q

روى أحدهم ممن شارك في قتل الحسين "ان الله لم يجعل من الرحمة شيء في قلوبنا" وهو يصف فعلهم في قتل واستباحة معسكر الحسين، فهم عمدوا إلى الطفل الرضيع فقتلوه على صدر أبيه الحسين (ع)، لكن هناك دموع كانت تترقرق على خد الحسين وشيبته، ولم يكن لها من المعنى إلا الرأفة والرحمة بهؤلاء القوم الذين "سيدخلون النار بسبب قتلي"، هكذا قال الحسين (ع)، وأنى لقلوب أن تفقه ما قال الحسين بعد إن تخلت قلوبهم عن مفتتح الذكر "بسم الله الرحمن الرحيم" وأعلنوا حربهم على بيوت أذن ألله أن ترفع ويذكر فيها أسمه ومفتتح ذكره "الرحمن الرحيم"، فمن أين للرحمة سبيلا إلى قلوبهم؟

لقد بدأت مسيرة الرأفة والرحمة في يوم الحسين (ع) منذ أن بلغته كتب القوم وكتب في وصيته لأخيه محمد ابن الحنفية "اني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي"، وحين يخلو الحسين وقلب الحسين من الشر والبطر والفساد والظلم أفلا تملأ الرحمة والرأفة كيانه وقلبه؟ فقد استقبله ألف فارس ممن يطلبون قتله أو أسره إلى عبيد الله بن زياد وعلى رأسهم الحر بن يزيد الرياحي وقد أمر أن لا يفارق الحسين حتى يقدم به إلى الكوفة، لكن الظمأ والعطش أصاب القوم وخيلهم، وفي منقطع الطريق، وفي الصحراء وهو مقبل على الحرب أمر فتيانه أن "أسقوا القوم وأرووهم من الماء" وقال لهم "رشفوا الخيل ترشيفا". وروى أحدهم وهو في هذا الجيش الذي يطلب قتل الحسين أو أسره أن الحسين خاطبه " يأبن الأخ أنخ الجمل فأنخته فقال أشرب فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين "أخنث السقاء أي أعطفه فلم أدري كيف أفعل فقام فخنثه فشربت وسقي الفرس". وهل هذا إلا مبلغ الرأفة والرحمة الأبوية التي اختصت بها وجمعتها وظيفة الإمامة ومنصبها؟

فالإمامة هي الأبوة الروحية للأمة، وهو معنى حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله "أنا وعلي أبوا هذه الأمة "، وكان يذكر في مسيرته بآثار الظلم نقيض الرحمة، ويذكر نفسه وأصحابه إن الله يمقت الظلم، فقد قال لعبد الله ابن عمر "يا أبا عبد الرحمن أما علمت أن من هوان الدنيا على الله تعالى أن رأس يحيى أبن زكريا يهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، أما تعلم أن بني إسرائيل كانوا يقتلون مابين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيا ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئا".

ولأنها الرحمة الخفاقة في قلب الإمامة فإنها لا تجتمع في الحياة والظلم، ولذلك قال عليه السلام "ما أرى الحياة مع هؤلاء الظالمين إلا برما ولا أرى الموت إلا سعادة" وقد شاء أن يختار طريق الموت وحده، ورحمة ورأفة بقومه وصحبه، فأباح لهم مغادرته وأنهم في حل من أمره. فقد روى علي ابن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) ما جرى من حديث بين أبيه عليه السلام وصحبه حين أدرك إصرار القوم على قتله فلا غاية لهم في صلح أو تدارك لهم في أمر إلا قتل ابن فاطمة فالقتل مزمع عليه، خرج الحسين أو لم يخرج، قام بأمر الإمامة أو قعد عنها، فقال لهم وقد أقترب مساء العاشر "أما بعد فاني لا اعلم أصحابا خير من أصحابي ولا أهل بيت أبر وأوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا.. ألا وإني لا أظن يوما لنا من هؤلاء، ألا وأني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم حرج مني ولا ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا".

وأنى لقلوب قد نهمت الرحمة ونمت بالرأفة وهي تغشى جداول الحسين في حله ورحله أن تدع الحسين يلاقي الهموم بصدره منفردا ويواجه أسياف العدا بمهجته مغتربا؟ فالرحمة أبجدية الدين، والرأفة درس الإمامة فيهم، فقد كان الحسين يجالس فقرائهم ويشارك المساكين في طعامهم كما الرواية في مناقبه فأجمعوا على القول "لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟" وكان قول ابن عوسجة وزهير بن القين يفصح عن سر الحب في تعلق القوم بالحسين والحب في تجربته البشرية والإلهية، شواطئه الرحمة والرأفة ودونه الهوى أو اللحظة العابرة، لكنه الرسوخ الذي حدا بمحمد ابن بشر الحضرمي أن يقول للحسين "أكلتني السباع حيا أن فارقتك" وكان الحسين قد أمره أن يذهب لفكاك أسر ولده وقد بلغه الخبر وهو في أرض الطفوف بكربلاء، فما كان من الحسين إلا أن يستعين بلباسه وأثوابه البرود وهي لباس أشراف الناس بفدائه باعثا اليه بأخيه بعد رفض ابيه مغادرة الحسين، وكذلك تصنع الرحمة والرأفة بالحسين بفكاك ولد أسير وهو يُحدق بالمنون وتَحدق به المنون، فهي على ذراع أو شبر بينه وبين الحتوف، لكنها رسالة الإمامة في الحياة والموت، لكن يعز عليه الموت في أصحابه، فلم يأذن لجون ذلك العبد الشريف بالبراز "إنما صحبتنا طلبا للعافية" لكن جون تذكر مشاركة الحسين له ولأصحابه فقراء المدينة في قصاعهم وجلوسه للأكل معهم تواضعا وإشعارا لهم بإنسانيتهم فقال له "أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أترككم" فأذن له الحسين على مضض ورغب به عن الموت والقتل رحمة به ورأفة بحاله، لكنه قابل الحسين بوفاء الرحمة للحسين والرأفة بالحسين، فقد عمرت قلوب أصحابه وامتلأت بالرحمة للحسين والرأفة بالحسين وكان أحدهم يتمنى لو يقتل ألف مرة ثم يبعث ألف مرة ليدفع القتل عن الحسين.

فالرحمة والرأفة في يوم الحسين، وتنضاف اليها الدمعة العاشورائية، هي واحدة من مصادر ثقافة الرحمة والرأفة عند الشيعة في حياتهم الاجتماعية والدينية ومن حواجز أو موانع نشأة الإرهاب في المجتمع الشيعي.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com

اضف تعليق