q

لو تمثل التاريخ بصورة إنسان لظهر وهو مثخن بالجراح، دامي الجسد، لا يقوى على الوقوف من أثر طعنات المؤرخين والدارسين الذين أوغلوا في طعناتهم بصميمه، ولو تشكّلت محكمة لإنصافه لطال وقوف أولئك الذين أثخنوه بأكاذيبهم وتدليسهم وأباطيلهم وتزويرهم لحقائقه، وأكلهم لحوم الموتى بافتراءاتهم وتشويههم سير عظماء التاريخ.

هذه الحقيقة يراها بوضوح كل دارس أو مطلع منصف على سِير الكثير من شخصيات التاريخ الإسلامي، فلم يُبق أولئك الذين تصّدوا لدراسة شخصيات التاريخ والتحقيق في حوادثه مكاناً في التاريخ دون أن يصيبوه، ولا نقاءً دون أن يلوّثوه، ولا صفاء دون أن يكدّروه، تقودهم عصبيتهم المذهبية وأهواؤهم السياسية وعقدهم النفسية وجاهليتهم العمياء إلى تزوير الحقائق وقول الزور والبهتان والإفتراء.

لا نريد أن نطيل في هذا الموضوع الذي يدمي القلب، ويقرح الجراح، ويدسّ في (العين قذى وفي الحلق شجى)، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى في بطون التواريخ، ولكن السؤال يبقى: هل نترك تاريخنا لأولئك المزيفين ليلعبوا فيه كما يشاؤون ويوغلوا فيه تشويهاً وتحريفاً، أم نقف في وجوههم ونتصدى لهم ونفضح أكاذيبهم ونبين للتاريخ والأجيال تزييفهم وتحريفهم للحقائق ؟

إن الواجب الإنساني والأمانة التاريخية يفرضان على كل دارس وكاتب ومؤرخ وباحث أن يبين حقائق التاريخ ويوضح خفاياه ويقوّم الأود والإعوجاج الذي ألحقه المتلاعبون بحقائق التاريخ، ويسلّط الضوء على ما حاول المحرفون إخفاءه وتضييعه لكي يُعاد إلى التاريخ روعته ورونقه وتتجلى حقائقه بأبهر صورة وتظهر شخصياته على حقيقتها لتنظر إليها الأجيال في صورتها الحقيقية.

ولو اتخذ الدراسون الدقة والإنصاف والعدل والحيادية مبدأ في كتاباتهم لظهرت شخصيات التاريخ كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (لا بد أن يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا).

أجل فكم من الرجال الأفذاذ العظماء الذين أفنوا عمرهم في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض هُمِشوا وشُوّهت سيرتهم وطُعنوا في عقيدتهم ومبدأهم ونُهشت أجسادهم وهم موتى ؟ وكم من أراذل الرجال والمجرمين والسفاكين ممن يشيب من موبقاتهم ومجازرهم رأس الوليد أتحفوا بالألقاب، ووضعت الأحاديث المكذوبة في فضائلهم الموهومة، وزوّق المؤرخون أعمالهم وإجرامهم حتى لُقب عدو الله ورسوله بـ (سيف الله المسلول)، ولُقّبَ عدو المؤمنين وقاتلهم بـ (خال المؤمنين وأميرهم) !!!!

أسامة بن منقذ

من الشخصيات التي جَنى عليها المؤرخون والدارسون شخصية الأمير القائد البطل الشيعي أسامة بن منقذ بطل الحروب الصليبية الذي أفنى عمره الذي قارب المائة عام في الدفاع عن الإسلام، وخاض غمار المعارك الطاحنة ضد الصليبيين، وأبدى فيها من الشجاعة والبسالة ما أذهل العقول وحيّر الألباب، حتى قال عنه المقدسي: (إنه كان من الشجاعة في الغاية التي لا مزيد عليها)، وقال عنه الذهبي في تاريخ الإسلام: (أحد أبطال الإسلام، ورئيس الشعراء الأعلام).

ولسنا هنا بصدد الحديث عن حياته التي أفناها في ساحات القتال وهو يدفع عن بلاد المسلمين هجمات الروم البربرية، ويقود الجيوش، ويدبر في أمر الحرب، ويتفانى في الجهاد في سبيل الله، فكل ذلك ما لا ينكره أحد، وقد تناقلت المصادر أخبار بطولاته وشجاعته، ولكن ما يهمنا هو دفع ودحض ما ألحقه به الكتاب المتأخرون من أصحاب الأقلام المأجورة من ظلم وحيف وجنف بحقه، وما ألصقوه به من اتهامات باطلة لا تقوم على دليل ولا تستند إلى حجة، وقد طعنوه في أعز ما يملك الإنسان وهو دينه ومعتقده وشرفه.

