q

بمستوى الوعي واليقظة لدى أي مجتمع وأمة، يكون التغيير والتطوير، ولا فرق بين أن يكون هذا الوعي سياسياً يدفع ليس فقط نحو الاطاحة بالديكتاتوريات، وإنما بالثقافة الديكتاتورية ويسعى نحو ثقافة الديمقراطية والتعددية، وبين أن يكون اقتصادياً ايضاً، بحيث يدفع نحو النمو والتقدم وايجاد الآليات والاساليب والشروط المطلوبة، كذلك الحال في الوعي الامني او الوعي الاجتماعي.

لذا نلاحظ أن المفكرين الساعين الى تغيير حقيقي في بلادهم، يتّسمون بالعمق والشمولية في افكارهم ونظرياتهم، ويجعلون المجتمع يفكر بطريقة متكاملة في معالجته للأزمات وتحليله للظواهر. مثال ذلك؛ الديكتاتورية، كيف تتولد؟ وما هي البيئة التي تنمو فيها؟ هذه الاسئلة وغيرها، حول قضايا وظواهر عديدة، من شأنها ان تفتح آفاقاً للثقافة والمعرفة تفضي بالنتيجة الى صياغة حلول عملية.

إذن؛ نحن أمام تغيير حقيقي ثم مشروع بناء حضاري عظيم يشارك فيه الجميع، من صغير وكبير، وعالم ومتعلم، ورجل وإمرأة، وجميع الشرائح والفئات. وهنا تحديداً يحصل الاصطدام – في كثير من الاحيان- بين هذا الطموح الجماهيري العارم، وبين الطموح الفئوي الخاص لطامحين نحو السلطة والباحثين عن مصالح شخصية او فئوية، وحتى لا تحصل القطيعة بين قمة الهرم والقاعدة او بين النخبة والجماهير، حيث الحاجة دائماً قائمة في اقامة هذه العلاقة، نشهد جملة من الفعاليات الثقافية والفكرية، بل حتى رعاية هذه الفعاليات بشكل رسمي بهيج، حيث هنالك التكريم والتبجيل وتوزيع الهدايا والامتيازات المغرية التي من شأنها ان تنسي كل شيء...!

لكن لماذا هذا الخوف من "تعميق الوعي" ونشر الثقافة الصحيحة والبناءة...؟

إن نظرة خاطفة على منهج وسلوك النخبة السياسية والثقافية، يجيب بسهولة عن هذا السؤال القديم – الجديد.

إن الديكتاتورية – مثلاً- والعنف والاستئثار بالسلطة والمال وغيرها من النوازع النفسية التي تستفحل عند كل طامح للظهور والاستئثار على حساب الآخرين. لذا نلاحظ هذه الحالة موجودة في رجال الانقلاب العسكري، كما نجدها ايضاً في بعض النخب الثقافية، كما تظهر حتى في بعض التجمعات الصغيرة داخل المجتمع. فليس من المهم معرفة لماذا اتخذ هذا القرار دون غيره، او من هو الذي يتخذ القرار؟ او من هم...؟!ولماذا يتم التركيز على هذا المحور والجانب دون غيره؟ إنما المهم، المسايرة والموافقة، ثم التصفيق والتهليل...

ولعل هذا يفسر بوضوح استمرار الديكتاتورية كمفهوم وتطبيق عملي في بلدان انتفضت وضحّت بالغالي والنفيس للقضاء على هذه الديكتاتورية، وكذلك بالنسبة للعنف، مثال ذلك، العراق، الذي عانى ما عانى من هذه الظاهرة المرضية الفتاكة، فمع وجود الكم الهائل من التنظير والتثقيف قبل وبعد حقبة الديكتاتورية (الصدامية)، نلاحظ العنف، ظاهرة اجتماعية وسلوك سياسي لا يمكن بأي حال من الاحوال المساس به. كذلك الحال بالنسبة للاستبداد بالرأي والاستئثار بالسلطة والمال.

من هنا؛ نجد ان الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- يحذر بشدّة من ظاهرة التسطيح في الوعي والثقافة في معظم احاديثه ومؤلفاته، ومنها كتابه "لكيلا تتنازعوا" فهو عندما يعلّمنا الألف فانه يمضي بنا الى حيث تعلّم الياء ايضاً، فالقضية ليست في إثارة المشاعر والاحاسيس ضد قضية معينة او ظاهرة، مثل الاستعمار – مثلاً- او الحاكم الظالم الذي يسرق قوت الشعب ويكبت الحريات، لان النتائج واضحة على ارض الواقع، إنما المهم البحث عن الخلفيات والجذور، ثم المعالجة الناجعة والحقيقية. فعندما يتحدث عن محاربة علماء الدين الناشطين في المجال الثقافي والفكري، فانه يسلط الضوء على اسلوب السلطة في التعامل مع مكانة العالم بين الجماهير، فهي لا تلغي او تحارب هذه المكانة، إنما "تمدح وتكرم كل رجل دين لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر ولا يتدخل في الشؤون الاجتماعية، وكان المسؤولون في الدولة يزورون كل من هو على هذه الشاكلة...". ويتذكر سماحته في كتابه كيف أن اتهامات بالعمالة للاجنبي توجه الى علماء الدين الحقيقيين منذ العهد الملكي ثم الجمهوري.

هذا التوجه التسطيحي – إن صحّ التعبير- في الثقافة، هو الذي يجعل الناس لا يعيرون اهمية للمشاركة في مشاريع اجتماعية وثقافية او حتى ما يتعلق بتطوير الخدمات في المناطق السكنية، مثل تشكيل لجان للنظافة او لمتابعة التبذير في الماء والكهرباء والتجاوزات الحاصلة على المال العام، فضلاً عن المشاركة في مشاريع مثل تشييد المكتبات او صناديق التسليف او تشكيل منتديات قرآنية وغيرها، لان الكثير يعدونها ربما بمنزلة "التغريد خارج السرب" او السباحة عكس التيار وغير ذلك، فلا بأس من المسايرة وعدم إثارة المشاكل...! وهذا ما يعبّر عنه سماحة الامام الرحال بـ "مصادرة الوعي"، وعندما يقل منسوب الوعي، بالتأكيد تقل قدرة الانسان على تحمل المسؤولية الاجتماعية والثقافية العامة. ثم يتحدث سماحته عن تجاربه في هذا المجال، عندما يشير الى مخاوف البعض من الحديث عن الاقتصاد وحقوق العمال والفلاحين خوفاً من اتهامهم باستنساخ النظريات الرأسمالية او الاشتراكية، او الحديث او الحريات الاسلامية خوفاً من الاتهام بالانحراف عن المبادئ والقيم...! او ربما الاتهام بتطبيق العكس، بفرض المزيد من القيود والالتزامات غير المبررة، كما حصل في تجارب فاشلة في بعض البلاد.

واذا كانت حقاً ثمة نوايا حقيقية للتغيير والتطوير التي تستحقها بلادنا، وفي مقدمتها العراق، فلابد من العمق في التفكير والنفاذ في الرؤية فـ "بدون الرؤية لا يتحقق الوعي، كما انه بدون الممارسة الصحيحة لا تكمل الرؤية". وهذا يتطلب نهضة شاملة واسعة النطاق في القاعدة الجماهيرية تخرجنا من حالة التسطيح والتعويم في الافكار وعدم التوقف عند الظواهر ثم التباكي على النتائج المؤلمة.

اضف تعليق