q

يقول المستر راس في كتابه (إيران وإيرانيان): (إن الملوك الصفوية لم يدعوا الخلافة كملوك الروم، لكونهم شيعيين، ولكنهم تمكنوا من بث روح الدين الإسلامي أكثر من سلاطين آل عثمان بحذقهم واستقلالهم، وكانوا ـ لأنهم ساسة شيعة ـ محترمين عند ملوك دكن، وبلغ من احترامهم لهم أن يرسلوا بناتهم إلى إيران لمصاهرتهم، وقد أدخلوا (بابر) و(همايون) ملكي المغول الشهيرين تحت سيطرتهم لنصرهم لهما إلى أن مالا إلى التشيّع، ولم يكتفوا بذلك بل كانوا يرسلون من وقت لآخر الشعراء والعلماء للدعوة إلى التشيّع في الهند من مثل عرفي ونظيري الشاعرين الشهيرين والحكيم فتح الله والقاضي نور الله التستري العالم الشهير، والحق أنه لو لم تجن الأقدار على الدولة الصفوية لكانت اليوم في الهند سلطة شيعية وحيدة).

إعلان التشيع وتأسيس الدول

عندما أعلن الشاه إسماعيل الصفوي المذهب الشيعي المذهب الرسمي في إيران كان إعلانه بمثابة الحلم الذي تحقق للشيعة والذين عانوا لسنوات طويلة من الظلم والاضطهاد على يد السياسات المعادية للتشيّع وخاصة العثمانيين فهاجروا إليها، كما كانت هجرة علماء الشيعة إلى إيران وخاصة من جبل عامل انبثاق لميلاد حضارة علمية ونهضة ثقافية لا تزال آثارها باقية إلى الآن.

ولم تنحصر تلك الحضارة على إيران وحدها بل أشرقت على الكثير من البلاد الإسلامية ومنها الهند التي تدين بالفضل للدولة الصفوية في نشر التشيّع في ربوعها، كمال تدين لها بالفضل في تأسيس دول شيعية كان لها دور كبير وفاعل في تاريخها السياسي، حيث سجلت تلك الدول أروع دروس النضال وقدمت أعظم التضحيات في مقارعة الاحتلال البريطاني عبر قرون طويلة حتى تحقيق الاستقلال الكامل.

دول الشيعة

تكللت مساعي الصفويين بعد الجهود الكبيرة لنشر لواء التشيع في الهند بإقامة أربع دول شيعية مستقلة فيها هي: العادل شاهية، والقطب شاهية (كولكندة) والنظام شاهية ودولة أودة.

أشرقت هذه الدول في سماء الهند بحضارة ثقافية وعلمية وعمرانية لا نظير لها، وساهمت مساهمة كبيرة في تاريخ الهند السياسي والعلمي والفكري والأدبي، فعاشت الهند في عصر هذه الدول ذروة نموها الحضاري والثقافي والعمراني، وأصبحت هذه الحواضر من أهم المراكز العلمية والثقافية في العالم الإسلامي وملتقى رجال العلم والفكر والأدب، فكان لهذه النهضة الثقافية والحضارية أثر كبير ودور عظيم على مدى قرون عديدة، وبفضل هذه الدول ترسّخَ التشيّع في تلك البلاد، وعلت كلمته ونشرت علوم أهل البيت، وأقيمت المآتم الحسينية، وبُنيت الحسينيات ومجالس الوعظ، وكرمت هذه الدول العلماء الوافدين إليها من العراق ولبنان وإيران والبحرين والشام وسخّرت كل إمكانياتها في سبيل نشر مذهب أهل البيت (عليهم السلام) حتى دخل الكثير من الوثنيين إلى الإسلام بفضل هذه الدول.

أثر أهل البيت (عليهم السلام) في الرقي بالمجتمع

يقول المستر أرنولد في كتابه: (بريجنك أوف إسلام): (إن راجات الوثنيين كانوا يحسنون المعاملة مع وعاظ الشيعة وتجارهم، وقد اعتنق التشيّع جماعة كبيرة من الوثنيين بمساعي هؤلاء الوعاظ).

ربما تحيل هذه المعلومة القارئ إلى أثر فكر أهل البيت (عليهم السلام) ووصاياهم في الدعوة إلى الحق وفي سبيل الارتقاء بسلوك الإنسان والاقتداء بهم (عليهم السلام) لخلق مجتمع فاضل تسوده الأخلاق الحميدة والثقة والطمأنينة.

فهؤلاء الوعّاظ والتجّار الشيعة الذين كانوا يعاملون الراجات بمثل المعاملة الحسنة التي يعاملونهم بها قد عملوا بوصية الامام الصادق (عليه السلام) حينما أصى أصحابه بقوله: (كونوا لنا دعاة صامتين)، فقالوا: يا ابن رسول الله وكيف ندعو إليكم ونحن صموت ؟ فقال (عليه السلام): تعملون ما أمرناكم به من العمل بطاعة الله وتتناهون عما نهيناكم عنه من ارتكاب محارم الله، و تعاملون الناس بالصدق والعدل، وتؤدون الأمانة، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، ولا يطلع الناس منكم إلا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه قالوا: هؤلاء الفلانية رحم الله فلاناً، ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه وعلموا فضل ما كان عندنا فسارعوا إليه.