فقد اتهمه الدكتور حسين مؤنس بالخيانة والعمالة للصليبيين فاسمع واعجب !!

فمثل هذا القول والله هو من أعجب العجب !!

أسامة في أقوال المؤرخين والمعاصرين له

قبل أن نستعرض ما قاله هذا (الدكتور) الذي خذل لقبه العلمي، ولم يتحلَّ بما يجب أن يتحلّى به الدارس والباحث من الإنصاف والعدل في دراسة التاريخ، وراح يكيل التهم جزافاً، نرى من المهم استعراض أقوال المؤرخين القدماء والمحدثين وآراء الكتاب والدارسين عن أسامة لكي تتضح معالم صورته للقارئ.

دلت جميع أقوال المؤرخين بحق أسامة على مكانته العظيمة في التاريخ الإسلامي وأفاض الكتاب بما تتمتع به شخصيته الفذة من صفات نادرة ومزايا كريمة وأخلاق ونبل، وقد أجمعت كل المصادر على أنه من أبطال الإسلام ومن أفذاذ الرجال مروءة وكرماً وحلماً وعلماً وشجاعة.

قال عنه عماد الدين الأصفهاني: (هذا أسامة من الأمراء الفضلاء، والكرماء الكبراء، والسادة القادة العظماء، وهو من المعدودين من شجعان الشام وفرسان الإسلام).

وقال عنه أيضا: (أسامة كإسمه في قوة نثره ونظمه، يلوح من كلامه إمارة الإمارة ويؤسس بيت قريضه عمارة العبارة، ونشِر له علم العلم، ورقي سلم السلم، ولزم طريقه السلامة، وتنكب سبل الملامة ندي الندي بماء الفكاهة، عالي النجم في سماء النباهة، معتدل التصاريف، مطبوع التصانيف، كنت أتمنى أبداً لقياه وأشيم على البعد حياه حتى لقيته في صفر سنة إحدى وسبعين وخمسمائة .....)

وقال أيضا وهو يتحدث عن بني منقذ عشيرة أسامة: (ولم تزل بنو منقذ ملاك شيزر، وقد جمعوا السيادة والمفخر، وكلهم من الأجواد الأمجاد وما فيهم إلا ذو فضل وبذل، وإحسان وعدل ..... وهذا أسامة أعرقهم في الحسب وأعرفهم بالأدب)

وقال عنه الذهبي في تاريخ الإسلام: (أسامة أحد أبطال الإسلام ورئيس الشعراء الأعلام).

وقال عنه أيضاً في تذكرة الحفاظ: (حامل لواء الأبطال، وشاعر الشام).

وقال عنه ابن العماد الحنبلي: (وكان من أكابر بني منقذ أصحاب قلعة شيزر وعلمائهم وشجعانهم، له تصانيف عديدة في فنون الأدب والأخبار والنظم وفيه تشيّع).

وقال ابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) في ترجمة أسامة في حوادث سنة (584هـ): (مولده بشيزر في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وكانت له اليد الطولى في الأدب والكتابة والشعر، وكان فارساً شجاعاً عاقلاً مديراً كان يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب الجاهلية وطاف البلاد ....)

وقال عنه ابن عساكر في تاريخ الشام: (اجتمعت به بدمشق وأنشدني قصائد من شعره)

وقال عنه محمد بن الحسن الملحي: (إن الأمير أسامة شاعر أهل الدهر، مالك عنان النظم والنثر، متصرف في معانيه، لاحق بطبقة أبيه، ليس يستقصى وصفه بمعان، ولا يعبر عنها بلسان، فقصائده الطوال لا يفرق بينها وبين شعر ابن الوليد، ولا ينكر على منشدها نسبتها إلى لبيد، وهي على طرف لسانه، بحسن بيانه، غير محتفل بطولها، ولا يتعثر لفظه في شيء من فضولها، وأما المقطعات فأحلى من الشهد، وألذ من النوم بعد طول السهد، في كل معنى غريب، وشرح عجيب، وقد سمع منه الكبراء والأجلاء منهم: الحافظ أبو سعيد السمعاني والحافظ ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق والعماد الكاتب الأصفهاني كاتب الإنشاء لدى صلاح الدين الأيوبي).

وقال عنه ابن خلكان في وفيات الأعيان: (من أكابر بني منقذ أصحاب قلعة شيزر وعلمائهم وشجعانهم له تصانيف عديدة في فنون الأدب ذكره أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ أربل وأثنى عليه، وعده في جملة من ورد عليه وأورد مقاطع من شعره).

وقال عنه ياقوت الحموي في معجم الأدباء: (وفي بني منقذ جماعة أمراء شعراء، لكن أسامة أشعرهم وأشهرهم).

وقد زار قبر أسامة المؤرخ ابن خلكان على سفح جبل قاسيون ووصف زيارته للقبر بقوله: (ودخلت تربته وهي على جانب نهر يزيد الشمال وقرأت عنده شيئاً من القرآن وترحمت عليه)

ونكتفي بهذه الأقوال للمؤرخين القدماء وبعضهم كان من معاصري أسامة وقد أجمعت هذه الأقوال على الثناء عليه.

فهل يرى القارئ فيها قولاً واحداً يشين أسامة، ويشير إلى ما قاله مؤنس أم يرى العكس من ذلك ؟

ولإتمام الفائدة سنستعرض أقوال المؤرخين والدارسين المحدثين الذين درسوا سيرته بعين العدل والإنصاف.

أسامة في أقوال المحدثين

يقول عنه عباس محمود العقاد: (أسامة بطل كبير من أبطال الحروب الصليبية، وفارس كاتب مبرز في ميدان السيف وميدان القلم، مؤرخ لعصره، يقل نظراؤه في الصدق والفطنة وحسن البيان، ويندر بين العصور عصر عرفناه بكتابة أبنائه كما عرفنا العصر الأخير من الصليبيين بكتابة هذا الفارس المجلي وهذا الكاتب المبين ذلك هو أسامة بن منقذ فارس المعقل المسمى بعرف الديك ومن حق هذا المعقل أن يسمى بلبد الأسد).

ويقول عنه يوسف الشاروني: (صاحب ملوك الإسلام، وسالم الصليبيين وقت السلم، وقاتلهم وقت الحرب، كما قاتل غيرهم من العرب، ثم دون كل خبراته في مذكرات شيقة رائعة يسودها التواضع الجم، فنصدق انتصاره حين يذكره لأنه يذكر عدم انتصاره حين تقابله الهزيمة).

وقال عنه المؤرخ الدكتور فيليب حتي: (عاش أسامة شهماً فارساً، ولمع أديباً وشاعراً).

وقال عنه الأستاذ أحمد محمد شاكر: (ربّاه أبوه على الشجاعة والفتوة والرجولة، ومرنه على الفروسية والقتال، فأخرج منه فارساً كاملاً وسياسياً ماهراً ورجلاً ثابتاً كالرواسي لا تزعزعه الأعاصير ولا تهوله النكبات والرزايا).

وقال عنه السيد جمال الدين الآلوسي في كتابه (أسامة بن منقذ .. بطل الحروب الصليبية) (ص23): (كان الأمير أسامة يرد غارات الإفرنج عن شيزر ويخف لفك الحصار عن القلاع الإسلامية، ويتطوّع في جيوش الأمراء الذين ندبوا أنفسهم لحرب الصليبيين).

هذه بعض أقوال الكتاب المحدثين قطفناها من أقوالهم الكثيرة التي أثنت على أسامة تُضاف إلى أقوال المؤرخين القدماء عن أسامة والتي أجمعت على أنه أحد أبطال الإسلام المعدودين.

مع الدكتور مؤنس

ما نقول لمن جانف الحق متعمّداً، وأملت عليه عصبيته العمياء أن يتهم أسامة بالعمالة للصليبيين فيقول في كتابه: (نور الدين محمود) (ص169): (إن أسامة كان من المتعاونين مع الأعداء العاملين على تأييد سلطانهم) !!

بل وصل به قول الزور إلى أن يتهم عشيرته بني منقذ الذين وقفوا ببسالة وشجاعة أمام هجمات الصليبيين بالخيانة، ونفى عنهم وعن أسامة كل نصرة للإسلام) !!!

هذا ما لا تقوم الإبل على حمله كما يقال

وهذه بعض الفقرات التي قالها مؤنس في اتهامه الباطل وافترائه العظيم على أسامة وعشيرته ننقلها من كتابه (نور الدين محمود) حيث قال في (ص99): (فلم تنهض بهم الهمة إلّا إلى الإتصال بالصليبيين وعرض المعونة عليهم وتقديم الأدلاء إليهم إذا هم تركوهم بسلام) !!!

ثم يقول: (ولقد لقي بنو شيزر من الهوان على أيدي الصليبيين وقبلوه على ذلة) !!

واستدل على عمالتهم المزعومة بأنهم (فرحوا بانخذال السلجوقيين) !!

كما تشفّى مؤنس وظهر بمظهر الفَرِح حين ذكر في كتابه حادثة انتهاب الإفرنج في عكا أموال أسامة وكان من بينها أربعة آلاف كتاب كان قد انتقاها وجلدها بيديه وأفنى سنيناً طوالاً في جمعها !!!

نحن لا نعجب من هذا الدكتور هذه الآراء، فقد عُرف بآرائه الشاذة التي لا يقبلها عقل ولا يستسيغها منطق، ولم يقلها بها أحد سواه لا من المتقدمين ولا من المتأخرين، ولكننا نعجب من جرأته وزوره وبهتانه وافتراءاته، فليته ذكر مصدراً واحداً يقول بقوله سوى مصدر البغض والكراهية الذي يستقي منه.

إن كل المصادر التاريخية باختلاف مذاهبها أجمعت على أن أسرة بني منقذ كانت من أشد المدافعين عن الإسلام، وقد وقفت بصلابة أمام هجمات الصليبيين وكبدتهم خسائر فادحة وهزمتهم شر هزيمة، وقد بقيت عصية على الإفرنج في الوقت الذي سقطت غيرها من البلاد في أيدي الروم، وعلى رأس هذه الأسرة أسامة الذي لقب ببطل الحروب الصليبية، والذي لم يقتصر قتاله ضد الروم في شيزر، بل قاتلهم في الموصل والعمادية وعسقلان وبيت جبريل وحلب، فجسد أروع صور الشجاعة والبطولة في الحروب التي خاضها حتى صار الناس يتناقلون أخباره في البلاد وصارت شجاعته مثلاً أعلى في الفروسية، وهذا ما لا يختلف عليه اثنان، فمن أين استقى مؤنس آرائه ؟

رد السيد جمال الدين الآلوسي

نترك الرد على مؤنس للسيد جمال الدين الآلوسي وهو من علماء السنة الذين أنصفوا أسامة وأشادوا ببطولاته في دراسته المستفيضة عن أسامة يقول الآلوسي في الرد على مؤنس:

(وفي الكتاب ـ أي كتاب مؤنس ـ (نور الدين محمود) ـ اتهامات لا أثارة له فيها من علم أو مستند، إن اتهاماته لم يقم عليها دليل من فعل أو قول ولم أجد مؤرخاً من المؤرخين سواء ممن عاصره أو ممن جاء بعد عصره من ذكر هذه الأسرة بأنها والت الإفرنج أو عملت لهم، وقد أطرى المؤرخون والشعراء والكتاب بطولات هذه الأسرة وصمودها أمام الإعصار الغربي، وقفوا يدافعون زحفهم ويهاجمون قلاعهم، والثابت إن الإفرنج لم يتمكنوا من احتلال شيزر وإقامة حكومة إفرنجية كما أقاموا في كثير من الأصقاع).

ويواصل السيد الآلوسي دفاعه عن أسامة وقومه والإشادة ببطولاتهم ودحض اتهامات مؤنس فيقول: (لم يتخاذل بنو منقذ أمام هجمات الإفرنج والروم معاً، ووقفوا كالطود الشامخ يدافعون زحوف الروم سنة (532هـ)، وعاد ملك الروم إلى إنطاكية خائباً، إن البطولات التي قام بها مرشد (والد أسامة) وأخوه أبو العساكر الأمير سلطان وما كان يقوم به أسامة من خوض المعامع ومهاجمة القلاع وما كان يحتمله من الجلاد والساعات الطوال في ميادين القتال مما كان يثير إعجاب الفرسان وكان مدعاة لحضور قائد من قواد الفرنجة ليهنئ أسامة على شجاعته وفروسيته بحضور عمه حاكم شيزر).

كما يفند السيد الآلوسي مزاعم مؤنس باتهام أسامة بالعمالة للإفرنج لمجرد سرده معايشته معهم أيام السلم وذكره عاداتهم وتقاليدهم في كتابه (الإعتبار) فيقول: (أما اتهام مؤنس أسامة بالعمالة والخيانة لمجرد صداقته مع رجال (الداوية) ـ وهم فرسان الإفرنج ـ فأسامة يذكرها في كتابه (الإعتبار) وهي لا تعدو إعجاب الشجاع بشجاعة خصمه، وأسامة كان يردد إطراءه في غير موضع من كتابه (الإعتبار) بشجاعة الإفرنج، وما عدا الشجاعة فهم كالبهائم، ويظهر لي إن الدكتور غفل تلك الصلات التي كانت سائدة بين المتحاربين ولا سيما أيام تقع بينهم وبين المسلمين الهدنة).

ولكن مؤنس لم يكتف باتهام أسامة بالعمالة بل انتقص من أدبه وشعره وكتبه وخاصة كتابه (الإعتبار) الذي يعد وثيقة مهمة لتاريخ حقبة من أهم حقب التاريخ الإسلامي وقد حظي بعناية واهتمام وإعجاب الدارسين والمؤرخين والمستشرقين، غير أن مؤنس تهجّم على كل من أثنى على الكتاب وقام بالحط من شعر أسامة الذي كان في الذروة من شعر عصره وانتقد أسلوبه في الكتابة.

يقول السيد الآلوسي في الرد على تهجّم مؤنس وشنه هذه الحملة على أسامة وأدبه: (وذم أسلوب كتاب الإعتبار، وأسامة لم يرد إلا إعطاء فكرة عن الحروب الصليبية بإسلوب القصاص على طريقة المذكرات كتبها أو الأصح أملاها وقد تجاوز التسعين عاما فجاء كتابه خير وثيقة تاريخية لتلك الحقبة وصورة واضحة القسمات للحياة الإجتماعية التي كان يحياها أمراء الشام من جهة وما كان يقع بينهم من المنافسات والإنقسامات بدافع التسلط وحب التملك، وما يقع بينهم وبين الإفرنج من جهة أخرى، كانوا يتزاورون ويتبادلون البضائع والصنائع ويستفيدون من حضارة المسلمين.

فانبهم على الدكتور أمر هذه العلاقات فراح يتهم أسامة ومعين الدين أنر وغيرهما من الأبطال المجاهدين بالخيانة والعمالة والذلة، وطمس على جهادهم ونسي ما لقيه أسامة في الحروب التي خاضها مع عماد الدين ومعين الدين وابن السلار)

وفي نهاية حديثه يقول السيد الآلوسي: (في الواقع إن الصواب قد جانف بحث الدكتور مؤنس في كتابه (نور الدين محمود) عن آل منقذ وعن أسامة بالذات)

إلى هنا انتهى كلام الآلوسي ونضيف إلى رده بتساؤل لمؤنس وهو: إذا كان أسامة من المتعاونين مع الإفرنج والعاملين على تأييد سلطانهم كما تزعم فلِمَ حطموا السفينة التي كانت تقل أهله وسرقوا أمواله منهم وتركوهم في حالة يرثى لها وأتلفوا كتبه البالغة أربعة آلاف كتاب ؟

لا إله إلا الله وحسبنا الله ونعم الوكيل إن كلام مؤنس هذا يستدعينا استنطاق التاريخ لينظر القارئ من هم الذين نصروا الإسلام ودافعوا عن بلاد المسلمين ومن هم الذين خذلوه وانهمكوا في اللذائذ وسلب الأموال وكفوا أيديهم عن نصرة بلاد الإسلام مستقلين بالبلاد التي يحكمونها تاركين الروم يزحفون على المسلمين ويسقطون المدينة تلو الأخرى

فقد كانت أغلب بلاد المسلمين قبل أن يغزوها الروم بيد السلجوقيين، وقد استقل كل منهم بولاية أو مقاطعة وراح يطمع أن يزيد في أملاكه، وكان السبب الرئيسي في الإنهيار الذي أصاب المسلمين وغزو الصليبيين لبلادهم هو طمع السلجوقيين الأتراك وسياستهم التوسعية الإستبدادية فقد جبلوا على الغزو والسلب والنهب والتسلط والأبهة وما يُجبى لهم من الأموال التي يصرفونها على ملاذهم وكانوا يغيرون على المدن الآمنة يسرقون وينهبون ويسبون غير آبهين بما يصيب المسلمين من كوارث ومحن وما يحل ببلاد الإسلام من الخراب والدمار والقتل والأسر.

وفي الوقت الذي كانت فيه دولة بني عمار الشيعية الصغيرة الفتية تقاتل الروم الصليبيين على ساحل طرابلس وهي محاصرة وتسجل أروع صفحات المجد في حروبها معهم، فقد بقي أميرها الحسن بن عمار يقاتل الصليبيين خمس سنين ولما رأى أن أعدادهم تتزايد وخطرهم يستفحل وإمداداتهم تتوالى ذهب إلى بغداد يطلب الإمدادات من السلاجقة لكنهم خذلوه فرجع يقاتل الروم حتى سقوط طرابلس.

وحينما أرسل الخليفة العباسي نداءات الإستغاثة إلى السلاجقة لدفع خطر الروم كانوا لا يأبهون لندائه كما لم تحركهم النداءات المتتالية من الموصل والجزيرة والقاهرة.

فمن هم الذين خذلوا المسلمين وتركوا الروم يزحفون على بلاد الإسلام ؟ نترك الجواب للقارئ

اضف تعليق