q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

عرض تحليلي لمباحث القوانين التاريخية وعللها ونتائجها

الدراسات التاريخية وجدلية البناء الحضاري (9)

د. هيثم الحلي الحسيني

 

البحث في قوانين فلسفة التاريخ وتطبيقاتها

جرى البحث في المبحث الأول من الفصل الأول من الكتاب، الموسوم "مقدمات فلسفة التاريخ"، في مادة مقدمات البحث، فهو يعبر عن مبانيه في عنوانه، وفي الفصل الثاني الموسوم "عناصر روح التاريخ"، يجري البحث في المباني التأسيسية لمادة الكتاب، وقد جرى عرضهما التحليلي، في المبحثين السابقين، من هذه الدراسة، أما الجوانب التأصيلية، ومخرجات البحث، فقد عرض لهما الكتاب، في فصوله اللاحقة، والذي سيكون نطاق هذه الحلقة، والتي ستليها من الدراسة، وبضمنها المدخلات الملامسة، للجوانب الفكرية في البحث.

إذ يعرض الفصل الثالث، من الكتاب موضوع الدراسة، الموسوم "الأسباب التاريخية"، ومن بعده الفصل الرابع الموسوم "سنن الله تعالى، هي الأسباب الجامعة"، والخامس الموسوم "التاريخ صراع بين الحق والباطل"، والسادس الموسوم "محكمة التاريخ"، الى تطبيقات قوانين فلسفة التاريخ، ومدركاتها العملية، في مساق حركة التاريخ، بما تفرزه من مخرجات بحثية تحليلية، تنتهي الى تفسير الوقائع التاريخية، واستدلال مخرجاتها، في الفاعل الزماني والمكاني.

ومن ثم ينتهي الكتاب في فصله السابع والأخير، الموسوم "وحدة الاشتراك في الحضارات"، الى عرض لنماذج تاريخية، في الحضارات الإنسانية، خاصة من خارج ثقافات الأديان السماوية، التي يعبّر عنها إسلامياً، بأهل الكتاب، إذ يمثل هذا الفصل، إسقاطات نظرية، لقوانين فلسفة التاريخ، في حركته ومساراته، وتطبيقاتها على أرض الواقع، في الزمان والمكان، في وحدة المبدأ والهدف، ليكون هذا الفصل، مصداقاً لما جرى البحث فيه، في متن مباحث الكتاب.

وعليه سيعرض هذا المبحث من "الدراسة"، لمجمل مباحث هذه الفصول، التي تمثل المتن التأصيلي في الكتاب، إذ شكّلت الفصول التي سبقتها، المقدمات الشكلية والمنهجية، والمتن التأسيسي فيه، وستنصرف المباحث اللاحقة منها، لدراسة المخرجات البحثية، في الكتاب ومادته، فضلا عن المباني المحورية في فلسفة التأريخ.

عرض لمباحث "الأسباب التاريخية"

عرض الباحث في الفصل الثالث، لموضوعة الأسباب التاريخية، من خلال عناوين فرعية، بدأها بمادة افتتاحية، في عنواني "إمداد الله للإنسان"، و"لئن شكرتم لأزيدنكم"، يخلص فيهما الى أن الإنسان مهما بلغ من العلم، لا يمكن أن يستوعب كل الشروط والخصوصيات، في السنن الإلهية، كونها ليست مطلقة غير مشروطة، ولا عامة غير مخصصة.

ثم يعرض الى العنوان المحوري في هذا الفصل، وهو "مقومات الحضارة"، إذ تذكر مسألته، بأن المبادئ المتينة لصناعة الحضارة، تقوم على الانسجام مع العقل والفطرة والرجال الصلحاء، وهي سمة القيم السماوية، وهو بذلك يتقاطع وبعض الرؤى الغربية، التي ترجع قيام الحضارة، الى طائفة الإرستقراطيين المنتهزين، في أدوات التفسير، عند هيجل ونيتشة وميكافيلي، الذين يجعلون شخصيات التاريخ والسياسة، فوق مستوى القيم الأخلاقية، مما يلقي بأثره، في الدراسات التاريخية، في الفاعل غير السليم، لعامل "القوة" المجردة أو الغاشمة، ضمن معايير حركة التاريخ.

وينظر الباحث في عنوان "معايير حركة التاريخ"، إلى مفهوم "القوة"، فيخلص الى أن مظاهرها ليست القوة العسكرية أو السياسية حسب، وإنما العلمية والاقتصادية والعقدية أو الدينية والاجتماعية كذلك، وذلك تبعا لعوامل الزمان والمكان، والسجال بين القوتين المادية والمعنوية.

فترى "الدراسة"، إن هذه المقاربة لموضوعة "القوة"، التي خلص لها البحث، تتماهى ومبدأ "القدرة" في الأدييات الاستراتيجية، أو مبدأ القوة الشاملة، التي من خلالها يجري الفرز، بين الاستراتيجية العسكرية Military Strategy من جهة، والاستراتيجية الكبرى أو العظمى أو الوطنية Grand Strategy، من جهة أخرى، وفق متبنيات الاستخدام الشامل لها، المعتمدة على مرتكزاتها الأربعة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدفاعية أو العسكرية.

