q

أثار إعلان الشاه إسماعيل الصفوي أول ملوك الصفويين المذهب الشيعي الإثني عشري المذهب الرسمي في إيران مخاوف العثمانيين واعتبروه بمثابة ناقوس الخطر الذي يهدد كيان الإمبراطورية العثمانية، فسعى العثمانيون حثيثاً وبشتى الطرق إلى القضاء على هذه الدولة الفتية التي وقفت نداً لهم مما اضطرهم إلى التحالف مع الأوزبك للقضاء على الصفويين عسكرياً وفكرياً فارتكبوا أبشع جرائم الإبادة وأفظع المجازر المروعة بحق الشيعة في المناطق التي تحت نفوذهم، وقد وجدوا في فتاوى الكفر والتكفير التي خطها علماء القتل ومشايخ الدم المجرمين من وعاظ السلاطين العثمانيين الذين باعوا آخرتهم بدنياهم خير غطاء لجرائمهم فألبسوها ثياب الدين حتى وصل الحقد الأموي الذي توارثه هؤلاء المجرمون إلى إصدار فتوى تقول: (إن قتال الشيعة يعدل في ثوابه سبعين مرة قتال الكفار)!!!.

بهذه الفتاوى كان العثمانيون والأوزبكيون يبيدون القرى والمدن الشيعية الآمنة وقد سخّروا كل إمكانياتهم الدعائية لتكفير الشيعة وجواز قتلهم واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وإكمال مسلسل الإبادة والدم الذي بدأه أسلافهم السلاجقة والتيموريون.

ففي الوقت الذي أعلن الشاه عباس الصفوي المذهب الشيعي المذهب الرسمي للدولة وأصر على إعلانه مهما كلف الثمن رغم المحيط السني الذي يحيط بإيران متمثلاً بالأوزبك من الشرق والعثمانيين من الغرب، كانت الدولة العثمانية تقوم بعمليات إبادة وحملات قتل واضطهاد واسعة ومستمرة ضد الشيعة في كل البلاد التي تقع تحت سيطرتها مستهدفة الوجود والكيان الشيعي برمته للقضاء عليه.

التسامح الديني

ورغم أن الدولة الصفوية لم تنهج في سياستها منهج العثمانيين وسياسة التعامل بالمثل، إلا أن العثمانيون اعتبروا إقامة دولة شيعية بحدّ ذاته يمثل طعنة لها وتهديداً لسيادتها على المنطقة، فلم يكن لدى الصفويين أطماع توسّعية أو أحقاد مذهبية أو حتى فوارق عرقية أو عنصرية، بل بالعكس فقد نهجوا في سياستهم على مبدأ التسامح الديني فعاش اليهود والنصارى الأرمن والسنة في ظلها حياة حرة كريمة، ولكن الذي أثار حفيظة العثمانيين وأثار مخاوفهم منها وأحقادهم عليها أنها سخّرت إمكانياتها وجهدها لنشر المذهب الشيعي وفكر أهل البيت واحتضنت علماء الشيعة الهاربين من بطش ولاة الدولة العثمانية وخاصة علماء جبل عامل الذين كان لهم دور كبير وفاعل في نشر المذهب الشيعي وترسيخ وتوسيع الثقافة الشيعية في إيران، كما شكلت الدولة الصفوية مصدر أمن للشيعة الذين عانوا لقرون طوال من بطش السياسات المعادية للشيعة.

الحرب على الشيعة عسكرياً وإعلامياً

قاد العثمانيون جيوشهم وسخروا ماكنتهم الإعلامية والدعائية لإزالة الدولة الصفوية من الوجود، فخاض الصفويون معهم معارك مصيرية كانت سجالاً بين الطرفين أثبت فيها الصفويون أنهم لم يكونوا صيداً سهلاً للمارد العثماني الذي كثف من دعاياته الكاذبة المشحونة بفتاوى الدم التي كتبت بمداد الحقد الأموي لتحشيد الناس على قتل الشيعة، وتحالف العثمانيون مع الأوزبك الذين يتبنون المذهب الحنفي والذي هو مذهب العثمانيين لهذا الهدف، وقد تبنّى العثمانيون هذا المذهب لأغراض سياسية فهو المذهب الوحيد الذي يجيز لغير العربي الحكم.

وتصاعدت وتيرة العداء باعتداء سافر من قبل الأوزبك بتحريض من العثمانيين وجرت معارك طاحنة فكان الصفويون يقاتلون على جبهتين العثمانية والأوزبكية، ولسنا هنا بصدد سرد وقائع تلك المعارك الطويلة وما نحن بصدده هو المجازر والمذابح وعمليات الإبادة التي سبقت وتخللت تلك المعارك من قبل العثمانيين والأوزبكيين بحق الشيعة، والتي تجري عادة بعد استيلائهم على المدن فيقتلون ويأسرون وينهبون.

