدخول في الدين الإسلامي، بل قد يعتبرونه برهاناً على فشل هذا الدين في إدارة شؤون الحياة فكيف ندين به ونسلم زمام أمورنا له؟ غفلةً عن ان المشكلة إنما هي في المسلمين والحكومات الإسلامية التي لا تلتزم بتطبيق أحكام الإسلام ودساتيره الحيوية، وليست في الإسلام نفسه الذي تتكفل قوانينُه القضاءَ على الفقر وعلى البطالة مائة بالمائة، كما أوضحنا تفصيل ذلك في كتاب (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن) وكتاب (الأرض للناس لا للحكومات).
الإحسان بتقديم أفضل المناهج والدروس والمحاضرات
ثانياً: ان الإحسان، بتقديم أفضل المحاضرات والدروس والبرامج التربوية والمناهج الدراسية، في المنابر والندوات والمؤتمرات وفي حلقات الدراسة في الحوزة والجامعة وعلى مستوى الكتب والمجلات، وفي الإذاعات والفضائيات، يتحول إلى واجب في عالم المنافسة مع الأديان الباطلة والدول الاستعمارية والحكومات المستبدة، وذلك لأن الوقوف حيث أنت في عالم المنافسة يعني التأخر والمزيد من التأخر لك ولأمتك، كما يعني التقدم للأديان الأخرى: كالمسيحية أو البوذية أو حتى الإلحاد، ويعني استمرار هيمنة الدول الاستعمارية، كالولايات المتحدة، والمستبدة، كالصين وروسيا، على الساحة الثقافية والسياسية والاقتصادية والعلمية.
وعلى مستوى الأشخاص، فان من الواضح ان منابرنا وندواتنا لو لم تقدم الأفضل فالأفضل والأكمل فالأكمل والأقوى والأغنى، فان حضور الناس، خاصة الشباب، سينحسر وسيستقطبهم البديل الآخر يوماً بعد يوم، أكثر فأكثر، كما نشاهد ذلك بالفعل على مستوى العالم الإسلامي كله إذ ما أكثر الذي يُهرعون وراء دعاة الإلحاد أو ينجذبون إلى كتب، مجلات، إذاعات ومراكز الاعداء لأنها تقدم من الناحية الظاهرية مواداً أكثر دسومة وأكثر احترافية وأشد جذابية.
وهذا يعني ان الإحسان، بتقديم ندوات ومؤتمرات أكثر تميّزاً، وبتطوير المنبر الحسيني وحلقات الدرس وعرض محاضرات أكثر غنىً وجذابية، يتحول إلى واجب مقدمي كونه الطريق لاجتذاب الناس والمحافظة على إيمانهم وخاصة الشباب من ان يقعوا فريسة للتيارات المنحرفة التي أحاطت بهم من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم.
ومن الطريف هنا ان نستذكر الحقيقة التالية وهي: ان الواقف على سلم كهربائي متحرك إذا كان في طور حركته النزولية فانه وإن كان واقفاً في مكانه لا يبرحه إلا انه لا شك انه في تقهقر مستمر لأن مركزه وموقعه هو الذي يدفع به إلى الأسفل باستمرار وإن كان من الناحية الظاهرية واقفاً في نفس مكانه السابق، فكذلك الخطيب والمحاضر والمفكّر لو ظل محافظاً على مستواه الثقافي والعلمي والمعرفي والفني الذي كان عليه قبل خمس سنوات بل حتى قبل سنة واحدة، فان ذلك لا محالة يعني انه في حالة تقهقر مستمر، وذلك لأنه وإن كان في مكانه السابق، إلا انه بالقياس إلى الآخرين سيكون في حالة تقهقر مستمر لأن الآخرين في حالة تطور سريع ومتواصل.
وذلك يفسر السبب في انحسار إقبال الكثير من الناس على الكثير من المنابر والمحافل العلمية والثقافية، ولعل الكثير يعجب لذلك إذ يرى أداء الخطيب جيداً ولا يرى فيه تراجعاً عن السنين الماضية إلا ان السبب هو ان البرامج المنافسة، من أفلام ومسرحيات ومن كتب ودراسات ومن ندوات ومؤثرات ومن خطب ومحاضرات، بدأت تتطور بسرعة رهيبة معتمدة على دراسات سيكولوجية وسوسيولوجية مستمرة ومرتكزة على علوم متنوعة حافلة كعلم البرمجة العصبية اللغوية (NL) وعلوم التربية والإدارة والقيادة وعلوم الفن المسرحي في الإلقاء الخطابي المتطور، بينما ظلت أكثر منابرنا ومحافلنا ومنتدياتنا بمنأى عن الاستفادة من تطور العلوم السابقة ونظائرها واستثمار الصحيح منها، في تطوير المنبر والدرس والدراسات والكتب، وترشيد الأداء، وبذلك أصبحت الأديان المنحرفة والحركات الضالة قادرة على كسب مجاميع من شبابنا وأصبحنا عاجزين عن الاحتفاظ بكثير منهم.
وبكلمة فان الإحسان إلى أنفسنا وأهلينا ومجتمعنا، بتطوير الأداء المستحب في حد ذاته، يتحول إلى واجب إذا نظرنا إليه بهذه الرؤية ومن هذه الزاوية في حدود ما كان مقدمة للواجب أو طارداً للمحرم. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق