q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

العقل، الحرية

أسئلة في الفاعلية النقدية

في كتابه "روافد النهضة والتنوير - مرويات فكرية "، يرصد (سعد محمد رحيم) إشكالية العقل / الحرية، معتقداً أن الأسئلة التي تثار حول هذين المفهومين تتصل بشبكة أسئلة كثيرة تتفرع منها، وتشتبك بثنائية أخرى هي (السلطة - المعرفة) على صعيد التاثير والتداخل والتباعد والتآلف والصدام.

وبطبيعة الحال؛ لا يمكن طرح السؤال الخاص بالمعرفة من دون الخوض في معوقات تحققها، ونفس الحالة تنطبق على سؤال الحرية، مع التشديد على ضرورة الإجابة على السؤال المحوري: ماذا تعني الحرية؟ ثم الخوض في جدليات ( الذات الإنسانية، الأمة، الدولة، المجتمع، التاريخ، التقنية، التحديث، الآخر)، فيقول: " وبذلك نضع الذات المتحررة مقابل الأخرى المستلبة، أو المتماهية والذائبة في كل او مطلق (المجتمع، الدولة، الدين، العشيرة،… الخ)، ونضع الأمة وهويتها مقابل الآخر، ونحيط بمفهوم الدولة في إطار شكل الحكم، وموضوعات الديمقراطية والاستبداد والشرعية وبمفهوم المجتمع، وذلك بتحليل بنى الطبقات، والحركات والأدوار الإجتماعية، وبمفهوم التاريخ في ضمن جدليات العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل والصيرورة والتواصل والانقطاع، وعتبات التحول الكبرى، والتنمية والتقدم الاقتصادي. وأخيراً أن نحدد شكل فهمنا، وعلاقتنا مع الآخر (الغرب) بوجوهه (الاستعمار، المدنية، التنوير) ".

يضعنا سعد محمد رحيم هنا أمام علاقات متشابكة بعضها مع البعض الآخر، وذلك في علاقة تقابلية بين ذات متحررة وأخرى مستلبة، من دون أن يغفل السياقات المجتمعية والتاريخية، وتركيزه على جدلية العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، في رؤية تختلف عن تلك التي ينادي بها بعض الحداثيين بضرورة الانطلاق من اللحظة الراهنة دون الإلتفات إلى الوراء. كما يعتقد أن سؤال الحرية يظل مبتوراً دون تحقق شرط الاستقلالية الذاتية للعقل البشري، وهنا تبرز إشكالية تأويل عبارة استقلالية العقل التي من شأنها التعامل مع الحالة الإنسانية بفاعلية نقدية.

استقلالية الفكر

بما أن استقلال العقل، وعدم خضوعه لسلطة مادية، او عقائدية شاطحة، هو ماسيقود إلى تفعيل الممارسة النقدية، فإن ذلك لايعني أن الطرق تعبدت لهذه الممارسة، بل أن مطبات تتعلق بآليات جعل الفكر مستقلاً هي ماسيعرض الفاعلية النقدية إلى تأخير وتباطؤ.

فلو أخذنا الجانب العقائدي مثلا، كيف لنا أن نجعل العقل السلفي المتشرب بالأفكار العدائية، والتي تصل بتطرفها إلى شرعنة قتل المخالف، بذرائع الإنقياد والتسليم والطاعة لله ومبادئ الدين الحنيف، بل والتنظير المعرفي لهذا التطرف، عبر دعاة أصبحوا يمثلون (سلفاً صالحاً)، وهم في الحقيقة صاروا علامة للانحدار الفكري والأخلاقي، ومظهراً من مظاهر الانحراف عن المعايير الحضارية، عبر التمسك بتراث تدويني ملغوم بالتزييف والانحراف الممنهج عن المقاصد النقية التي جاءت بها الأديان السماوية بشكل عام، وأكد عليها الإسلام الحنيف بشكل خاص، بعد أن خُتمت به رسالات السماء.

من جانب آخر، كيف يمكن تفعيل النقد لعقل تعود الخضوع لمفاهيم اللبرلة والعلمنة من جهة، وتشرب بالنزعات المادية الالحادية من جهة أخرى، ويدعو لتذويب الهويات والخصوصيات في المادة، والغاء العقائد، والانقياد اللاعقلاني لسلطة العقل المجرد من وظيفته ؟

حتماً سيستمر صراع الأضداد المتنافرة، في حيز من الوجود البشري القلق والملتهب.

إنَّ التبعية التي يخضع العقل لها، واستسلامه لأفكار معينة من دون رصيد أو تحليل أو تمحيص ؛ ستكون لها تأثيراتها السلبية. ولتقليص الفجوة التي تحدثها تلك التبعية ؛ لابد من التوقف على أسبابها اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، ومعالجة هذه المشكلات بالصيغ التي تضمن عدم بتر العلائق مع الحضارة وتمظهراتها، والتقوية بالعمل الجاد وعدم الاكتفاء بالتنظير. ومن دون هذه الجهود، سيظل الكلام عن استقلالية العقل مجرد أوهام أو خيالات بعيدة، قد نصل بعدها إلى حالة (استقالة العقل) من وظيفته الكبرى.

الوسطية وتصادم القيم

تبقى عملية تجديد الفهم من قضية العلاقة مع الآخر الغربي، من مكملات الوصول لمفهوم الحرية، لكن هذا المفهوم قد تعترض طريقه القيم المتصادمة؛ بسبب تباين الخصوصيات ال حضارية.

هذا التصادم يبلور صراعاً دائراً ومحتدماً بين المنادين بإلغاء الخصوصية، والقائلين بالإبقاء عليها، ومدى إسهام الحضارات المختلفة -عبر تداخلها- في صياغة المستقبل، والسؤال حول منطقية هذا التداخل، أو التسليم بأن لكل حضارة سياقاتها وأنساقها الثقافية.

ومن جهة ثانية، كيف سيؤثر هذا التصادم في قضية حضور أو غياب الفعل النقدي لفكر يتبنى مشاريع نهضوية؟.

قد يكون المشروع النهضوي متلكئاً، لكن الرهان سيظل على مستقبل يعتمد الوسطية، سواء في القيم، أو في التعاطي مع الآخر، بحيث لايتم التسليم المطلق بكل مقولاته، ولا المناداة بهجرها انقياداً لمُسَلّمات قديمة، صار من الضروري الالتفات الى تجديدها مفاهيمياً وتنظيرياً وعملياً.

نحتاج اليوم، وأكثر من أي وقت، إلى لملمة العقل المتشظي بين موروث مختلف عليه، وأمواج عاتية من الحداثات المتناسلة من حداثة للآن نختلف على تعريفها.

اضف تعليق