الأناضول منطقة منكوبة

أولى هذه المجازر قام بها السلطان سليم الأول في مناطق الأناضول عام (919هـ) عندما استصدر فتوى تبيح قتل الشيعة فصدرت الفتاوى الدموية التي توجب قتل الشيعة وخروجهم من الملة، فقام سليم الأول بقتل أكثر من أربعين ألف شيعي في مناطق الأناضول!

إثر هذه المذابح البشعة قام الشيعة بانتفاضة ضد العثمانيين في تلك المناطق لكنها قمعت بقسوة ووحشية وقتل كل من شارك فيها وسبيت نساؤهم وبناتهم وأولادهم.

جالديران وتداعياتها

وفي عام (920هـ) وقعت أكثر المعارك دموية بين العثمانيين والصفويين وهي معركة (جالديران)، وفيها استخدم العثمانيون كل طاقاتهم وإمكانياتهم وأسلحتهم المدمِّرة فراحت المدافع تصبُّ نيرانها على الجيش الصفوي الذي اعتبر هذا السلاح غير لائق بالجندي الشجاع ومنافياً للفروسية فانسحب من المعركة، وصدرت إثرها الفتاوى بوجوب قتل الشيعة، وكان أبشع تلك الفتاوى التي أصدرها المجرم نوح الحنفي والتي أفتى بموجبها بقتل الشيعة (تابوا أم لم يتوبوا)!! فقتل الشيعة في الكثير من البلاد الإسلامية وجرت المذابح فيها وخاصة في حلب وجبل عامل.

واستمر العثمانيون بشن الغارات والحملات على المدن الشيعية الآمنة فيقتلون وينهبون، فكانت المدن الحدودية دائماً عرضة لمثل هذه الغارات حتى توقيع معاهدة السلام عام (963هـ) والتي حرصت الدولة الصفوية على تطويرها بتحسين العلاقات ولكن الأوضاع السياسية كانت تعيش بين مد وجزر، وفي عام (986هـ) كانت الدولة الصفوية قد أنهكها الصراع الداخلي والتمزّق وحالة الفوضى من الداخل وانشقاق القادة والأمراء داخل الأسرة الحاكمة، وكعادتهم استغل العثمانيون هذه الفرصة.

فرغم اتفاقية السلام المبرمة بينهم وبين الصفويين إلا أنهم قاموا بمحاولات استفزازية للإخلال بها وإلغائها بعد عشرين عاماً من عقدها فحرّضوا الأكراد في أذربيجان وبحيرة (وان) لشن حملات على الشيعة فشملت تلك الحملات مدينتي خوي وسلماس فقتلوا حاكمها مع أربعمائة شخص من أتباعه وأسروا نسائهم وبناتهم وأطفالهم وحملوا رؤوسهم إلى السلطان العثماني مراد الثالث.

وقد حرّض هذا الهجوم من قبل الأكراد باقي الأقوام فهاجم التتار في شمال الخزر الحدود الشمالية للدولة الصفوية (منطقة قره باغ) وأوقعوا الكثير من القتلى وهو ما أصاب سكان مدينة شيروان القريبة بالذعر والهلع فاستأمنوا السلطان العثماني وطالبوا بالإنفصال عن الدولة الصفوية لكن ذلك لم يمنع العثمانيين من شن هجوم كبير وبجيش جرار يضم أكثر من مائة ألف جندي على شيروان ومنها إلى جورجيا واحتلالهما

تبريز ضحية الصراع الداخلي

وفي تلك الفترة كان الصراع الداخلي يتفاقم داخل الأسرة الصفوية الحاكمة والمشاكل تتوالى وهي تنذر بانهيارها، ولم يكن العثمانيون بالذين يتركوا مثل هذه الفرص تمر مرور السحاب دون استثمارها لصالحهم وقتل أكبر عدد من الشيعة، فانتهز السلطان العثماني الأزمة التي أحدثت شرخاً كبيراً في الدولة الصفوية نتيجة النزاع على الحكم والفوضى التي عمت البلاد وخاصة في خراسان فقام باجتياح إقليم أذربيجان واحتلاله.

