q

من يتابع الشأن الأوربي وأحداثه اليومية يشعر بمعاناة أوربا وحجم المخاوف التي تحيق بها، فالتعب الأوربي المزمن وأسبابه ودواعيه لا تجعل المراقب للواقع الأوربي في حالة تفاؤل وإنبساط في إعطاء صورة مستقبلية مشرقة تبشر بالخير!.

واجه الإتحاد الأوربي جملة من المصاعب والمطبات وهو في مقتبل عمره وصيرورته ولا يزال يعاني من هذه المصاعب المستمرة في أثرها وتأثيرها، بل أن المستجدات والأحداث فاقمت من شدة هذه المصاعب وحفزت مضاعفاتها حتى بات التهديد لهذا الكيان قائما وواردا. أوجز الإرهاصات الأوربية التي تبقى بشدتها وقوة شكيمتها تشكل تهديدا حقيقيّا في تفتيت أوربا وتمزيق نسيجها وهي كالآتي:

أولا/ الأزمات الإقتصادية وعدم الإستقرار المالي:

منذ أن أعلن البنك الأمريكي العملاق " ليمان بروذورز" إفلاسه في أيلول عام 2008م وحصول الأزمة المالية العالمية أعقاب ذلك، خسرت البنوك الأوربية الكثير من أموالها فسقطت أو كادت أن تسقط أعداد لا يستهان بها من هذه البنوك في هوة الإفلاس. تبع هذا الحادث الحدث ركود إقتصادي صارم ضرب مصالح جميع دول الإتحاد وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، فقد كانت الأزمات الإقتصادية مؤثرة وخطيرة في بعض دول الإتحاد أكثر من غيرها أمثال أسبانيا وإيطاليا والبرتغال وإيرلندا وقبرص وقد كان لليونان حصة الأسد في هذه الأزمات حيث باتت عن الإفلاس قاب قوسين أو أدنى.

فشلت بعض دول أوربا ومن خلال سياساتها الضريبية والإقتصادية في تحجيم المخاطر وترميم الخلل إنما على العكس من ذلك فاقمت في عمق المعضلة وفي تعقيد حيثياتها فصحّ المثل القائل "زاد الطين بلّة"! فبدلا من تحفيز إقتصاديات بلدانها بتشجيع الإستثمار وتحفيز رؤوس الأموال ورجال الأعمال من أجل تلافي البطالة ومعالجتها ومن أجل النهوض بالإقتصاد الراكد، فأن النظم الإشتراكية الحاكمة في دول الإتحاد وجدت في زيادة الضرائب ومتابعة أصحاب المال ورجال الأعمال ومطاردتهم ضريبيّا طريقا سهلا لتغطية العجز في ميزانيات حكوماتها. هذا التوجه الخاطئ أدى الى هروب الكثير من رؤوس الأموال خارج بلدانهم وقد حصل هذا فعلا في فرنسا "على سبيل المثال لا الحصر" والتي يحكمها نظام إشتراكي بقيادة "فرانسوا هولاند" الذي أمعن في فرض الضرائب حتى بدأ الرحيل لرجال الأعمال من بلدهم الى دول الجوار أو الى غيرها هربا من الضرائب المبالغ فيها.

بين القصص المتداولة في هذا الإطار هي قصة الملياردير الفرنسي " برنارد آرنولت" وهو أغنى رجل في أوربا نقل محل إقامته من فرنسا الى بلجيكا لتجنب دفع الضرائب الباهظة. كذلك قصة النجم السينمائي الفرنسي الشهير "دي بارديو" وهو رجل أعمال أيضا طلب الجواز الروسي وتخلىّ عن جوازه الفرنسي بعد أن لجأ لروسيا هاربا من ضرائب فرنسا الحارقة. وهكذا تنقلب الآية فتصبح روسيا الشيوعية رأسمالية يلجأ لها أغنياء أوربا وفرنسا الرأسمالية صارت شيوعية يهرب منها الأغنياء!

