q

جاءوا برأسِكَ يا بن بنتِ محمدٍ *** مترمّلاً بدمائه ترميلا

وكأنما بكَ يا بن بنت محمدٍ *** قتلوا جهاراً عامدينَ رسولا

قتلوك عطشاناً ولمّا يرقبوا *** في قتلكَ التنزيلَ والتأويلا

و يكبّرون بأن قُتلت وإنما *** قتلوا بكَ التكبيرَ والتهليلا

*************************************

أصبحتُ ملقىً في الفراشِ سقيما *** أجدُ النسيمَ من السقامِ سموما

ماءٌ من العبراتِ حرّى أرضه *** لو كان من مطرٍ لكان هزيما

وبلابلٌ لو انهنَّ مآكلٌ *** لم تُخطىء الغسلينَ والزقوما

وكرىً يرى عنّي سرى لو أنه *** ظِلٌ لكانَ الحرَّ واليحموما

مرّت بقلبي ذكرياتُ بني الهدى *** فنسيتُ منها الروحَ والتهويما

ونظرتُ سبطَ محمدٍ في كربلا *** فرداً يعاني حزنَه المكظوما

تنحو أضالعَه سيوفُ أميةٍ *** فتراهم الصمصومَ فالصمصوما

فالجسمُ أضحى في الصعيدِ موزَّعاً *** والرأسُ أمسى في الصعادِ كريما

هذا الشعر وغيره الكثير الذي يحمل نفس النَفس الحسيني لم يقله شاعره في زمن يشفع لمن يقول مثله عند السلطة من القتل أو التغييب في غياهب السجون أو التعرض لأقسى أنواع التعذيب والتنكيل، فقد عاش شاعره في أكثر مراحل الدولة العباسية بطشاً وقسوة وطغياناً وعاصر أعتى طواغيت بني العباس وأكثرهم دموية وإرهاباً.

الصوت الهادر

ولكن كل وسائل الإرهاب التي مارسها العباسيون بحق أهل البيت وشيعتهم ومواليهم لم تمنع ديك الجن الحمصي من الجهر بالحق، ولم تستطع أجهزة تكميم الأفواه ومصادرة الحريات وهدر الدماء العباسية من إسكات صوت هذا الشاعر وإخماد نفسه الولائي الصادح بحب أهل البيت (عليهم السلام) والمجاهر بمظلوميتهم وإثارة النفوس ضد ظالميهم من الأمويين والعباسيين ولا سيما التنديد بالجريمة البشعة التي ارتكبها الأمويون بقتلهم سبط النبي (صلى الله عليه وآله) الإمام الحسين في كربلاء، ومما قاله وهو يستذكر واقعة الطف ويستحضر صورها في ذلك الجو المشحون بالإرهاب ووسائل القمع العباسية:

أين الحسينُ، وقتلى من بني حسنٍ، *** وجعفرٍ وعقيلٍ ؟ غالهم عمرُ

قتلى يحنُّ اليها البيتُ والحجرُ *** شوقاً، وتبكيهمُ الآياتُ والسورُ

ماتَ الحسينُ بأيدٍ في مغائظها *** طولٌ عليه وفي إشفاقِها قِصَرُ

لا درَّ درُّ الأعادي عندما وتروا *** ودرَّ درُّكِ ما تحوينَ يا حُفَرُ

لما رأوا طرقاتِ الصبرِ معرضةً *** إلى لقاءٍ ولقيا رحمةٍ صبروا

قالوا لأنفسهم: يا حبذا نهلٌ *** محمدٌ وعليٌّ بعده صدرُ

رِدُوا هنيئاً مريئاً آلَ فاطمةٍ *** حوضَ الردى فارتضوا بالقتلِ واصطبروا

الحوضُ حوضُكم والجدُّ جدُّكمُ *** وعند ربّكم في خلقةٍ غِيَرُ

حكام الإرهاب العباسي

ولد الشاعر أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن مزيد بن تميم الكلبي الحمصي سنة (١٦١هـ) بسلمية وتوفي سنة (٢٣٥هـ) أي إنه عاصر أربعة خلفاء من بني العباس هم: المهدي والهادي والرشيد والمأمون أشد حكام بني العباس عداءً لأهل البيت وشيعتهم، وأكثرهم إجراماً بحق الشيعة وتعد فترة حكمهم من أقسى الفترات التي مر بها شعراء الشيعة.

