q

روبرت جيه شيللر

 

نيوهافين ــ على مدار القرون العديدة الماضية، شَهِد العالم سلسلة من الثورات الفِكرية ضد شكل أو آخر من أشكال الظلم والاضطهاد. تعمل مثل هذه الثورات داخل عقول الناس وتنتشر ــ في نهاية المطاف إلى معظم أنحاء العالم ــ ليس عن طريق الحرب (التي تنطوي عادة على أسباب متعددة)، بل من خلال اللغة وتكنولوجيا الاتصالات. وفي نهاية المطاف، تصبح الأفكار التي تناصرها هذه الثورات ــ على النقيض من أسباب الحرب ــ غير قابلة للجدال.

وأظن أن الثورة القادمة من هذا النوع، والتي من المرجح أن تندلع في وقت ما من القرن الحادي والعشرين، سوف تتحدى المقتضيات والآثار الضمنية الاقتصادية للدولة القومية. وسوف تركز على الظلم الذي يترتب على حقيقة مفادها أن بعض الناس يولدون، بالمصادفة البحتة، في دول فقيرة في حين يولد آخرون في دول غنية. ومع ازدياد أعداد الناس الذين يعملون في شركات متعددة الجنسيات ويلتقون ويتعرفون على المزيد من الناس من بلدان اخرى، يتأثر إدراكنا للعدالة وفهمنا لها.

وهذا ليس بالأمر غير المسبوق على الإطلاق. ففي كتابه "1688: الثورة الحديثة الأولى"، يزعم المؤرخ ستيفن بينكوس بشكل مُقنِع أن أفضل طريقة لتناول ما يسمى "الثورة المجيدة" ليس في ما يتصل بالإطاحة بالملك الكاثوليكي من قِبَل البرلمانيين في إنجلترا، بل باعتبارها بداية لثورة عالمية في العدالة. فلا ينبغي لنا أن نفكر في ساحات المعركة، بل في المقاهي والصحف الحرة المشتركة التي أصبحت شعبية من حولها ــ أماكن حيث تجري أشكال التواصل المعقدة. وحتى كما تصادف، فمن الواضح أن الثورة المجيدة بشرت ببداية تقدير عالَمي لشرعية المجموعات التي لا تتبنى "الوحدة الإيديولوجية" التي يطالب بها مَلِك قوي.

وكان كتيب توماس باين بعنوان "الحس السليم"، والذي حقق أفضل مبيعات في كل المستعمرات الثلاث عشرة عندما نُشِر في يناير/كانون الثاني 1776، بشيرا بقدوم ثورة أخرى من ذلك النوع، والتي لم تكن متطابقة مع الحرب الثورية ضد بريطانيا والتي بدأت في وقت لاحق من ذلك العام (وكانت لها أسباب متعددة). وكان انتشار كتيب الحس السليم غير قابل للقياس، لأنه لم يكن يُباع فحسب بل كان يُقرأ على الناس أيضا في الكنائس والاجتماعات. وكان رفض فِكرة أن الملوك بالوراثة متفوقون روحيا بطريقة أو بأخرى على بقيتنا حاسما. ويتفق مع ذلك أغلب العالم اليوم، بما في ذلك بريطانيا.

والشيء نفسه يمكن أن يُقال عن الإلغاء التدريجي للاسترقاق، والذي لم يتحقق في الأغلب عن طريق الحرب، بل بفِعل إدراك شعبي ناشئ لقسوته وظُلمِه. كانت انتفاضات 1848 في مختلف أنحاء أوروبا إلى حد كبير احتجاجا على قوانين التصويت التي جعلت التصويت مقتصرا على أقلية من الرجال فقط؛ أصحاب الأملاك والأرستقراطيين. ثم جاء منح المرأة حق التصويت بعد فترة وجيزة. وفي القرنين العشرين والحادي والعشرين، شهدنا الحقوق المدنية تمتد إلى الأقليات العِرقية والجنسية.

كانت كل "ثورات العدالة" في الماضي نابعة منع تحسن الاتصالات. فالقمع يتغذى على بُعَد المسافات، وعلى ضآلة احتمال مقابلة أو رؤية المضطهدين فعليا.

لن تلغي الثورة القادمة التبعات المترتبة على محل الميلاد، ولكن امتيازات السيادة القومية سوف تنحسر. ورغم أن ارتفاع المشاعر المناهضة للمهاجرين في مختلف أنحاء العالم اليوم يبدو وكأنه يشير في الاتجاه المعاكس، فإن حِس الظُلم سوف يتضخم مع استمرار الاتصالات في النمو. وفي نهاية المطاف، سوف يعمل إدراك الظُلم على إحداث تغيرات كبرى.

في الوقت الراهن، لا زال هذا الإدراك يواجه منافسة قوية من الدوافع الوطنية، التي تمتد جذورها إلى عقد اجتماعي بين المواطنين الذين دفعوا الضرائب على مر السنين أو أدوا الخدمة العسكرية لبناء ما اعتبروه ملكا مطلقا لهم أو الدفاع عنه. وقد يبدو السماح بالهجرة غير المحدودة وكأنه ينتهك هذا العقد.

ولكن الخطوات الأكثر أهمية في معالجة الظلم المرتبط بمحل الميلاد قد لا تستهدف الهجرة. بل ستركز بدلا من ذلك على تعزيز الحرية الاقتصادية.

في عام 1948، أظهَر بول سامويلسون بوضوح في "نظرية مُعادَلة عامل السعر" أن قوى السوق تعمل في ظل ظروف التجارة الحرة غير المحدودة والخالية من تكاليف النقل (وفي ظل افتراضات مثالية أخرى)، على مُعادَلة أسعار جميع عوامل الإنتاج، بما في ذلك معدل الأجور لأي نوع موحد من العمل، في مختلف أنحاء العالم. في عالَم مثالي، لا يضطر الناس إلى الانتقال إلى بلد آخر للحصول على أجر أعلى. وفي نهاية المطاف، لا يحتاجون إلا إلى القدرة على المشاركة في إنتاج الناتج الذي يُباع على المستوى الدولي.

وبينما تعمل التكنولوجيا على تقليص تكلفة النقل والاتصالات إلى نقطة التلاشي تقريبا، يُصبِح تحقيق هذه المعادَلة أمرا ممكنا على نحو متزايد. ولكن الوصول إلى هناك يتطلب إزالة الحواجز القديمة ومنع خلق حواجز جديدة.

وقد عانت اتفاقيات التجارة الحرة الخاضعة للمناقشة مؤخرا، الشراكة عبر المحيط الهادئ وشراكة التجارة والاستثمار عبر المحيط الأطلسي، من انتكاسات في ظل المحاولات التي تبذلها جماعات المصالح لتحريفها لتحقيق أهدافها الخاصة. بيد أننا نحتاج في نهاية المطاف إلى اتفاقيات أفضل من هذا القبيل ــ وسوف نحصل عليها في الأرجح.

لتحقيق معادلة عامل السِعر، يحتاج الناس إلى قاعدة مستقرة لحياة مهنية حقيقية وتتصل ببلد لا يقيمون فيه جسديا. كما نحتاج إلى حماية الخاسرين بسبب التجارة الخارجية في دولنا القومية القائمة. تمتد جذور مساعدات تعديل التجارة في الولايات المتحدة إلى عام 1974. وجربت كندا في عام 1995 مشروع تكميل الأرباح. ويعمل صندوق تكييف العولمة الأوروبي، الذي بدأ عام 2006، بالاستعانة بميزانية سنوية ضئيلة لا تتجاوز 150 مليون يورو (168.6 مليون دولار أميركي). وقد عارَض باراك أوباما توسيع برنامج مساعدات تعديل التجارة. ولكن حتى الآن لم يتجاوز الأمر التجارب والمقترحات إلا قليلا.

في نهاية المطاف، من المرجح أن تنبع الثورة القادمة من التفاعلات اليومية على شاشات الكمبيوتر مع أجانب نستطيع أن نرى أنهم أذكياء، ويتمتعون باللياقة والاحترام ــ والذين تصادف ليس باختيارهم أن يعيشوا في فقر. ولابد أن يقود هذا إلى اتفاقيات تجارية أفضل، وهو ما يستلزم مسبقا تطورات هائلة تشمل تحسين الضمان الاجتماعي لحماية الناس داخل أي دولة أثناء الانتقال إلى اقتصاد عالمي أكثر عدالة.

* الفائز في جائزة نوبل في الاقتصاد في 2013، وأستاذ علوم الاقتصاد بجامعة ييل، وشارك في خلق مؤشر كيس شيلر لأسعار المساكن في الولايات المتحدة. ومؤلف كتاب من الوفرة الطائشة، الطبعة الثانية التي توقع فيه الانهيار القادم من فقاعة العقارات

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق