q

من ضمن ما ورد في دعاء الإمام الصادق –عليه السلام- لزوار أبي عبد الله الحسين –عليه السلام- وهو يعدد صفات هؤلاء الزائرين التي نالوا بها شرف ثنائه عليهم ودعائه لهم: ".. غيظًا أدخلوه على عدوّنا، أرادوا بذلك رضوانك.. اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم خروجهم، فلم ينههم ذلك عن النهوض والشخوص إلينا خلافًا عليهم.."[1]، وهذا الدعاء أجده مصداقًا مفصِّلاً لقوله تعالى: ".. ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِح.."[2]. فالجهاد أنواع منه ما هو عسكري ومنه ما هو عقائدي وفكري واقتصادي وغير ذلك، ولكل من هذه الأنواع فضل ومراتب، وربما يكون الجهاد الفكري والعقائدي أفضلها حيث ورد في الحديث الشريف أن إخراج الناس من الضلال إلى الهدى هو مصداق لقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)[3].

وعندما نتأمل في عبارات هذا الدعاء، نجد أنه لربما توجد هناك علاقة بين (الغيظ) الذي تُدخله الشعائر على الأعداء وبين لجوئهم للسخرية والاستهزاء والتشنيع تجاه الشعائر المشار إليه في قوله: (عابوا عليهم).

فلنا أن نتساءل هنا: لماذا تُغضِب الشعائر الأعداء؟

في ظل هذا الدعاء، يتبين أن ذلك الغيظ ناشيء عن خوف العدو إزاء ما تضفيه هذه الشعائر من قوة على الشيعة والتشيع لأهل البيت –عليهم السلام-[4]، وبالتالي فهو يلجأ للتشنيع كسلاح في مواجهة هذه القوة ليحاول إلحاق الهزيمة النفسية بالشيعة ويفقدهم الثقة فيما يقومون به مما لا يصب في مصلحته ويغيظه –إضافة لأنواع الاستهدافات الوحشية تجاه ممارسي الشعائر ومواقعها وكل ما يدل عليها أو يمت لها بصلة -.

وهذا ما أود التركيز عليه في هذا البحث، حيث أن البحوث التي تتطرق للشعائر تنصب بغزارة حول مشروعية الشعائر وفضلها بسبب احتدام المواجهة الفكرية في هذا المضمار، بينما يندر أن يتم تحليل الشعائر وعناصر القوة فيها وهو ما يجدر الاهتمام به بعد أن تجاوز التشيع مرحلة خطر الاجتثاث أو حتى المحاصرة والانحسار. وسأخصص البحث حول الشعائر الحسينية رغم أن أكثر هذه العناصر مشتركة بين الشعائر الإسلامية عامة، خصوصًا الشعائر الجماعية، لكن للشعائر الحسينية تجلياتها وأثرها العميق الخاص في واقع الأمة ومستقبلها.

إن للشعائر الحسينية بصمات واضحة وفاعلية كبرى وآثار مهمة في الجوانب الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والأمنية على صعيد الأفراد والجماعات والمجتمعات والدول والحضارات والعالم ككل، وهذا ما سنبحثه -باختصار كبير- من خلال النقاط التالية، ولهذا الاختصار سيكون التركيز على استعراض ملاحظات الباحثين مع شيء من التعليق عليها، لكي لا يكون أساس تحليلنا مبنيًّا على مجرد تخمينات شخصية - وأسال الله أن يوفقني مستقبلاً للبحث فيه بتوسع أكثر، ولمناقشة (كيف نستثمر قوة الشعائر) بحوله وقوته -:

• لفت أنظار العالم:

نظرًا للطبيعة القِيميَّة والعاطفية – والصارخة أحيانًا- للشعائر، فإنها تشكل أبرز ما يلفت أنظار العالم لمذهب أهل البيت –عليهم السلام-، ويمكن ملاحظة هذا من خلال الاطلاع على المواضع التي يركز عليها الباحثون الأجانب عند دراسة وتحليل المذهب والطائفة الشيعية حيث جرت عادة الباحثين حول أي حضارة أو ثقافة أن يتم التركيز على شعائرها وموروثها الفكري، وسنتطرق لبعض ما ذكروه في هذا الصدد في طيات هذا البحث.