فقد مارس هؤلاء الطغاة الأربعة كل أنواع البطش والتنكيل ضد شعراء أهل البيت فحُورب الشعراء، وطُوردوا، وقتّلوا وعذّبوا بأشد أنواع العذاب من أجل عقيدتهم ومبدأهم ولكن رغم ذلك فأن أسم الحسين (عليه السلام) وكربلاء لم ينقطع عن أفواه شعراء الحقيقة في تلك الحقبة الدامية، فنجد دعبلاً الخزاعي يقول: (إني أحمل خشبتي على كتفي عشرين عاماً لا أجد من يصلبني عليها) ! وهو يتلذذ بالتشريد والتنكيل والسجون من أجل عقيدته فيقول في تائيته:

أحبُّ قَصي الدارِ من أجلِ حبّكم *** وأهجرُ فيكم زوجتي وبناتي

كما نجد في قصة الشاعر عبد الله البرقي خير مثال عن الشعراء الذين عُرفوا في ذلك الوقت بشدة ولائهم وتمسكهم بمنهج أهل البيت (عليهم السلام) فعندما يسمع المتوكل قصيدته والتي منها:

فقلدوها لأهل البيت أنهم *** صنو النبي وأنتم غير صنوانِ

وهي قصيدة طويلة في مدح أهل البيت (ع) والتعريض ببني العباس يأمر بقطع لسانه وإحراق ديوانه فمات بعد ذلك بأيام قليلة.

ومن الشعراء من لم يسلم حتى في قبره فـ (تتبعوه رميما) كما جرى للشاعر منصور النمري عندما أمر الرشيد بقطع لسانه وقتله وقطع رأسه لما سمع عنه أنه رثى الحسين(عليه السلام) فأخبروه بأنه قد مات فأمر بنبش قبره !!

في تلك الفترة الدموية التي سادها الإرهاب ووجهت السلطة فيها كل قوّتها وسخّرت كل وسائلها لقمع الشيعة والتشيع ومحق كل ما يمت بصلة بأهل البيت عاش الشاعر ديك الجن.

ديك الجن في عيون التاريخ

قبل أن نصحب هذا الشاعر في شعره الولائي ورحلة حياته والكشف عن جوانبها وما رافقها من أحداث، وقبل الخوض في دراسة خصائص أدبه وتوجهاته وما تركه أدبه من تأثير في محيط مجتمعه، نرى من المهم النظر إليه من نافذة التاريخ وما رسمه المؤرخون من صورة له وما شكّله شعره من تأثير في زمنه:

وصفته المصادر بأنه: (شاعر الدنيا، وصاحب الشهرة بالأدب، فاق شعراء عصره، وطار ذكره، وشعره في الأمصار حتى صاروا يبذلون الأموال للقطعة من شعره).

قال عنه أبو الفرج الأصفهاني في (الأغاني/ ج14ص51): (كان شاعراً مجيداً على مذهب أبي تمام والشاميين شديد التشيّع).

وقال عنه ابن رشيق القيرواني في (العمدة في الشعر والشعراء): (من المعدودين في إجادة الرثاء، وهو أشهر فيه من أبي تمام، وله فيه طريق انفرد بها، وقد قصده الشاعر دعبل الخزاعي مع ما له من مكانة كبيرة في الشعر إلى بلده ونعته بـ (أشعر الجن والانس) !!

وقصده أيضاً أبو نؤاس ليقول له: (فتنت أهل العراق بشعرك) !