ويخلص البحث في هذا العنوان، الى أن الدين هو المنتصر، كونه يوافق العقل والفطرة، فهو يكمل الثلاثية معهما، وفق دراسات العقيدة والأخلاق، وعليه فإن تقييم حركة التاريخ، يجب أن يجري وفق معايير حقيقية، ليس من بينها النصر أو الهزيمة، بل وفق الإسهام الحضاري، وهذا يعبٍّر عن المأثور الشائع، في تحليل نتائج الأعمال العسكرية، وفق الرؤية الاستراتيجية، بأن "الهزيمة يتيمة، بينما للنصر ألف أب".

وعليه يرى الباحث أن التاريخ يعكس صورة المجتمع، ويتماهى معه في أن كلاهما "لا يتمتع بالوجود والوحدة والشخصية الحقيقية الخارجية، بالمعنى الفلسفي لا بالمعنى الحقيقي"، مما يفرض على المؤرخ الموضوعي، أن يؤرخ للأفراد، وكذا للمجموعات، وللحكومات والدول، ولمجموعات الدول، أو الحضارات، وفق مدركات فلاسفة التاريخ، ليجري التعبير عن روح التاريخ، كما هو التعبير عن روح المجتمع.

التعليل التاريخي والسيطرة على التاريخ

وفي عنوان "التعليل التاريخي والتعليل الفلسفي"، يجري الباحث مقارنة بين المنهجين في التعليل، القائمين على العلّة التاريخية، والعلة الفلسفية، فيخلص الى أن التعليل في المنهج التاريخي، هو نقلي تجريبي تحليلي، فهو تسجيل وتقرير، بينما التعليل في المنهج الفلسفي التاريخي، هو تأملّي قبلي، فهو تأليف وتركيب.

ويخلص عنوانا "السيطرة على التاريخ"، و"معرفة الأسباب"، الى خلاصة مهمة جريئة، وهي في ضرورة الأخذ بأسباب التقدم لغرض تحقيقه، فقد تأخّر المسلمون، لتأخّرهم في الأخذ بأسباب التقدم، وقد ظلّ المسلمون يحرصون على العبادات حصراً، لكنهم فقدوا سنّة التقدم في الحياة، من العدل في موضعه، والمساواة في موضعها.

وعليه فإن استقراء فلسفة التاريخ وروحه العامة، ترتبط بمعرفة أسباب التقدم وأسباب التأخر، وأسباب النهوض وأسباب السقوط، فضلاً عن استيعاب سائر المعارف والعلوم، ذات الصلة بدراسة الموضوع.

العرض التحليلي لمباحث السنن الإلهية

في الفصل الرابع من الكتاب موضوع الدراسة، الموسوم "سنن الله تعالى"، يجري البحث في عناوين فرعية بنيوية، وفي صدرها "السنن الإلهية هي الأسباب الجامعة"، الذي يخلص فيه الى أن القضايا الجامعة، قد جعلها الله تعالى، مطلقة أو مقيدة، في أمور متشابهة، مثل سنن "بعث الأنبياء"، و"الابتلاء في الدنيا"، وسنة الامتحان الجارية في الشؤون الفردية والجمعية.

وفي عنوان"السنن الدنيوية"، يفرّع فيه السنن الى أخروية ودنيوية، وأخرى مشتركة بينهما، إذ تكون السنن الدنيوية، مرتبطة إما بالمجتمع أو بالفرد، وفي عنوان "التاريخ ارتداد مستقبلي"، يخلص الى أن الله تعالى، هو خير مطلق، ولا يصدر منه إلّا الخير، فالشر يرجع الى فاعله، من غير فرق في النية والقول والعمل، والرجوع قد يكون قريباً أو بعيداً أو متوسطاً.

مقاربة لمباحث الصراع التاريخي في النص المقدس

في الفصل الخامس من الكتاب موضوع الدراسة، الموسوم "التاريخ صراع بين الحق والباطل"، مباحث تستوجب التوقف والتدبّر، إذ أن البحث في ظاهر عنوانه، يستنير بفلسفة التاريخ، الى موضوعة الصراع الحضاري، وجزئية الصراع بين القيم فيه، وبالتالي حتمية انتصار قيم الحق على الباطل، من خلال الأدلّة النقلية والعقلية، لكن ميزة البحث برمتّه، إنه بمثابة فصل قرآني بامتياز، كونه يعتمد أدلته البحثية، من خلال استدلالات النص القرآني، ووفق المنهج القرآني، إذ يصلح لعنوان استقراء الصراع القيمي التاريخي في النص القرآني المقدس، فهو يستقرئ الروح العامة للتاريخ، من بصائر النصوص القرآنية المقدسة حصراً.

