q

[1]

عندما يَكُونُ حالنا على ما هو عليه اليوم، رُبما هو الأَسوء في تاريخ البشريّة، فهذا يعني أَنّنا نمتلك قِيَم الغدير نظريّاً فقط، أَمّا عمليّاً وعلى أَرض الواقع وفي الْحَقيقَةِ الملموسةِ فنحنُ الأبعدُ عنها من بينِ كلّ الخلقِ رُبما، والّا كيف يُمكننا تفسير إِجتماع قِيَم الغدير مع واقعِنا المرّ؟! الّا ان يكونَ في الامر سرٌّ وهو هذا البَون الشّاسع بين المعرِفةِ النّظريّة والواقع المُعاش! أليسَ كذلك؟!.

يعتبر كثيرون انّ الغديرَ يومٌ يكفي ان نُحييهِ بعباراتِ التّهنئة لبعضِنا البعض الآخر وبدعَوات الابتهال الى الله تعالى للثّباتِ على الولايةِ والزّيارات المستحبّة واذا تكرّمنا على الذِّكرى قليلاً فبمُطالعةِ كتابٍ او كتابَين عَنْهُ كتاريخٍ وذكرى وماضٍ!.

أَبداً، فالغديرُ ليس بهذا المعنى، انّهُ قِيَمٌ عظيمةٌ جداً، وهو لا يقلُّ اهمّيةً عن المبعث، بل هُما صِنوانٌ من نورٍ ومنبعٍ واحدٍ، ولقد بيّن القرآن الكريم عظمَة الغدير بآيتَين لم يرُد معناهما في أَيّ أَمرٍ آخر طوال حياةِ رسول الله (ص) وسيرتهِ وجهادهِ وجهودهِ العظيمة وتضحياتهِ السخيّة التي بذلها من أَجل إقرار دين الله تعالى في الارض.

الآية الاولى قولهُ عزّ وجلّ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً} امّا الآية الثّانية فقولهُ تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.

إِنّهُ يوم تبليغ الحقيقة الكُبرى لإكمالِ الدّين وإتمامِ النِّعمة والرِّضا بالإسلام كدينٍ سماويٍّ هو خاتم الأديان وآخِرها.

أَمّا الحقيقةُ الكُبرى فالغايةُ من تبليغِها تحقيقُ العدلِ الذي هو المحور من وراء فلسفةِ الخلق وبِعثة الأنبياء والرُّسُل، والى ذلك يُشير القرآن الكريم بقولهِ تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [والذي فسَّرهُ الامام أَميرُ المؤمنين (ع) بقولهِ عندما سُئِلَ عَنْهُ {الْعَدْلُ الاِْنْصَافُ، وَالاْحْسَانُ التَّفَضُّلُ}] وكذلك في قولهِ تعالى {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وقولهُ عزّ وجلّ {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

امّا قولهُ تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} فيركِّز هدف فلسفة الحقيقة الكبرى بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ لا لَبْسَ فِيهِ.

لقد شرّعَ الله تعالى الغديرَ من أجلِ العدلِ، ليتحقّق قولُ الله تعالى في مُحكم كتابهِ الكريم {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا}.

لانّ العدلَ قيمةٌ عظيمةٌ لا تتحقّق في المجتمع الا بحاكمٍ عادلٍ، فَلَو التزمت الامّة بهذهِ الحقيقة وأخذتها بالحُسبان وبعَينِ الاعتبار لتجاوزت مشاكلها ولم ينزُ على سُلطانِها راعٍ كَالطَّلِيقِ بنِ الطّليقِ يزيد بن مُعاوية الذي يقول عنه المسعودي في [مروج الذَّهَب ومعادن الجوهر] [الجزء الثّالث ص ٦٧] تحت عنوان (فسُوق يزيد وعمّالهُ)؛

وَكَانَ يزيدٌ صاحبُ طرَبٍ وجوارحَ وكلابٍ وقرودٍ وفهودٍ ومنادمةٍ على الشّراب، وجلسَ ذاتَ يومٍ على شرابهِ وعن يمينهِ ابْنُ زيادٍ وذلكَ بعد قتلِ الحسين (ع) فأقبلَ على ساقيهِ فقال:

إسقِني شَربةً تُروِّي مُشاشـي

ثم مِـــلْ فآسقِ مثلها آبنِ زيادِ

صاحب السرِّ والأمانةِ عنــدي

ولتسـديدِ مغنَمي وجِــــــهادي

ثمَّ أمرَ المغنّين فغنّوا.

