q

حبس الجيش الأموي بقيادة معاوية، الماء عن الجيش الاسلامي بقيادة الامام علي، عليه السلام، في معركة صفين، ولما تغير الوضع في الميدان لصالح الجيش الاسلامي، دعا بعض الجند الى التعامل بالمثل وحبس الماء عن الطرف المقابل، فكان موقف الامام؛ الرفض القاطع لهذا المنطق، فسمح بالمياه أن تنساب الى معسكر عدوه ليشرب كما يشرب هو وافراد جيشه، وهو المنصوص عليه من قبل النبي الأكرم، بأنه "...على حق، يدور أينما دار".

هذا ما يتعلق بالتعامل مع الملف الخارجي، وكان الامر نفسه مع الملف الداخلي، فالمعيار عنده لم يكن الحق فقط، وإلا لكان قد طالب به منذ الساعات الاولى من وفاة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ولم يسمح لسقيفة بني ساعدة أن تقوم لها قائمة، لذا قال قولته المشهورة: "أ تأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وُليّت عليه..."، وقد طلب منه البعض أن يتخذ المال أداة قوة لصنع الحلفاء والاصدقاء، وهذا يتطلب الإخلال بنظام المساواة في العطاء، وهو ما رفضه الامام علي، عليها لسلام، وقال: "...ولو كان المال لي لسوّيت بينهم فكيف وإنما المال مال الله"!

إذن؛ ما هو المعيار الفاصل لدى الامام علي، عليه السلام، وهذه الايام تتعلق بذكرى بيعة الغدير التي يفترض ان يكون فيها هو الخليفة بعد وفاة الرسول الاكرم؟

إنه "التقوى" لمن رام اتباع خطواته في مسيرة الحياة بمختلف اتجاهاتها؛ السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية وفي الحقول والميادين كلها.

والحق، الذي هو من القيم المقدسة في الاسلام، يعني بالعلاقة بين الانسان ونفسه، ربما بوسعه التنازل عنه، كما يحصل في القصاص وبعض الحقوق الاخرى. بينما التقوى فهو يعني بالعلاقة بين الانسان وربه، و وفق هذه المعادلة وضع الامام علي، عليه السلام، قواعد سياسته ونظام حكمه، فترك الحيلة ومبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" لمعاوية، فقال: "قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجزٌ من تقوى الله".

وطالما تمنى البعض في الوقت الحاضر، تعدد الخيارات والوسائل في الميدان، وبقاء الحق في مكانه مصوناً محفوظاً، كما لو انه "احتياطي معنوي" – إن صحّ التعبير- أشبه بالاحتياطي المالي في البنوك، فيكون بالامكان تحقيق الكثير انطلاقاً من هذه القوة المعنوية الهائلة، ويكون الشعار: "كل شيء مبرر ما دامنا على حق"، وفي تصور هذا البعض أن النتائج تكون ايجابية ومربحة، ولو على المدى المنظور لحين استتباب الأمور، عندها "لكل حادث حديث"! في حين اثبتت التجارب ان إبعاد الوسائل وايضاً السلوك الانساني، عن منظومة القيم والمبادئ لتحقيق غايات معينة، ليس فقط يُطيح بالعقيدة ويشوه الفكر، وإنما يطيح ايضاً بالرؤوس ويتسبب في إراقة الدماء، عندما تكتسي الوسائل والادوات في الطريق، رداء القدسية، فلا انتقادها وإبداء الملاحظات بشأنها، فضلاً عن التشكيك بمصداقيتها او فائدتها.

فما الذي جرّ الامة الى الويلات والغصص التي يتجرعها ابناؤها، سوى قدسية الوسائل التي غيّبت قدسية المبادئ والقيم، حتى التبس على الناس الغاية والوسيلة، فأصبحت الوسيلة، على حين غفلة منهم، هي الغاية والهدف المطلوب، فالتحالفات والصفقات والمواقف وغيرها كثير، باتت هي المطلب الاول والاخير الذي تدور عليه رحى الاحداث.

وها هي مصر الإخوانية في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، فبعد عقود طويلة من التنظير والتأليف والنشر والتنظيم تحت شعار "الاسلام هو الحل"، إذا الشارع المصري، بدلاً من ان يشهد مظاهر النمو والتغيير وإصلاح ما أفسدته الانظمة السياسية، يرى استعراضات لمجاميع البلطجية وحملة الهراوات الذين يبرزون عضلاتهم لمواجهة الخصوم السياسيين، فهل نجحوا في هذا الاسلوب لإخماد خصومهم وإزاحتهم عن الساحة؟ وهل حققوا للشعب المصري الامن والاستقرار والرخاء؟

نفس المشكلة، واكثر عمقاً ومأساوية، تجري فصولها في العراق، عندما أضفيت على بعض الممارسات طابعاً مقدساً بهدف استمالة الشارع واستحصال المزيد من المشروعية بما يخدم المشروع السياسي، فكانت النتيجة كارثية، حتى بات من الصعب الفصل بين العقيدة وبين المتلبس بها كذباً وزوراً، فيما تواصل رحى الانفجارات طحنها للابرياء وسط عجز وفشل مريع للساسة على وقف النزيف، مما يجعل "القدسية"، كمفهوم عام، في دائرة الاتهام وأنها السبب في بقاء هؤلاء الفاشلين في سدّة الحكم.

وعودة الى الامام علي، عليه السلام، وهو تجسيد العدل والحق والفضيلة، بيد أنه لم يتوسل لتطبيق ذلك على أرض الواقع، بما هو مناقض لهذه القيم والأصول، فالعدالة – مثلاً – لن تتحقق بوسائل شتّى، من اجل ان يكتسب صاحبها صفة "العادل"، وإلا فان الكثير من الحكام على مر الزمان، ادّعوا العدالة والاحتكام الى القيم والمبادئ، بيد ان سلوكهم وسياساتهم كانت في مسار آخر.

وفي حديث للفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – طاب ثراه- عن شخصية الامام علي، عليها السلام، ينقل رواية يصفها هو بـ "العجيبة"، "بأن اذا كان هدف الانسان من تطبيق العدل ان يقال له الناس بأنه عادل، فان الله –تعالى- يقول له: انت عملت ليذكرك الناس، فذاك انسان خيّر وطيب ومتدين، اذهب وخذ أجرك منه...".

بينما العدل والحق وسائر القيم والفضائل عند الامام علي، عليه السلام، إنما هي مواطن اختبار للناس بأن تكتشفها بنفسها دون الحاجة الى وسائل وأدوات غريبة ليست من سنخ تلكم القيم، ولعل هذا أحد اسرار خلود ذكر أمير المؤمنين، عليه السلام، والحب الغامر في قلوب، ليس فقط الشيعة من دعاة الاتباع له، وإنما من عامة المسلمين، بل وغير المسلمين ايضاً، فهؤلاء عرفوا الحق بعلي، وليس العكس، كما جرّب البعض وسقط في هذا الاختبار وما يزال السقوط مستمراً.

اضف تعليق