أشهد على أبي محمد بن علي رضوان الله عليه ورحمته و بركاته لقد سمعته يقول: كان أولياؤنا وشيعتنا فيما مضى خير من كانوا فيه، إن كان إمام مسجد في الحي كان منهم، و إن كان مؤذن في القبيلة كان منهم، وإن كان صاحب وديعة كان منهم، وإن كان صاحب أمانة كان منهم، و إن كان عالم من الناس يقصدونه لدينهم، و مصالح أمورهم كان منهم، فكونوا أنتم كذلك، حببونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم).

مملكة كولكندة أو القطب شاهية ـ التأسيس

أسس هذه الدولة القائد التركماني سلطان قلي قطب شاه (860 ـ 950هـ) الذي ينحدر إلى أمراء قبيلة (قراقوينلو) التركية الشيعية ـ الخروف الأسود ـ التي نزحت في العهد الجلائري نحو الشرق لتبسط نفوذها على إقليم آذربيجان والمناطق المركزية في إيران والعراق، وقد استمر حكم هذه الدولة (القطب شاهية) أو (مملكة كولكندا) لأكثر من قرنين (918 ـ 1099هـ/1512 ـ 1687م)، وقد توالى على حكمها سبعة ملوك هم:

1 ـ السلطان قلي قطب شاه (918 ـ 950هـ/1518-1543م)

2 ـ جمشيد قلي قطب شاه (950 ـ 957هـ/1543-1550م)

3 ـ إبراهيم قلي قطب شاه (957 ـ 987هـ/1550 ـ 1580م)

4 ـ محمد قلي قطب شاه (989 ـ 1020هـ/1580-1612م)

5 ـ السلطان محمد قطب شاه (1020 ـ 1035هـ/1612-1626م)

6 ـ عبد الله قطب شاه (1035 ـ 1083هـ/1626-1672م)

7 ـ أبو الحسن تانا شاه (1083 ـ 1096هـ/1672 ـ 1687م)

ولد السلطان قلي قطب شاه ـ مؤسس مملكة كولكندا ـ ابن الأمير أويس في قرية (أسعد آباد) من قرى همدان في إيران، وقد أدرك نهاية حكم عائلته لبغداد عام (874هـ) والذي دام لمدة ستين سنة حيث حلت محلها قبيلة (آق قوينلو) ـ الخروف الأبيض ـ السنية وكان له من العمر (14) عاماً، لكن هذه الدولة الجديدة لم تبقَ على حكم العراق أكثر من أربعين سنة حتى اكتسحتها الدولة الصفوية.

إلى الهند

اكتسب قلي مهارات القيادة من عائلته المتجذرة في الإمارة، وبعد انقراض دولة عائلته سافر إلى الهند عام (788هـ/1475م)، وهناك التقى بالشاه محمود بهمني الذي عينه بمنصب أمير في دولته لما أبداه قلي من كفاءة في الأمور العسكرية حيث كلفه الشاه محمود ببعض المهام فوجد فيه مؤهلات القيادة، ثم صار قائده العام، ثم عينه والياً على (كولكندة)، وأطلق عليه لقب (قطب الملك)، ثم أعلن استقلاله بعد وفاة الشاه محمود وتضعضع الدولة البهنمية وإعلان الحركة الإنفصالية في أكثر البلاد التي كانت خاضعة للدولة البهنمية.

إعلان التشيع

كان قلي من المخلصين للدولة الصفوية ولما أعلن الشاه إسماعيل الصفوي التشيع المذهب الرسمي في إيران، حذا حذوه مع يوسف عادل شاه ملك المملكة (العادل شاهية)، وبنى السلطان قلي حسينية (بادشاهي عاشور خانه)، وقد خاض مع الممالك الأخرى حروباً خرج منها منتصراً مظفراً، حيث استطاع ضمّ الكثير من الممالك إلى حكومته حتى انتهت حياته عام (950هـ) بمقتله وقد ناهز التسعين، وكانت مدة حكومته (60) عاماً كان منها (16) سنة في نيابة محمود البهمني و(44) عاماً مستقلاً بحكم (كولكندة).

وهكذا أرسى قلي قواعد دولة قوية متماسكة سميت بكولكندة، والقطب شاهية، وحيدر آباد، وقد توارث أبناؤه على الملك فيها، فحققت هذه الدولة الكثير من الانجازات العظيمة على الصعيد العلمي والفكري والأدبي والاجتماعي والسياسي، كما بقيت تلك الانجازات ترفد هذه الأصعدة على المدى البعيد.