وغلبَ علي أصحابِ يَزيدٍ وعمّالهِ ما كان يفعلهُ مِن الفُسوقِ، وفي أيّامهِ ظهرَ الغناءُ بمكَّةَ والمدينة، واستُعملتِ الملاهي وأظهرَ النَّاسُ شِربَ الشَّرابِ.

وعلى نَفْسِ المنْهَجِ والمدرسةِ يواصلُ نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرةِ العربيّةِ والمُغطّى بشريعةِ (الحزب الوهابي) مسيرتهُ، فبدلاً من ان يُظهر النّاس السُّكر بِالشَّرَاب أَظهروا السُّكر بفتاوى التّكفير التي يتعلّمها الصّغار والأطفال بالمدارس ومعاهد التّعليم الدّيني المنتشرة في كلّ مكانٍ في داخلِ البلادِ وخارجِها في الاتِّجاهات الأربعة، والتي غسَلت أدمغتهُم لتحوّلهم الى دوابّ تفجّر نفسها وسط الحُشودِ البريئةِ!.

ولهذا السّبب يُدافع فقهاء الحزب الوهابي وكبيرهُم أَعمى البصر والبصيرة تحديداً عن الطّاغية الارعن يزيد على الرّغمِ من كلّ ما يذكرهُ التّاريخ عَنْهُ! لأنَّ الطعنَ فِيهِ طعنٌ بشرعيّتهم! ولذلك فهم لا يُدافعونَ عَنْهُ بمقدارِ دفاعهِم عن أَنفُسِهم!.

[٢]

شيءٌ سيِّئ ان ننتمي للغدير، ثم يحكمنا طاغيةٌ ذليلٌ أَرعنٌ كصدّام حسين!.

والأَسوء من ذلك ان يحكمَنا من بَعْدِهِ بديلٌ خدعنا بشعاراتهِ [الغديريّة] لنكتشف فيما بعد أَنّهم أمويّون وان لم ينتموا!.

خدعتنا عمائمهُم الكبيرة ولِحاهم الطّويلة وسراويلهم القصيرة! فظننّا ان ذلك يكفي لإظهارِ وإِثباتِ الانتماء الى الغدير!.

نسينا او تناسَينا انّ العِمامة ليست أَكثر من زيٍّ كأيِّ زيٍّ آخر! فليس المهمُّ ما يضعهُ المرءُ فَوْقَ رأْسهِ، إِنّما المهمّ ما يحملهُ في رأْسهِ!.

نسينا او تناسَينا انّ قاتل أَمير المؤمنين (ع) كان مُعمّماً! وانَّ قاتل الحسين (ع) هو الآخر كان مُعمّماً، وانَّ عَمائم كثيرةٌ أفتَت للطُّغاة القتلةِ على مرِّ العصور! فشرعنت جرائمهُم وبرّرت مفاسدَهُم وفلسفت ظلمهُم للعبادِ! وما عمائم فقهاء التّكفير الذين يُفتون لبلاطِ نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربيّة ببعيدين عنّا!.

أَمّا في العراق [الجديد] فلقد أفتَت عمائم حزبيّة كثيرة لتحمي فساد وفشل [القائد الضّرورة] تارةً ولتَحمي الفاسدين والفاشلين تارةً أُخرى! وكلُّ ذَلِكَ باسم الغدير!.

تاجروا بالغديرِ عندما كانوا في المعارضةِ! وساوَموا على الغدير عندما وصلوا للسُّلطة!.