وفي عام (994هـ) ارتكب العثمانيون مذبحة عظمى في تبريز التي سقطت بأيديهم، وكانت تبريز تعيش في تلك الفترة ذروة نموها وازدهارها الإقتصادي وهي مركز الصفويين لأكثر من قرن، وقد ساعد اعفائها من الضرائب من قبل الشاه طهماسب على تبوأ الصدارة في المجال الإقتصادي، فكانت هذه سياسة طهماسب لتشجيع السنة على الإنتماء إلى المذهب الشيعي لكنها الآن تسقط بيد العثمانيين بعد أن تخاذلت القوات الصفوية عن حمايتها بسبب الإنشقاقات الداخلية، ورغم استعداد أهلها لصد الهجوم العثماني وبناء الدفاعات المحكمة وإقامة المتاريس حولها إلا أنها سرعان ما سقطت أمام هذا الهجوم العثماني الكاسح المزود بالمدفعية.

واندفع الجنود العثمانيون إلى قلب المدينة وبدأت خطة العثمانيين التي تتكرر دائماً عند احتلالهم للمدن فأعلنوا العفو العام لكل السكان، لكن أهالي تبريز وغيرها من المدن كانوا قد جرّبوا مثل هذا الإعلانات التي تتلاشى سريعاً لتحل محلها الفتاوى الجاهزة باستباحة دمائهم وأعراضهم فهرب من استطاع الفرار من الشيعة، وما إن أحكم الجيش العثماني سيطرته على المدينة حتى صدرت الفتوى باستباحتها ولم تراع حرمة شهر رمضان الذي وقعت فيه هذه المذابح العظيمة التي قتل فيها أكثر من ثمانية آلاف مسلم شيعي كان منهم الكثير من العلماء والسادة والصلحاء الأخيار حتى اصطبغت شوارع المدينة بالدماء وامتلأت بالجثث.

حتى الأطفال!!

ولكن الذي لا يستطيع أي إنسان تقبّله مهما كان هو ذبح الأطفال الرضَّع وسبي أكثر من سبعة آلاف امرأة وبيعهن في سوق للنخاسة أقامه العثمانيون لهذا الغرض، وأضحت تلك المدينة العامرة المزدهرة مدينة للموتى وقد وصفت تلك المجزرة بمجزرة كربلاء لقسوة الجناة وهستيريا القائد العثماني ونزعته الدموية المتوحشة.

الأوزبك وتحالف الشر

دخل الأوزبك دائرة الصراع السياسي العنيف بين الصفويين والعثمانيين بعد إعلان الشاه إسماعيل الصفوي المذهب الشيعي الرسمي في إيران فتحالف الأوزبك مع العثمانيين ضد الصفويين وكان من أهم عوامل هذا التحالف هو العامل المذهبي الذي يجمع بينهما فكلاهما كانا على المذهب الحنفي المتعصب ضد الشيعة إضافة إلى الأطماع السياسية، كما ساعدت الدعاية العثمانية الطائفية المكثفة والتحريض على الشيعة على الاعتداءات السافرة والمتكررة التي كان يقوم بها الأوزبك على المدن الإيرانية وعمليات الإبادة الجماعية التي كانوا يقومون بها بعد كل غزو واحتلال.

بدأت دولة الأوزبك التي قامت على أنقاض الدولة التيمورية بالظهور بعد احتلال شيبك خان الأوزبكي ـ وهو من أحفاد جنكيز خان ـ سمرقند ثم احتل بخارى ومناطق واسعة من تركستان وما وراء النهر، وأخذت هذه الدولة بالتوسّع وراودت قائدها شيبك خان الأحلام بإعادة فتوحات جده جنكيز خان، وفي عام (913هـ/1507م) احتل خراسان واستعد لتسيير جيش لاحتلال كرمان.

رسالة ونهاية

وفي غمرة زهو شيبك خان بانتصاراته المتلاحقة واحتلال المدينة تلو الأخرى دعاه غروره إلى إرسال رسالة إلى الشاه إسماعيل الصفوي يأمره فيها بترك المذهب الشيعي، كما تضمنت الرسالة إهانات وتجاوزات لا يمكن السكوت عليها، فسيَّر الشاه إسماعيل جيشاً جراراً لاستعادة المدن التي احتلها الأوزبك ولرد تلك الإهانة بالدم.

وصلت أنباء زحف الجيش الصفوي إلى خراسان وكان لصدى هذا الزحف أثره المرعب في قلوب حكام الأوزبك في دامغان واستراباد الذين فروا إلى هرات، فيما فر قائدهم شيبك خان من هرات إلى مرو، وبدأ الجيش الصفوي يحرِّر المدن التي احتلها الأوزبكيون فدخل مدينة مشهد ومنها واصل تقدمه نحو سرخس ثم إلى مرو مركز الدولة الأوزبكية وهناك جرت معركة فاصلة وطاحنة عام (916هـ/1510م) استمرت سبعة أيام سجل فيها الشاه إسماعيل انتصاراً ساحقاً على الأوزبك وقتل قائدهم شيبك خان في هذه المعركة وقطع رأسه وأرساله إلى السلطان العثماني بايزيد.

الإحتلال وسلطة الحديد والنار

ولكن الأوزبك عاودوا الكرة بعد لم فلولهم وخاضوا معركة مع الصفويين استطاعوا فيها هزيمتهم وأسر قائدهم أمير يار أحمد وقتله واحتلوا مناطق كبيرة من الدولة الصفوية لكنهم عجزوا عن احتلال هرات.

واستمرّت هجمات الأوزبك على خراسان في عهد الشاه إسماعيل والشاه عباس (الأول), وقد وصل الشاه عباس إلى سدّة الحكم في فترة كانت البلاد فيها تتعرّض لغارات وغزوات الدولة العثمانية من جهة الغرب والأوزبك من جهة الشرق , وفي الوقت الذي كانت الدولة الصفوية تعيش حالة الصراع الداخلي المتفاقم على السلطة كان الأوزبك قد استولوا عدة مرّات على مدينة (مشهد المقدسة) وكان معظم مدن خراسان معرّض لانتهاكاتهم و اعتداءاتهم

حصار هرات واقتحامها

في عام (931هـ) استغل عبيد خان قائد الأوزبك حالة الصراع والتمزق الداخلي التي أصابت الدولة الصفوية إثر موت الشاه إسماعيل فاجتاح خراسان وهرات وطوس واستراباد واستولى عليها بعد مقاومة شديدة خاصة في هرات، فارتكب فيها من الفظائع ما تقشعر منه الأبدان وتشمئز منه النفوس ويندى له جبين الإنسان، فقد كانت هناك كالعادة فتاوى مشبعة بالكراهية تشم منها رائحة الدم تصدر مباشرة بعد احتلال المدن من قبل شيوخ العثمانيين والأوزبك شركاؤهم في الجرائم وهذا الشيء عرفه أهالي المدن الإيرانية طوال حكم الدولة العثمانية وهو ما دفع بأهالي هرات إلى إحكام الدفاعات والمتاريس للدفاع عن المدينة والإستماتة دون دخول الأوزبك إليها وصمدوا طويلا لكنهم لم يكونوا بإمكانيات الجيش الأوزبكي العسكرية المتفوقة المدججة بالسلاح والمدفعية فسقطت المدينة أمام الحشود الأوزبكية وجرت فيها المذابح بحق أهلها الشيعة ووصل الأمر إلى اتهام الكثير من أثرياء السنة بالتشيع لقتلهم وسبي نسائهم وسلبهم أموالهم وممتلكاتهم.

وفي عام (986هـ) كانت الدولة الصفوية قد أنهكها الصراع الداخلي والتمزّق وحالة الفوضى من الداخل وانشقاق القادة والأمراء داخل الأسرة الحاكمة فكانت هذه فرصة للأوزبك فقاد جلال خان الأوزبكي حملة على نيسابور وسبزوار واسفرايين فقتل ونهب ثم توجه إلى مشهد فتصدى له حاكمها وأوقع به هزيمة نكراء.

وفي عام (996هـ) حاصر الأوزبك (هرات) في الوقت الذي كانت الدولة الصفوية تعيش حالة مزرية من الإنقسامات التي تهدد بزوالها واستمر حصارهم لمدة تسعة أشهر حتى استطاعوا دخولها بعد دفاع مستميت من قبل أهلها فقتلوا كل من فيها من الشيعة وأسروا نساءهم وأطفالهم، وبلغ من عداء الأوزبك للشيعة إنه كان أي إنسان في هرات إحراق عدوه حياً بإحضار شاهدين يشهدان عند القاضي الحنفي بأنه شيعي حتى وإن كان من أهل السنة، فحرق الإنسان حياً هو حكم القاضي على الشيعة!.

وفي السنة التالية أي في عام (997هـ) احتل الأوزبك بقيادة عبد المؤمن خان بن عبد الله خان مدينة مشهد التي لم تكن الشيعة فيها بأحسن حالاً من هرات وغيرها بعد احتلالها فجرت المذابح وقتل الكثير من العلماء منهم السيد عبد الله الشوشتري الذي أحرق حياً ولم ينقذه من المحرقة التي أعدت له عمله بالتقية وادعاءه بانتمائه للمذهب الشافعي.

اضف تعليق