وعليه فهو في البدء منه، منهج نقلي محكم، بمعنى أن الباحث لا ينتوي إثبات النص في مرجعيته وسنده، لكونه نص مقدس "لا يأتيه الباطل"، من وجهة الحجة العقدية، كما أنه نص لا خلاف فيه، من وجهة الحجة المنهجية النقلية، فضلاً عن أن المنهج العقلي، هو حاضر في هذا المتن، لجهة الدليل العقلي في حتمية نصرة الحق، إذ أن التاريخ في فلسفته وحقيقته، قائم على مبادئ معنوية، تستهدف فهم الحقيقة، والفصل بين الحق والباطل، وإلّا فإن السرد المادي للتاريخ، لا يمثل إلا وسيلة لاستنتاج الحقائق المعنوية، وهذا المعنى شاخص في عنوان "انتصار الحق على الباطل".

فيتبين إن الباحث المجدد، يبني استنتاجاته المطلقة في هذا الفصل، من خلال استقراء النصوص القرآنية، أو التبصر والتدبر في قراءتها المعمقة، فهو منهج تاريخي محكم، يستنبط فيه كلياته من البصائر القرآنية، ليكون الباحث تعبيراً عن المؤرخ والفقيه في آن، أو كما يعبر عنه المجدد نفسه، بالفقيه المؤرخ، أو المؤرخ الفقيه، في دعوته للمؤرخ الفقيه، الذي يهدف الى التفقه في المسألة، لإصدار الأحكام، أن يتحقق من الواقعة التاريخية، بموضوعية وتجرد.

ويفهم من هذا المسمّى، الجامع بين دالّتي الفقه والتاريخ، أنه يصدر أحكامه التاريخية الفلسفية، في تقييم الوقائع التاريخية، استدلالاً من الحجّة الفقهية، كما أنه قد يصدر أحكامه الفقهية الشرعية، مستدلاً في الحجة التاريخية، وهكذا في الثنائية التبادلية بين الدليل الفقهي والدليل التاريخي، الذي تعتقده هذه "الدراسة"، أنه من الأدلة المدخلية والموضوعية، مع الأدلة الأربعة، في استنباط الأحكام الشرعية.

وكذا أن هذا الفصل المحوري من الكتاب، على اختصاره وإيجازه غير المخل، يثبت أن العلوم التاريخية الفلسفية، في استقراء قوانينها الجامعة للعلل والأسباب، لا تكون مطلقة في جزئياتها وكلياتها، إلّا من خلال مدخليات العلوم القرآنية، والتي قد يكون في تصنيفاتها المفترضة، تضمين العلوم التاريخية، في تفريعاتها البحثية المنهجية، التي قد تنأى في التفسير القرآني، عن تداعيات مدركات التأويل وتخرّصات "الهيرمينوطيقا".

وهذا المعنى مستقرأ في عنوان "انتصار الحق على الباطل"، و"حتمية استئصال الباطل"، وفي "تعدد العنوان ووحدة المعنون"، وكذا عنوان "سنة انتصار أهل الحق"، ليكون الاستنتاج النهائي لمخرجات البحث، الثابت في خاتمة هذا العنوان، هو أن "سنن الله التي سنها في عباده، تشكل في مجموعها ما يسمّى بفلسفة التاريخ"، وعليه فإن الدراسة التاريخية في النص القرآني، تستخرج مخرجاتها، من ذات قوانين فلسفة التاريخ.

إن فحوى هذا الاستنتاج، هو الإدراك بالحتمية التاريخية لانتصار الحق على الباطل، بسائر أشكالهما وعناوينهما وتوصيفاتهما، إن في الزمان أو المكان، وهو أمر مستدل من فلسفة التاريخ، والروح العامة له، كما هو مبني على النص القرآني المقدس، والمسلمات العقدية، ويؤكد الباحث منشأ هذه الحتمية، الى الظواهر التي تحدد وقوعها، شروط لا تقبل الاستثناء، في افتراضات أن النظام الكوني، متكرر الوقوع باطراد، وتحكمه العلاقة بين العلّة والمعلول، وبين السبب والمسبب، بحكم القوانين الكلية العامة.

ولغرض الربط بين المتبنيات العقدية، المبنية على النص النقلي المقدس، وبين القوانين الكلّية الجامعة، في الروح العامة للدراسة التاريخية، يتمثل الباحث نموذجاً في ما يسمى "الاستئصال"، وهو أقسى مراحل العقوبة الإلهية، إذ يعدّه الباحث من فلسفة التاريخ، وهو أيضاً إحدى السنن الإلهية القطعية، التي لا تختلف بين الأمم والجماعات، وهو ما ينسجم تماماً مع الأمر الإلهي، بالسير في الأرض، والنظر فيها، ليعلم الإنسان نتائج أعمال السابقين، التي ترشد للحتمية التاريخية، في انتصار الحق.

اضف تعليق