واذا أردنا ان نتعلّم اليوم من التّجرِبة، ويجب ان نتعلّم منها اذا كُنّا نعتقد بالغديرِ وقيَمهِ، فيمكنُ القولُ انّ معيار حضور الغدير في المجتمع، ايَّ مجتمعٍ، هو العدْل، وليس أَيّ شَيْءٍ آخر، فكُلّما زادت نسبة العدلِ في المجتمعِ كُلّما كان الأقربُ الى الغدير وقِيَمِهِ والى الْحَقيقَةِ الكُبرى المتوخّاة من التّبليغ، والعكس هو الصّحيح، فكُلّما تقلّصت مساحةُ العدلِ او غابَ عن المجتمعِ كلَّما دلَّ ذَلِكَ على انَّ الغديرَ غائبٌ عَنْهُ وانَّ قيَمهُ منسيّة مهما شَهِد المجتمع من إِحتفالاتٍ ومظاهر إِحياءٍ ماديَّةٍ أو حتّى روحيّةٍ.

وهذا ينطبق على المجتمع وعلى الفردِ على حدٍّ سواء، فكما نرى مُجتمعاً يبالغُ في المظاهر الماديّة لاحياءِ الذِّكرى وهو الأبعدُ عنها من ناحيةِ الواقعِ والسلوكيّات، كذلك نرى امرِءً يُبالغُ في كلامهِ وخُطَبهِ وأحاديثهِ وإِدّعاءاتهِ عن علاقتهِ بالغديرِ، الا انّ واقعهُ وسلوكهُ اليومي وعلاقتهُ مع الآخر وتعاملهُ مع كلِّ ما يتعلّق بالشَّأن العام، هو سلوكٌ أمويٌّ بامتياز.

بمعنى آخر هو غديريُّ الهوى أمويُّ السيرة، غديريُّ الهويّة أمويُّ الفِعل، غديريُّ الشِّعار أمويُّ الدِّثار، غديريُّ التَّنظير أمويُّ الانجاز! واذا كنّا نقرأ او نسمع عن مثلِ هؤلاءِ في التّاريخ من دونِ ان نتخيّلهم او نتصوَّرهم في واقعِنا المُعاش فلقد رأَينا الكثير من هذه النّماذج القَذِرة الدجّالة التضليليّة في عصرِنا الحاضر وواقعِنا المُعاش!.

انّ الغديرَ عدلٌ في السّيرةِ، قبل السُّلْطَةِ يوضّحهُ قول صاحب الذِّكرى أَميرُ المؤمنين عليه السّلام في وصيّتهِ لسبطهِ البِكْر الامام الحسنِ المجتبى عليه السّلام {يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ} أَمّا في السّلطة فقولهُ عليه السّلام {وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الاْمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ; فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ!} وقولهُ في عهدهِ الى مالكِ الأشتر لمّا ولّاه مِصر {وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ}.

وبينهُما وقبلهُما وبعدهُما إظهارُ الاستعدادِ الكاملِ للإصغاءِ الى العدلِ، كما يَقُولُ عليه السّلام {فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ}.

فلنعرِض أَنفسنا على هذه الرُّؤيةِ التي جسّدها [الحقيقة الكُبرى] الامامُ عليٍّ (ع) لنتثبَّت موطئ أَقدامِنا وما هي علاقتنا الحقيقيّة مع الغدير وقيَمهِ، ومدى قُربنا أَو بُعدنا عنها، امّا غير ذلك فلا يعدو أَكثر من تضليلٍ للذّات أَوَّلاً وقبل خداع الآخرين {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.

وما أعظمهُ من تشخيصٍ عظيمٍ للمرضِ الحقيقيِّ الذي ابتُليَ بهِ مُنافِقو [العراقِ الجديد] الذين يتلوّنونَ يوميّاً بهويّتهم ويتقلّبون بانتماءاتهم ذات اليمينِ وذات الشِّمال، انَّ قلوبهُم مريضةٌ [نواياهُم، طريقةُ تفكيرهِم، مقاصدهُم!] ولقد تابعنا أَحدهُم قبل أَيّامٍ من على الشّاشة الصغيرةِ وهو يكشف عن قلبهِ المريض عندما حاول تضليل المُتلقّي وهو يتلاعب بالالفاظِ للتهرّب من الإقرار بالحقيقةِ المرّةِ! حتى سقط فيها في نهايةِ كلامهِ الأعوج!.

في الكشفِ عن العلاقةِ مع الغدير وقيَمهِ لا يستقيمُ الزِّي والانتماء والخطاب والأقوال أَبداً، انّما تستقيمُ السّيرة والمسيرة والفعل والانجاز والعمل، ولذلك قال أَميرُ المؤمنين (ع) {قِيمَةُ كُلِّ امْرِىء مَا يُحْسِنُهُ}.

الانجازُ الصّالحُ وَحْدَهُ هو علامةُ الغدير، والسّيرةُ الحسنةُ وحدها هي هويّةُ العلاقةِ مع الغدير، وما دونَ ذلك كذبٌ محْضٌ! فكم من عِمامةِ سوءٍ تدّعي الانتماء الى الغدير وهي أَبعدُ ما تكون عنه في السّلوكِ؟! وكم من (زعيمٍ مُفترٍ) يدّعي التزامهُ بالغديرِ وهو أمويُّ النّزعةِ في كلِّ تصرُّفاتهِ وسلوكيّاتهِ؟!.

[٣]

{بَلِّغْ} {يُبَلِّغُونَ} {أُبَلِّغُكُمْ} {أَبْلَغْتُكُمْ} {بَلَاغٌ} {أَبْلَغُوا} {بَلَّغْتَ} ومن ذلك نفهم؛

١/ انّ التّبليغ لا يتحقّق الا بوصول الأَمر، الرّسالة، الى مُنتهاه، فلا يكفي ان تلقي الحُجّة فقط أَو ان تُسقِط الواجب الذي تشعر بهِ إِزاء الرّسالة عن كاهِلِكَ، بل يلزمُك ان تُكرِّر التّبليغ بكُلِّ الطُّرق والوسائل والاساليب حتّى يبلُغَ الامرُ أَجلهُ أَو مُنتهاهُ!.

وانّ الذين يظنّون انّ التّبليغ لا ينفع مُخطِئون، فلقد حدّثنا القرآن الكريم عن حالِ هؤلاءِ وكيف أَنّهم كانوا يُثبِّطون الرُّسل والانبياء عن تبليغ الرّسالة وردّ الأَخيرين عليهم بقولهِ تعالى {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.

لا ينبغي، إِذن، ان نصغي لمثلِ هذه النّماذج التي لا تُبَلِّغ رسالةً ولا تشجِّع الآخرين على التّبليغ بل انّ همّها التّثبيط دائماً، رُبما كطريقةٍ للهربِ من المسؤوليّة! مسؤوليّة التّبليغ!.

والعكسُ هُوَ الصّحيح، ففي قصَّة نبي الله نوحٍ (ع) دليلٌ على وجوب الإصرارِ في تبليغِ الرّسالة مهما كانت الظّروف، فمسؤوليتنا التّبليغ بغضّ النّظر عن التَّأثير، فلقد لبثَ نوحٌٍ عليه السّلام في قومهِ كما يحدّثنا القرآن الكريم بقولهِ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} من دونِ كلَلٍ أو ملَلٍ، وظلّ يُغيّر وسائل التّبليغ وأدواتهِ خلال هذه الفترة الزّمنيّة الطّويلة، كما يصفَها لنا القرآن الكريم بقولهِ {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} و {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} و {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا}.