كما عدّه ابن شهر آشوب من شعراء أهل البيت (عليهم السلام) وقال في صفته: (افتتن الناس بشعره في العراق وهو في الشام حتى إنه أعطى أبا تمام قطعة من شعره وقال له: يا فتى اكتسب بهذا واستعن به على قولك، فنفعه في العلم والمعاش)

وقال عنه ابن خلكان: (وهو من أهل سلمية ولم يفارق الشام مع أن خلفاء بني العباس في عصره ببغداد فلا رحل إلى العراق ولا إلى غيره منتجعاً بشعره، وكان يتشيّع تشيّعاً حسناً، وله مراث في الحسين (عليه السلام).

تهميش الشاعر وتضييع شعره

والآن بعد أن أطالعنا المكانة المتميزة التي احتلها ديك الجن في كتب التاريخ ألا يقتضينا الإنصاف أن نستجوب التاريخ والمؤرخين عن سبب التعتيم والتهميش الذي كان نصيبه في حياته وبعد مماته ؟

أليس من العجيب إن شاعراً مجيداً على مذهب أبي تمام والشاميين، و من المعدودين في إجادة الرثاء، وهو أشهر فيه من أبي تمام نفسه، وله فيه طريق انفرد بها، ثم لا تجد من المؤرخين والكتاب والدارسين من أولاه اهتمامه وعني بدراسة حياته وبيئته وآثاره وما تميّز به شعره من خصائص؟

أليس عجيباً أن شاعراً قصده أشهر شاعرين في عصرهما ونعتوه بـ (أشعر الجن والإنس) و(فتنت أهل العراق بشعرك) ثم لا تجد من يتناول هذا الشعر الذي فتن أهل الشعر وهم أهل العراق بالدراسة والبحث ؟

أليس من العجيب أن عصراً ضجّ بالمؤرخين والمؤلفين واللغويين والنحويين والشعراء والأدباء، وراجت فيه صناعة الورق، وأخذ الناس يتنافسون في اقتناء الكتب واتخاذ المكتبات، وتغلغلت الثقافة في جميع الأوساط حتى أوساط العامة، ثم لم ينل شاعر يعدّ في طليعة شعراء ذلك العصر ما هو أهل له من العناية والاهتمام فتجد العبارة تبعث على الحزن والدهشة معاً يرددّها كل من يتعرض لذكر هذا الشاعر أو يترجم له وهي: (إن كثيراً من شعره قد ضاع) أو (ضاع أغلب شعره) وغيرها من شبيهاتها.

عناية المؤرخين بشعراء البلاط

إن المطالع للتاريخ الأدبي العربي ليجد أن شعراء كانوا دون ديك الجن في جميع الخصائص الفنية قد نالوا أكثر مما يستحقون من الإهتمام وخُصّوا بكتابة الدراسات والبحوث عنهم ثم يهمل شعر من فتن أهل العراق بشعره !!

وربما سيستشف القارئ الإجابة الواضحة في سبب ذلك من المؤرخين أنفسهم، فقد كان للبلاط العباسي ومجالس لهو الخليفة و(فتوحاته الحمراء العظيمة) دور كبير في شهرة الشعراء فهذه هي سوقهم التي يبيعون فيها شعرهم وضمائرهم.

كما كان للنزعة المذهبية والصراع الفكري والايديولوجي أكبر الأثر في إسدال ستار الإهمال والإشاحة عن هذا الشاعر الكبير.

فهذا الشاعر الذي قصده دعبل الخزاعي مع ما له من مكانة كبيرة في الشعر إلى بلده ونعته بـ (أشعر الجن والانس)، وقصده أبو نؤاس ليقول له: (فتنت أهل العراق بشعرك). لم يمدح أحداً من الخلفاء أو الولاة أو القادة أو حتى من له أدنى صلة بالبلاط العباسي، ولم يبع شعره على تجار نخاسة الشعر من السلاطين والأمراء، ولم يتزلّف بشعره لأحد على غير عادة أغلب شعراء ذلك العصر الذين يأتون من أقاصي البلاد فتمتلئ بهم مجالس الخلفاء والولاة وهم يتسابقون لاكتساب الجوائز والهبات.

جريمة التشيع لدى المؤرخين والدارسين !

كان ديك الجن متعففّاً عن قصد الملوك متفرّداً عن شعراء عصره حتى إنه لم يفارق الشام مع أن خلفاء بني العباس في عصره ببغداد فلا رحل إلى العراق ولا إلى غيره متّجراً بشعره، وكان (يتشيّع تشيّعاً حسناً) كما وصفه ابن خلكان، و(شديد التشيّع) كما وصفه الأصفهاني في الأغاني.

ويمكننا ان نعزو السبب في ضياع شعر ديك الجن إلى هذه الصفة (يتشيّع تشيّعاً حسناً) و(شديد التشيّع)، بل نجزم إن تشيّعه كان السبب ليس في إهمال شعره فقط، بل والتهجّم عليه وإلصاق ما لم يكن به كما قال الشاعر:

وعينُ الرضا عن كل سوءٍ كليلةٌ *** ولكن عينَ السوءِ تُبدي المساويا

فتشيّع ديك الجن وحده كان كافياً لاتهامه بالشعوبية رغم أنه عربي أصيل، من قبيلة عربية عريقة، ولد في أعرق البلاد العربية، كما كان تشيّعه كافياً لـ (ضياع شعره)

فخر القبيلة بالإسلام

فهو من قبيلة (كلب) العربية التي كان منها البطل الشهيد يوم الطف وهب بن الحباب الكلبي، والشهيد عبد الله بن عمير الكلبي (رضوان الله عليهما) اللذين استشهدا بين يدي الحسين (عليه السلام) والشاعر عندما يفتخر بقبيلته، فهو يفتخر بما قدمت من تضحيات في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ومناصرة الحق في معارك أُحد و مؤتة وصفين وكربلاء فيقول معدداً أمجاد قبيلته في نصرة الإسلام:

غداة مؤتة والشراكُ مكتهلٌ *** والدينُ أمرد لم يفع فيحتلم

وعيّرتنا وما ان طُلّ في أحدِ *** وطلّ في مؤتةٍ والدين لم يرمِ

ويوم صفين من بعد الخريبة كم *** دم أطل لنصر الدين إثر دمِ

وفي الفراتِ فداءُ السبطِ قد تركتْ *** اشلاؤنا في الوغى لحماً على وصمِ

فقبيلته حمت الإسلام بدماء رجالها في ميادين الحروب مع النبي (صلى الله عليه وآله)، والوصي، وسيد الشهداء (عليهما السلام):

ان تعبسي لدمٍ منا هريق بها *** فقد حقّنا دمَ الإسلامِ فابتسمي

إخفاء شعره الشيعي

ونلمس آثار الحقد على التشيّع من قصة جمع شعره، ففي سنة (1960) كان هناك من التفت إلى شعره المتناثر في بطون الكتب طوال (1110) سنوات وهي الفترة بين وفاة الشاعر ديك الجن وذلك التاريخ (1960) ! فعُني بجمعه الأستاذان عبد المعين الملوحي ومحيي الدين الدرويش الحمصيان فاجتمع عندهما (109) نماذج بين قصيدة وقطعة في (417) بيتاً تم جمعها في ديوان سمّي بـ (ديوان ديك الجن الحمصي) وطبع في مئة وثلاثين صفحة.

ولكن هذا الديوان خلا من أي بيت في حق أهل البيت (عليهم السلام) من مدح ورثاء حتى كأن الشاعر قد عاش في زمن الجاهلية ولم يدرك الإسلام ولم يعرف أهل البيت ولينظر القارئ إلى مقدار الحقد الذي حمله هؤلاء على التشيع خاصة عندما يُقارن اهتمامهم بدراسة شعراء البلاط وشعرهم في مدح خلفاء الليالي الحمراء وجلسات الخمر والمجون !

للأمانة أهلها

ولكن كان هناك من يحمل هذه الأمانة الأدبية والتاريخية على أتم وجه ويبرز الحقائق ناصعة بعيداً عن التعصّب والتزييف، إذ قام الدكتور أحمد مطلوب والأستاذ عبد الله الجبوري بجمع كل ما وجداه من شعر ديك الجن ومن ضمنه قصائد الشاعر في حق أهل البيت (عليهم السلام) والتي لم يستطع الملوحي والدرويش أن يتحملاها، وقد اعتمد مطلوب والجبوري على نسخة من ديوان ديك الجن جمعها بعناية وأمانة أدبية الشيخ محمد السماوي صاحب كتاب إبصار العين بنفسه وكتبها بخط يده وقد أرسلها إليهما الشيخ محمد علي اليعقوبي بعد أن اشتراها، وكان الشيخ السماوي قد جعل هذه النسخة في فصلين: الأول ما قاله ديك الجن في أهل البيت (عليهم السلام) ويضم ثماني قصائد في (156) بيتاً والثاني ما قاله في فنون مختلفة ويضم (39) قصيدة في (278) بيتاً ولنا أن نتساءل أي أمانة يحملها أمثال الملوحي والدرويش وقد أخفيا هذا الكم من القصائد لشاعر كبير كان ذنبه الوحيد تشيّعه وحبه لأهل البيت !

ديك الجن وشعره

وصفت المصادر الأدبية ديك الجن بأنه كان متميزاً بإسلوبه الشعري المتين، ذي البناء السبك، مع رقة المعاني، ودقة النسج، وصدق الصورة، والجزالة في الألفاظ، وقد تعددت الأغراض في شعره، فخاض كل فنونه وأبدع فيها، وتجلّى الإبداع في تصوير الخصوبة في صبغته.

قال عنه السيد جواد شبر في (أدب الطف): (يعد الشاعر ديك الجن في طليعة شعراء القرن الثالث الهجري ومن ابرزهم في الرثاء ، ولم يجاره في مدح آل البيت ورثائهم الا السيد الحميري وشعره يقوم دليلاً قوياً على انه شاعر مطبوع ترتاح له النفس وتتذوقه الاسماع والقلوب ، وولاؤه لأهل البيت ظاهر على شعره).

أما لقبه فقد تعددت الروايات بشأنه فقيل: سمي بـ (ديك الجن) (لأن عينيه كانتا خضراوين) كما قال بذلك الزركلي في الأعلام (ج4)، وقيل غير ذلك في روايات كثيرة. أما اشهر هذه الروايات في تلقيبه بـ ( ديك الجن) فهي لقصيدة قالها في رثاء ديك كان لأحد اصدقائه قد ذبحه وأقام منه مائدة دعا إليها الشاعر.

كما أشارت المصادر إلى أنه لم يبرح مدينته حمص حتى توفي فيها، ولم يذكر التاريخ عن نشأته وحياته وبيئته شيئاً سوى أحداث وقصص حدثت للشاعر في حياته آثرنا عدم ذكرها لتباينها البعيد، فقد أولع المؤرخون في التماهي مع خيالهم في نسج القصص والزيادة فيها حتى أغرقوا في أحداثها إلى حد الأسطورة والخيال.