كذلك يمكن ملاحظة هذا الأثر عند الرجوع لما دوّنه المؤرخون غير الشيعة حول الشيعة. وأخيرًا، يمكن ملاحظة ذلك باستطلاع التغطيات الخبرية في وكالات الأنباء والصحف العالمية حول الشعائر الحسينية والحشود المليونية فيها وخصوصًا بعد سقوط نظام البعث البائد في العراق –وإن كانت هذه التغطيات لم تنصف هذه الإحياءات المليونية من حيث التغطية بما يليق بها لأسباب غير مهنية مع أنها من ضمن الاحتفالات الأضخم عالميًّا في ظل ظروف أمنية يستحيل معها إقامة أي تجمع من هذا النوع عادة-.

إن الشعائر تسهم في تجاوز الحواجز النفسية والعرقية والثقافية واللغوية والدينية، فتقوم بتمهيد الطريق للفكر لأن يصل لقلب وعقل المتلقي بشكل أكبر وأفضل، ويبقى أن يتم استثمار هذا العنصر بشكل جيد لتكون الشعائر نقطة الانطلاق في تبليغ أنوار أهل البيت –عليهم السلام- للعالم.

وكأمثلة على ذلك، نذكر الانطباع الذي ينقله المستشرق الألماني (هاينس هالم) في كتابه (الشيعة) عن "الكونت غوبينو الذي كان دبلوماسيا في إيران من سنة ١٨٥٥م حتى سنة ١٨٥٨م" عندما يصف الشعائر ويعقب على ذلك بقوله: "من الصعب جدًّا أن يبقى المرء دون تأثر بهذه المَشاهد.. إن المُشاهد يقف مشدوهًا أمام هذه الدرجة العالية جدًّا من الروحانية والتسامي"[5].

كما أنه نقل وصف العديدين من الرحَّالة والدبلوماسيين الغربيين للشعائر الحسينية في بلاد مختلفة بتفاصيل بالغة في الدقة مما يشير إلى لفتها لأنظارهم واستحواذها على اهتمامهم مما دعاهم لتدوين كل هذه التفاصيل في كتبهم وتقاريرهم إلى بلدانهم.

ويؤكد الباحث في علم الاجتماع الأب (روبير بندكتي) أن هذه الشعائر العاملية -نسبة إلى جبل عامل حيث أن لبنان كان مسرح بحثه الميداني- "حظيت منذ عقد الخمسينات وحتى الوقت الحاضر بعدد من الأبحاث الميدانية المتقنة، فقد كان الحافز الأكبر الذي حضَّ الباحثين على الاهتمام بهذه المنطقة اللبنانية أهميتها الاستراتيجية المتزايدة وبهاء الاحتفالات نفسها"[6].

ويضيف: "لا يلبث المراقب.. أن يتاٌثر بقوة التحام هذه الزمرة الفاعلة -الجماعة المقيمة للشعائر-.. فلا يتمالك المراقب من التعاطف مع أعضاء هذه الزمرة الفاعلة الذين يتعاونون وهم مرتبطون بأواصر التضامن على تحقيق هدف ذي مغزى بالنسبة إليهم"[7].

وهذا يتطابق بشكل كبير مع الانطباعات والتفاصيل الكثيرة التي ذكرتها الباحثة الأمريكية في الشؤون الإسلامية الدكتورة (ليندا وولبريدج) حول الشعائر الحسينية في كتابها (دون نسيان الإمام)، وكذلك الحال مع غيرهم من الباحثين الكثر، وإنما أوردنا هذه الأسماء تحديدًا لاعتماد أبحاثهم كمصادر رئيسة خلال هذا البحث المختصر.

........................................
[1] ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص١٢٣، الحديث ٤٤.
[2] سورة التوبة، آية: ١٢٠.
[3] سورة المائدة، آية: ٣٢.
[4] فما يغيظ العدو عادة هو إما ازدياد عدوه قوة، أو إفشال عدوِّه لمساعيه في إضعافه والتغلب عليه.
[5] الشيعة، هانس هالم، ص٧٦-٧٧.
[6] الشعائر بين الدين والسياسة، روبير بندكتي، ص١٢٧.
[7] المصدر السابق، ص٢٥٤-٢٥٥.

اضف تعليق