هذا يعني أَنّك بحاجةٍ الى أَن تبذِل كلّ الجهد من أَجل ان تتأَكّد بانَّ رسالتكَ قد وصلت الى مُنتهاها، خاصَّةً في عصرِنا الحاضر، عصر التّكنلوجيا التي ألغت المسافات لتهطِلَ الرّسائل على أدمغتِنا كالمطرِ، فتشتدّ المنافسة، كمّاً ونوعاً، الأَمر الذي يتطلّب المزيد من بذلِ الجُهد ليس فقط لتبليغِ الرّسالة وانّما للتأكُّد والتثبُّت من أَنّها قد استقرّت في الهدف، ما يتطلّب التّكرار والإعادة بطرقٍ شتّى، والا فانَّ توالي الرّسائل الكثيرة المُضادّة في فترةٍ زمنيّةٍ قصيرةٍ جداً قد تُحسب بطَرفةِ العينِ، تُلغي تأثير الرّسالة التي مرّت عليها دقيقةً رُبما!.

مُشكلتُنا انّنا نتعب بسُرعةٍ من تبليغِ رسائلِنا ولذلك فانّ أَسهل سلاح للهرب او التّهرُّب من هذا الواجب هو تكرارُنا العبارة (مَيفيد) أي (لا ينفع) وكأَنّنا نستسلم للتّحدّي، خاصَّةً على مستوى تربيةِ الأَطفال والنَّشء الجديد، فبينما يستقبل الطّفل مِئات الرّسائل في السّاعة الواحدة بما في ذلك الرّسائل المُتناقضة، لا يستقبل من الوالدَين مثلاً الّا رسالةً واحدةً خلال اليوم، فكيف سيُرَبّي الأبوان أولادهُما؟ وكيف سيتحدّى الأولاد ضغط الرّسائل المُضادّة والمُتتالية؟ وكيف سيحمي الوالِدان أَولادَهُما؟!.

٢/ ومن أجلِ ان تترك عمليّة التّبليغ أَثرها الفاعل والإيجابي عند المُتلقّي، ينبغي ان ننتبهَ الى حاجةِ الزّمان والمكان، من خلال دراسة نوعيّة التحدّيات التي يعيشها المُتلقّي، لتكونَ عمليّة التّبليغ علميّة وفي محلّها وليست خارجة عن الحاجة وعبثيّة!.

هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر ينبغي ان نمتلكَ الخبرة الكافية لفِهم نفسيّة المُتلقّي وروحيّتهُ وما يُؤثّر عليهِ من وسائل وأساليب، فليسَ كلّ المُتلقّين يتأثَّرون بنفسِ الأُسلوبِ! خاصَّةً النّشء الجديد، والى هذا المعنى يُشير قول الله عزّ وجلّ {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

حتّى الأولاد في العائلةِ الواحدةِ يلزم على الوالِدَين ان يكونا خبيرَينِ بمعرفةِ أمزجتهِم ونفسيّاتهم ليُمارِسوا مع كلِّ واحدٍ منهم أُسلوباً للتّربية والتّعليم والتّبليغ! فانّ أحد أكثر الاسباب شيوعاً لفشل الوالدَين في تبليغ الرّسالة للابناء هو الجهل بنفسيّاتهم، أو عدم الأخذ بها بنظر الاعتبار عند التّبليغ ولذلك يتمرّد الأبناء على الآباء! فيسمعونَ من غيرهِم ولا يصغون لهم!.

صحيحٌ انّها عمليّةٌ شاقَّةٌ ومتعِبةٌ، ولكنّها في نفس الوقت ضروريّةٌ اذا كنّا جادّين في عمليّة التّبليغ وننتظر منها أَن تترك الأثر الإيجابي المطلوب، والا فالعمليّة ستكونُ في غيرِ هذه الحالة عبثيّة ومضيعة للوقتِ ليس الّا، كما انّها ستكونُ سبباً لمنح الرّسائل المُضادّة فرصة التَّأثير السّلبي شِئنا أَم أَبينا!.