شعر الولاء

أما شعره فقد طفح عليه العبق الولائي لأهل البيت (عليهم السلام) ومنه الأبيات المشهورة والتي لازال يتردد صداها الى الآن في رثاء سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام:

جاءوا برأسِكَ يا بن بنت محمدٍ *** مترمّلاً بدمائه ترميلا

وكأنما بكَ يا بن بنت محمدٍ *** قتلوا جهاراً عامدينَ رسولا

قتلوك عطشاناً ولمّا يرقبوا *** في قتلك التنزيل والتأويلا

و يكبّرون بأن قُتلت وإنما *** قتلوا بك التكبير والتهليلا

وله في هذا الشأن قصائد مفجعة تقطر ألماً وحزناً تفصح عما انطوى عليه قلبه من أنين وعينه من دموع ونفسه من أسى وحسرة كما في هذه القصيدة:

يا عين لا للغضا ولا للكتبِ *** بكا الرزايا سوى بكا الأدبِ

جودي وجدي بملء جفنك ثمّ *** احتفلي بالدموع وانسكبي

ياعين في كربلا مقابر قد *** تركنَ قلبي مقابرَ الكربِ

مقابرٌ تحتها منابرُ من *** علمٍ وحلمٍ ومنظرٍ عجبِ

وتبقى كربلاء متجسدة

وفي قصيدة أخرى يصور الإمام الحسين (عليه السلام) وهو ملقى على صعيد كربلاء وقد حفت به الجثث الطاهرة من أهل بيته وأصحابه:

لابد أن يحشر القتيل وأن *** يُسأل ذو قتله عن السببِ

فالويل والنار والثبور لمن *** قد أسلموه للجمرِ واللهبِ

يا صفوة الله في خلائقه *** وأكرم الأعجمين والعربِ

انتم بدور الهدى وأنجمه *** ودوحة المكرماتِ والحسبِ

وساسة الحوض يومَ لانهل *** لمورديكم موارد العطبِ

فكرت فيكم وفي المصاب *** فما انفك قودي يعوم في عجبِ

ما زلتم في الحياة بينهم *** بين قتيل وبين مستلبِ

قد كان في هجركم رضى بكم *** وكم رضى مشرج على غضب

وتبقى واقعة الطف عالقة في ذهن ديك الجن ولا تفارق صورها المأساوية وجدانه فتلتهب لها قريحته ويذوب لها فؤاده فيصب ما اعتمل في صدره في شعره يقول من قصيدة:

أبكيكمُ يا بني التقوى وأعولكم *** وأشربُ الصبرَ وهو الصابُ والصبرُ

في كلِ يومٍ لقلبي من تذكركم *** تغريبةٌ ولدمعي فيكمُ سفرُ

موتاً وقتلاً بهاماتٍ مغلقةٍ *** من هاشمٍ غابَ عنها النصرُ والظفرُ

علي بن أبي طالب (عليه السلام)

أما علي بن ابي طالب فهو ينبوع الفضائل والمآثر والمعاجز والبطولات وهو الحق الأبلج والعلم الواضح وهو وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) من والى غيره فهو يتخبط في عشواء مظلمة... هذا ما قاله الشاعر:

أنسى علياً وتفنيد الغواة له *** وفي غدٍ يعرف الأفّاك والأشرُ

من ذا الذي كلمته البيد والشجرُ *** وسلّم التربُ اذ ناداه والحجرُ

أم من حوى قصبات السبق دونهمُ *** يوم القليب وفي أعناقهم زَوَرُ

أليس قام رسول الله يخطبهم *** وقال: مولاكم ذا أيها البشرُ

هذه هي عقيدة الشاعر التي كانت شجى في أفواه الكثير فلم يتعرّضوا لشعره ولم يتحملوه وكيف يتحملوه وقد امتلأت قلوبهم بالأحقاد الأموية ...؟ وماذا يقولون في هذا الشعر الذي بدت فيه الحقيقة واضحة ناصعة جلية؟ ولكن نفوسهم أبت إلا الضلال:

ومن كعليٍ اذا ما دعوا *** نزالاً وقد قلّ من ينزلُ

تراه يقدّ جسومَ الرجال *** فيندحر الأوّل الأوّلُ

وكم ضربةٍ واصلت كفه *** لفيصله فاحتوى الفيصلُ

سطا يوم بدرٍ بقرضابهِ *** وفي اُحدٍ لم يزل يحملُ

ومن بأسه فُتحت خيبرٌ *** ولم ينجها بابها المقفلُ

وما أربعين ذراعاً بها *** هزبرٌ له دانت الاشبلُ

فعلي (عليه السلام) هو وصي النبي (صلى الله عليه وآله) بالحق وهو أولى الناس بالخلافة ومن نازعه فيها كان ظالماً له كافراً بما جاء به النبي:

قد كان في هجركم رضى بكم *** وكم رضى مشرج على غضبِ

حتى إذا أودع النبي شجا *** قيد لهاة القصاقص الحربِ

مع بعيدين أحرزا نسباً *** مع بعد دار عن ذلك النسبِ

ما كأن تيمٌ لهاشمٍ بأخٍ *** ولا عديٍ لأحمد بأبِ

لكن حديثَ عداوةٍ وقلى *** تهوراً في غيابةِ الشقبِ

قاما بدعوى في الظلم غالبةٍ *** وحجة جزلة من الكذبِ

من ثم أوصى به نبيكم *** نصا فأبدى عداوة الكلبِ

ومن هناك انبرى الزمان لهم *** بعد التياط بغاربٍ جشب

لا تسلقوني بحد السنتكم *** ما أرب الظالمين من أربي

وعلي سيد الأوصياء وإن ادعى غيره الوصاية كذباً وزوراً وإن طبّل لهم المرجفون والمتزلفون وأصوات الضلال فالشاعر فُتن بأمير المؤمنين (عليه السلام) وصفاته وشجاعته وبطولته:

يا سيدَ الاوصياءِ والعالي *** الحجة والمرتضى وذا الرتبِ

إن يسر جيشُ الهمومِ منكَ *** إلى شمسِ منى والمقامِ والحجبِ

فربما تقْعَصُ الكماةُ بإقدامك *** قعصاً يُجثى على الركبِ

وربَّ مقورّةٍ ململمةٍ *** في عارضٍ للحمامِ منسكبِ

فللت ارجاءها وجحفلها *** بذي صقالٍ كوامضِ الشهبِ

أو أسمر الصدر أصفر أزرق *** الرأس وإن كان أحمر الحلبِ

أودى عليٌ صلى على روحه *** الله صلاة طويلة الدأبِ

فحب أهل البيت هو شرف ديك الجن الذي تمسك به طوال حياته ولم يحد عنه:

شرفي محبةُ معشرٍ *** شرقوا بسورةِ هل أتى

وولايَ فيمن فتكه *** لذوي الضلالة أخبتا

وإذا تكلم في الهدى *** جحّ الغوي وأسكتا

فلفتكه ولهديه *** سماه ذو العرشِ الفتى

ثبتٌ إذا قد ماسوا *** في المهاوي زلتا

لم يعبد الأصنام قط *** ولا أراب ولا عتا

صنوان هذا منذرٌ *** وافى ، وذا هادٍ أتى

يهدي لما أوفى به *** حكم الكتابِ وأثبتا

فهو القرين له وما *** افترقا بصيف أو شتا

لكنما الأعداء لم *** يدعوه أن يتلفتا

ثقل الهدى وكتابه *** بعد النبي تشتتا

واحسرتا من غضبه *** وسكوته ، واحسرتا

طالت حياة عدوه *** حتى متى ، وإلى متى ؟

توفي ديك الجن الحمصي سنة (235هـ /850م) عن (74) عاماً، وكما كان يفرض وجوده وشاعريته بهدوء ومقدرة بعيداً عن مزاحمة الشعراء ومنافستهم في تكسبهم، فهم في راحة منه بجريه في غير حلبتهم وغير ميدانهم فلم يعنهم أمره، فقد رحل دون أن يكون لرحيله تأثير على منهجهم فلم يهمهم رحيله ايضاً، وكما لم يمدحه أو يهجه أحد منهم فلم يرثه ايضاً أي أحد منهم وربما كان هذا الموضوع أول مرثية له.

اضف تعليق