ثانيا/ تخبّط السياسات الأوربية الخارجية:

صار السياسيون الأوربيون يتخبطون بسياساتهم المتطرفة المتمثلة بمناصبة العداء لروسيا من خلال مواقفهم المنحازة للأطراف المعادية لروسيا حيث كان ذلك واضحا في الحرب الجورجية الروسية عام 2008م وفي الأزمة الأوكرانية و"أزمة القرم" التي بدأت عام 2014م ولم ينتهي السجال فيها حتى اليوم. تمثل هذا النزاع بين الأوربيين وروسيا بفرض حصار إقتصادي مستمر على روسيا وكأنما الحروب الإقتصادية تضرّ بطرف واحد دون الطرف الآخر. ليس في الحروب ومهما كان نوعها "عسكري أو إقتصادي" من منتصر وحتى المنتصر هو "خاسر" في واقع الأمر وحقيقته! الحصار على روسيا وقبلها على العراق وإيران وليبيا وسوريا وكوريا الشمالية وغيرها يضعف دون شك القوة الإقتصادية الأوربية ويحجم مواردها سواء كان ذلك عاجلا أم آجلا.

التخبط السياسي الأوربي لم يقتصر على الجانب الروسي فحسب إنما زجّ الأوربيون أنفسهم مع شهوات أمريكا في صنع ما يسموه "الربيع العربي" ومخطط الشرق الأوسط الكبير! فحصل الجحيم العربي الذي امتد بناره اليهم وصح عندها المثل القائل "من تدخل بما لا يعنيه لاقى ما لا يرضيه".

ثالثا/ الهجرة المليونية الى أوربا وتداعياتها:

إنقلب سحر الأوربيين على أنفسهم حينما زعزعوا نظما مستقرة وأشعلوا النار فيها. معمر القذافي كان يحمي حدود أوربا الجنوبية من المتسللين والمهاجرين، وسقوطه جعل الباب مفتوحا على مصراعيه أمام الأفارقة الهاربين من الفقر وعدم الإستقرار السياسي والأمني في بلدانهم. كما أن تدخلهم بالشأن السوري أدى الى حرب أهلية كان نتاجها نزوح مليوني الى الغرب مما فاقم المشاكل وردود الأفعال المختلفة عند الشعوب وعند بعض السياسيين في اوربا الذين إستهجنوا إستقبال اللاجئين.

تخوّف الأوربيين من فقدان فرص العمل عندهم إزاء منافسة قادمة من خارج الحدود والتخوف من الإرهاب بشكل خاص ومن الإسلام بشكل عام "الإسلاموفوبيا" والتوجس من تزايد عدد المسلمين أي ما يسمى "أسلمة أوربا" وزيادة نسبة العنف والإعتداء والجريمة، كلّها كانت عوامل هامة في لفت نظر الأوربيين الى أخطاء السياسيين الأوربيين الكلاسيكيين وسببا في صعود نجم الأحزاب الشعوبية واليمينية المتطرفة في أوربا.

رابعا/ صعود نجم الإحزاب الشعوبية والمتطرفة:

كردود أفعال منحرفة لأفعال منحرفة تصدرت قوائم الإنتخابات المحلية والعامة أسماء لسياسيين شعوبيين في كافة دول الإتحاد الأوربي. فالأحزاب اليمينية المتطرفة صارت تقتنص أصوات الناخبين الى الدرجة التي أصبحت فيها هذه الأحزاب قاب قوسين أو أدنى من السلطة. بتأثير وبقوة اليمين المتطرف في بريطانيا خرجت بريطانيا من عضوية دول الإتحاد خلال الإستفتاء الذي جرى في 23 حزيران "يونيو" من العام المنصرم. كما تسنم حزب الإتحاد المدني المجري السلطة وصار الحزب الحاكم هناك، وصار حزب الحرية النمساوي المتطرف منافس عنيد على السلطة في هذا البلد كما بينته نتائج الإنتخابات الأخيرة التي جرت مؤخرا في 4 كانون أول " ديسمبر" الماضي لتسنم منصب رئاسة البلاد.

بينما غدى حزب الجبهة القومية في فرنسا بقيادة "مارين لوبان" الحزب المنافس على السلطة بعد فشل الحزب الإشتراكي بسبب سياساته الإقتصادية الفاشلة والذي كان في الصدارة على مر الزمن. أخيرا وليس آخرا فأن الزعيم المتطرف الإيطالي " بيبي غريللو" زعيم حركة خمسة نجوم الشعوبية سيكون منافسا شرسا على منصب رئاسة الوزراء في أي إنتخابات جديدة تحصل في إيطاليا خصوصا بعدما فشل رئيس وزراء إيطاليا الحالي " ماتيو رينزي" في كسب الإستفتاء الذي جرى في الرابع من شهر كانون أول الماضي لتعديل الدستور، وفتحت أبواب التكهنات على مصراعيها أمام أزمات مالية وإقتصادية وسياسية ممكنة قد تؤثر على حالة الإستقرار في إيطاليا بشكل خاص وعلى عموم منطقة اليورو.

تشابك الأسباب من هشاشة إقتصادية ومالية وهجرة أجنبية جماعية وتخبطات وإخفاقات سياسية في أوربا أدت كلها الى توجه الشعوب الأوربية الى التطرف وإختيار زعماء متطرفين وهو تعبير عن ثورة على واقع غير سليم تعيشه أوربا. ردود الأفعال هذه لا تعني صحة منتهجيها وصوابها بل ربما يكون الأمر كالمستجير من الرمضاء بالنار!.... ومهما يكن من أمر فقد سبق الأمريكيون الأوربيين في إختيارهم فأصبحت السلطة بيد من كانت خطاباته النارية تنطق بالعنصرية والتطرف وهذا ما سيكون مثالا قد تقتدي به الشعوب الأوربية أو تتجنبه وذلك حسب المعطيات والنتائج. دون شك صعود الأحزاب المتطرفة الى ناصية الحكم في أوربا تعني بداية النهاية للإتحاد الأوربي لأن الشعوبي لا يؤمن بالإتحاد.

خامسا/ علاقات أوربا الخارجية المتأرجحة:

علاقات أوربا الخارجية أمام إمتحان صعب تتمخض نتائجه في قابل الأيام والشهور. فبعدما كانت أمريكا هي الأب الروحي للأوربيين وعلى مر الزمن، إلاّ أن الرئيس الأمريكي الجديد "رونالد ترامب" لوّح بأمور لا تبشر العلاقات الخارجية بين أمريكا وأوربا بخير، فهو ينوي تقليص مشاركاته المادية في حلف الناتو ويستهجن تزويد الترسانة العسكرية المدافعة عن مصالح الحلفاء والأصدقاء دون مقابل. كما إنه أبدى إستعداده في مد يد الصداقة والمحبة الى الروس مما يعني تخليه أو تغاضيه عن ركائز الإختلاف مع روسيا المتمثلة بالموقف في سوريا وأوكرانيا خلافا للموقف الأوربي الثابت! وهذا سيؤول بالتالي الى إضعاف مواقف الأوربيين السياسية إزاء هذين الشأنين.

تعرضت علاقات أوربا مع تركيا أيضا الى التوتر والإنحسار بسبب خلافات الطرفين حول مبدأ حقوق الإنسان من جهة وحول نفاذ صبر الأتراك من الوعود التي طال إنتظارها في قبول تركيا بعضوية الإتحاد الأوربي. هذا التوتر قد يفتح باب هجرة اللاجئين الى أوربا من جديد ويخلق أزمة لا أحد يعرف نتائجها.

هذه الأمور بشكل عام تشكل منعطفا هاما وخطيرا لمسيرة النهج الأوربي ومستقبله فأوربا إما أن تجتاز محنها بمهارة وحكمة وتتخطى مخاطر السقوط أو تنزلق في هاوية التفكك والإنحسار!.

اضف تعليق