[٤]

٣/ لو أَنّنا تحمّلنا مسؤوليّة التّبليغ على أَحسن ما يُرام وبأَساليبَ وطرُقِ نشرٍ وإِقناعٍ حديثةٍ لما انتشرت رسائلِ التّضليل والخِداع في مجتمعِنا، وعلى صعيدَينِ تحديداً؛

الصّعيد الاوّل؛ هو التّضليل باسم الدّين عندما اختطفَت زُمرة من فقهاء التّكفير وتجّار الحروب والدّم من الارهابيّين حقَّ الفُتيا لتشويه حقيقة الاسلام حتّى ظنّ النّاس انّهُ دينٌ إِرهابيٌّ يحرّض على القتل والتّدمير.

فعندما غاب عليّ بن أبي طالب (ع) ونهجهُ وسيرتهُ وقيَمهُ ومبادئَهُ، ظهرَ النّهج الارهابي الذي أَسّسَ لهُ الأمويّون، والذي يعتمد التّضليل كأساسٍ لغسلِ أَدمغة الدّوابّ لتتحوّل الى أَداةٍ للقتلِ بيدِ فقهاء التّكفير، كما وصف ذلك أَميرُ المؤمنين (ع) بقولهِ {أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ}.

مُقابل النّهج الامويّ، إِذن، يجب التّبليغ لنهجِ الغدير، والا فسيظلّ الاسلامُ مختطَفاً الى حينٍ.

وَنَحْنُ على أبوابِ محرّم الحرامِ علينا ان نوظّف هذا الموسم العظيم للتبليغ لنهجِ الغدير، فكلّنا نعرف جيداً، لولا الغدير لما كانت عاشوراء! ولولا نهج الغدير لما كان نهجُ كربلاء!.

الصّعيد الثاني؛ هو التّضليل السّياسي الذي يسعى مَن يقف خلفهُ الى تسقيطِ كلّ النّماذج السياسيّة، مُستغّلاً النّموذج السيّء والتّافه الذي قدّمهُ لنا من ظلّ يُتاجرُ بالغديرِ زمن المعارضة، وكأنّهُ نهاية المطاف!.

إِنّنا اليوم نواجهُ تبليغاً مُضادّاً يشترك فيه اللّصوص والفاسدون والفاشِلون للفتِ أنظار الرّأي العام بعيداً عن الحقائق!.

انّ عقل الانسان لا يُمْكِنُ ان يعيشَ الفراغ أَبداً، فهو يبحثُ عن الرّسائل دائماً ليملأ بها فضولهُ! فاذا لم يتلقَّ الرّسائل الإيجابيّة والسّليمة بشكلٍ مستمرٍّ فسيخضع بل سيستسلم للرّسائل السلبيّة المُغرِضة رغماً عَنْهُ! فليسَ كلُّ النّاس تنشط عندهم عمليّة الفلترة وَالـتَّمْييز دائماً!.

للأَسفِ الشّديد فانّنا اليوم نعيش في أجواء فاسدةٍ مملوءةٍ بالرّسائل السلبيّة المدمِّرة، والأَسوء من ذلك هو أَنّنا أصبحنا جزءً من الماكينةِ التي تستنسخ وتنشر وتوزِّع هذه الرّسائل، بمعنى آخر فانّنا الآن جزءٌ من المنظومة التي تَخلُق هذه الأجواء الفاسِدة من حيث لا نشعُر!.

فعندما نُساهم في إستنساخِ ونشر الاكاذيب والفبركات والدّعايات والإشاعات بل وحتى الأشياء الصّحيحة ولكن في غيرِ وقتِها أو محلّها او لغير المتلقّي المقصود! او انّها لا تُساعد على الانجاز الصّحيح والسّليم او على تشكُّل العقل السّليم على الأقل، فانّنا بذلك نكون جزءً من هذه الأدوات التي تُسمِّم الأجواء وتُشيع الفوضى المعرفيّة او الإعلاميّة او الثقافيّة والفكريّة.