كما كانت هذه الدولة أنموذجا يحتذى به العدل والحرية والمدنية، فقد سادت العدالة الاجتماعية في هذه الدولة وخاصة في عهد محمد قلي قطب شاه إلى درجة تساوي الشعب، فكان يحضر الخصومات بنفسه ولا يفرق بين الشيعي والسني والهندوسي، بل يعطي لكل ذي حق حقه كما سادت الحرية المذهبية والتسامح الديني، فقد عاش السنة والهندوس في ظل هذه الدولة حياة ملؤها الحرية والكرامة وتحقيق العدالة.

النهضة العلمية في كولكندة

أول ما يثير إعجاب المتتبع لأخبار هذه الدولة هو الاهتمام البالغ والرعاية الخاصة التي أولاها حكامها للعلم والعلماء الذين كانوا يفدون عليها من العراق ولبنان وإيران والبحرين وبلاد الشام، فكان مجلسهم يضم الفقهاء والعلماء والشعراء، وقد برز الكثير من العلماء الأفذاذ الذين أغنوا الحركة العلمية بمنجزاتهم وآثارهم.

أعلام كولكندة

سماء كولكندة مشرقة بالنجوم والأعلام الشاخصة الذين كان لهم دور كبير في رفد الحركة العلمية والأدبية الإسلامية وكان أبرز من ضمتهم كولكندة من هؤلاء العلماء: السيد عبد الرحيم الحساوي، والسيد عبد القادر الحسيني الشيرازي، ومحمد بن علي بن خاتون العاملي، والشيخ أحمد كجراتي، والسيد محمد مؤمن الأسترابادي، والسيد محمد أمين الشهرستاني، وزين العابدين بن عبد الحي الموسوي، وعلي خان المدني، وحسين بن شهاب الدين العاملي، وعلي بن طيفور البسطامي، وغيرهم.

كما احتضن أمراء كولكندة ما لا يحصى من الأدباء والشعراء وخاصة في عهد محمد قلي قطب شاه، وعبد الله قطب شاه الذين كانا شاعرين كبيرين، فقد وصِفَ السلطان محمد قلي قطب شاه بأنه (مرب للشعراء) وكان شاعراُ مجيداُ من أكبر شعراء الهند، وله قصائد كثيرة في مدح الأئمة ورثاء الحسين (عليه السلام)، وشعره دكني عليه مسحة فارسية.

أما في عصر السلطان عبد الله قطب شاه فقد نشط الأدب بشكل عام حتى اشتهرت كولكندة بنهضتها الأدبية في عموم الهند، ومن أبرز شعراء كولكندة: ابن نشاطي وابن معصوم الشيرازي (صاحب الدرجات الرفيعة) وحسين بن شهاب الدين العاملي وغيرهم الكثير.

أهم آثار كولكندة

من أبرز الآثار التي لا تزال شاخصة وشاهدة على الحضارة التي بنتها هذه الدولة في بلاد الهند هي قلعة (كولاس) التي بنيت في عهد جمشيد بن قلي، ومن آثارهم أيضاً البحيرة التي أنشأها إبراهيم بن قلي لتزود المدينة للشرب والسقي، وبنى محمد قلي قطب شاه مدينة (حيدر آباد) تيمّناً باسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وجعلها عاصمة له، ومن آثاره أيضاً (جار منار) الذي يعد من أبرز الآثار الإسلامية في الهند، وحسينية (باد شاهي عاشور خانه)، وبلغت كولكندة في عصر هذا السلطان أوج عظمتها وازدهارها واستقرارها سياسياً واقتصادياً وتنموياً وحضارياً، كما بلغت العلاقة بين كولكندة والدولة الصفوية ذروتها من التعاون وتبادل المصالح المشتركة، وقد أقيمت في عهد هذا السلطان المآتم الحسينية على أوسع نطاق، ومن آثار هذه الدولة (مكة مسجد) الذي بني في عهد محمد قطب شاه.

نهاية كولكندة

بقيت كولكندة ترفد العالم الإسلامي بنهضتها الحضارية حتى هبت عليها رياح المغول في عهد آخر ملوكها أبي الحسن المعروف بـ (تانا شاه) بعد حروب عدة مع (أورنك زيب عالم كبر) ملك المغول الذي استولى على حيدر آباد وسجن أبا الحسن وذلك عام (1115هـ).

وهكذا كتب على هذه الدولة الزوال كما كتب على غيرها بعد أن دام حكمها لأكثر من قرنين سطعت فيها على تلك البلاد بالمعارف والعلوم والعمران حتى زوالها، ولكن آثارها بقيت إلى الآن شاهدة تحكي عن عمق تلك الحضارة والعصر الذهبي الذي عاشته كولكندة والذي يعد في طليعة الأدوار الحضارية في تاريخ الهند.

ولا تزال قبور سلاطين كولكندة ـ القطب شاهية ـ تقع على مسافة كيلو متر واحد تقريباً على شمال جدار كولكوندة الخارجي. وتتكون هذه الهياكل من الحجارة المنحوتة بشكل جميل، وتحيط بها الحدائق، و هي مفتوحة للجمهور و يتم استقبال الزوار فيها.

اضف تعليق