للأَسف الشّديد فلقد غابَ الاعلام الوطني الذي يمتلك المصداقيّة الكافية ليركنَ اليه المتلقّي بثقةٍ ويُقاطع المصادر الفاسدة، فإعلامُنا مملوكٌ تحوّل الى أَبواقٍ للأحزاب الحاكمة والقائد الضّرورة، وهو لا يُبلِّغ الرّسالة الوطنيّة، الّا بمقدارِ ما تخدم [المالك] فهي عادةً ما تتقاطع مع أجنداتهِ ومصالحهِ وتجارتهِ! أياً كان نوعهُ وهويتهُ! ولذلك انتشرت الاكاذيب في كلّ الرّسائل تقريباً ما ساعدَ على خَلقِ هذا الجوّ المسموم!.

في ذكرى الغدير الأغر يجب ان نتعلّم؛

الف؛ ماذا نُبلّغ؟ باء؛ لماذا نُبلّغ؟ جيم؛ لمن نُبلّغ؟ وكَيف؟.

فَلَو انشغلنا بتبليغِ رسالتنا لما أَلهتنا الصِّراعات والخِلافات وشرِّ غسيلِ بَعضِنا البعض الآخر! ولما انشغلنا بتسقيطِ وإضعافِ بَعضِنا البعض الآخر وبهذهِ النِّسبةِ المُخجلةِ والمُرعبةِ!.

فَلَو ينتبهُ كلّ واحدٍ منّا الى ما ينشرهُ يومياً او ينشغل بالردِّ عليهِ، فسيكتشف انّهُ مشغولٌ بالثّانويّات والتّوافه بنسبة (٩٠٪‏) رُبما، فيما تأخذ مِنْهُ عمليّة تبليغ الرّسالة نسبة (١٠٪‏) فقط، وهذهِ مُعادلةٌ تُعبّر عن فشلِنا في التّبليغ ولذلك فشلنا في الاصلاح والتّغيير والتقدّم والتّنمية! ولو استمرّت المعادلة على نَفْسِ الوتيرةِ فستُدمِّرنا في نِهاية المطاف!.

٤/ تُشيرُ الآية الخاصّة بالغديرِ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} الى انّ تبليغ الرّسالة السّليمة المطلوبةِ يواجهُ تحدّياتٍ كبيرةٍ ورُبما عظيمةٍ، ولعلّ من أَخطرِها هي تلك التحدّيات التي يواجهُها المبلّغ من المتضرّرين من الرّسالة! وهذا ما نراهُ ونلمسهُ اليوم من المتضرّرين من تبليغ رسالةِ التّغيير والاصلاح، حالما يتصدّى احدٌ للكشفِ عن ملفّات الفساد او يدعو آخر لتقديمِ [عجلٍ سمينٍ] واحدٍ على الأقلّ للقضاءِ ليقف خلفَ القُضبانِ! إعتماداً على دعوة الخطاب المرجعي للضّربِ بيدٍ من حديدٍ على رؤوس كبار الفاسدين والفاشلين!.

انّ كلّ المتضرّرين من هذه الرّسالة وهم كلّ الفاسدين والفاشلين، نراهم كيف أَنّهم يختلفون في كلّ شَيْءٍ الا في التصدّي ومواجهة رسالةِ الاصلاح والتّغيير فانَّهُم يتَّفقون فيها ويجتمعونَ عليها، فبمجرّد ان يفضح أَحدٌ الفساد والفشل يهبّون جميعهُم بمُختلف هويّاتهِم وأَزيائهم وعناوينهِم وأسمائهم لمواجهتهِ وإسقاطهِ من خلال الشّائعات والدّعايات المُغرضة ونشر الاكاذيب وغير ذلك، واذا تمكّنوا مِنْهُ فبالاغتيالِ بكاتمِ الصَّوت!.

ولقد شخَّصت الآية الكريمة {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا} مسؤولية المُبلّغ صاحب الرّسالة الحقيقيّة! والتي تتلخّص بالتحلّي بالشّجاعة والثّبات وعدم الانهيار، فالمتضرّرون من تبليغ رسالة الحق تافهونَ جداً وضُعفاء، ينهزمونَ بسُرعةٍ اذا ثبُت المبلّغ أمامهُم ولم ينثنِ أَو ينهار أَمام ترغيباتهِم أَو ترهيباتِهِم على حدٍّ سَواء!.

‏...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق