q

مايكل سبنس

 

ميلانو ــ كان قسم كبير من العالَم، وخاصة الاقتصادات المتقدمة، غارقا في نمط من نمو الناتج المحلي الإجمالي البطيء والمتراجع في السنوات الأخيرة، الأمر الذي دفع كثيرين إلى التساؤل حول ما إذا أصبحت هذه الحال شبه دائمة ــ ما يسمى "الركود المزمن". لعل الإجابة هي "أجل"، ولكن السؤال يفتقر إلى الدقة، وبالتالي فإن الإجابة عليه محدودة النفع. فهناك على أية حال مجموعة مختلفة من الأنماط التي قد تتسبب في قمع النمو، وليس كل هذه الأنماط خارج نطاق سيطرتنا.

من المؤكد أن هناك حجة قوية مفادها أن الكثير من الرياح المعاكسة المدمرة للنمو والتي نواجهها حاليا سوف يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، التصدي لها في الأمد القريب، من دون تعريض النمو والاستقرار في المستقبل للخطر. ومن الممكن أن نسمي النتيجة التي أسفرت عنها هذه الظروف المستمرة "الركود المزمن الأول".

تتعلق أولى الإشارات التي تدلل على أننا نشهد الركود المزمن الأول بالتكنولوجيا. فإذا كنا نشهد، كما يزعم الاقتصادي روبرت جوردون، تباطؤا في الإبداع التكنولوجي المعزِّز للإنتاجية، فإن هذا من شأنه أن يقيد النمو المحتمل في الأمد البعيد. ولكن حتى إذا كان الإبداع لم ينخفض إلى هذا الحد، أو لو عاد إلى الارتفاع قريبا، فإن التكيف البنيوي والتغيرات السلوكية اللازمة للاستفادة من مكاسب الإنتاجية المصاحبة سوف يستغرق وقتا طويلا.

وتمتد جذور شرط ثان يدعم الركود المزمن الأول إلى التأثير المتخلف عن حالة عدم اليقين الشديدة ــ بشأن النمو، والأمن الوظيفي، والسياسات والقواعد التنظيمية، والتطورات العديدة التي قد تؤثر على أي من هذه العوامل ــ على الاستثمار والاستهلاك. والناس لا يعرفون ببساطة ما إذا كانت حكوماتهم قد تبدأ في إحراز أي تقدم على مسار مكافحة الضغوط الانكماشية، والتصدي لفجوة التفاوت المتزايدة الاتساع، ومعالجة التفتت الاجتماعي والسياسي، واستعادة النمو الاقتصادي وفرص العمل.

ولأن الطلب في المستقبل غير مضمون على الإطلاق، فإن الاستثمار الخاص كان في انحدار في العديد من البلدان، بما في ذلك في الصين مؤخرا. وينطبق الشيء نفسه على استهلاك الأسر، وخاصة في الاقتصادات المتقدمة، حيث تتسم حصة أكبر من الاستهلاك بكونها اختيارية (على سبيل المثال، إحلال السلع الاستهلاكية المعمرة، والسفر، وتناول الطعام في المطاعم). ونظرا للوقت الطويل الذي مر قبل أن يتعافى الاقتصاد الأميركي على سبيل المثال بشكل كامل من أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين ــ حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، عندما تولت الحكومة قدرا كبيرا من جانب الطلب من الاقتصاد ــ فيبدو أن انقلاب هذه الاتجاهات لن يحدث في أي وقت قريب.

الإشارة الثالثة التي تدلل على أننا أصبحنا عالقين في الركود المزمن الأول هي الديون. فالأسر، والشركات، والمؤسسات المالية، والحكومات تواجه جميعها قيودا على الميزانية العمومية، والتي يبدو من المعقول أن نفترض أنها تعيق الإنفاق والاستثمار، وترفع المدخرات، وتساهم في خلق بيئة انكماشية في عموم الأمر.

وتحمل التدابير التي تهدف إلى دعم تقليص الديون وإصلاح الميزانيات العمومية ــ مثل الاعتراف بالخسائر، وخفض القيمة الدفترية للأصول، وإعادة رسملة البنوك ــ فوائد أطول أمدا، ولكنها لا تخلو من تكاليف قصيرة الأمد. والواقع أن إصلاح دفاتر الميزانيات العمومية يستغرق وقتا طويلا، وخاصة في قطاع الأسر، ويفرض ضغوطا لا يمكن تجنبها على النمو.

صحيح أن الصورة قاتمة بعض الشيء، ولكن القصة لا تنتهي هنا؛ فهناك فصول تالية يكشف عنها سؤال أكثر دقة: هل توجد مجموعة من الاستجابات السياسية الكفيلة بزيادة مستوى وجودة النمو بمرور الوقت؟ هنا أيضا تبدو الإجابة "أجل"، وهو ما يشير إلى أننا نواجه أيضا نمطا آخر من الركود المزمن ــ ولنسمه "الركود المزمن الثاني" ــ والذي يمليه عدم رغبتنا أو عدم قدرتنا على تنفيذ المزيج المناسب من السياسات.

يركز أحد العناصر الرئيسية في هذه التركيبة من السياسات على معالجة اتساع فجوة التفاوت. فرغم أن القوى التي تغذي هذا الاتجاه ــ وخاصة العولمة وتقدم التكنولوجيا الرقمية ــ يصعب مقاومتها بشكل كامل، فإن آثارها السلبية يمكن تخفيفها من خلال إعادة التوزيع عن طريق أنظمة الضرائب والضمان الاجتماعي. ومع خضوع الاقتصادات لتحولات بنيوية مطولة، يحتاج الأفراد والأسر إلى الموارد اللازمة للاستثمار في مهارات جديدة.

علاوة على ذلك، لابد من إعادة النظر في السياسة النقدية، التي تحملت قدرا كبيرا من عبء التعافي منذ الأزمة الاقتصادية عام 2008. والحقيقة هي أن سنوات أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض وبرامج التيسير الكمي الضخمة لم تُسفِر عن زيادة الطلب الكلي بالقدر الكافي، ناهيك عن تقليص القوى الانكماشية بالدرجة الكافية.

لكن رفع أسعار الفائدة من جانب واحد ينطوي على مخاطر جسيمة، لأن أسعار الفائدة المرتفعة في بيئة محدودة الطلب تجتذب تدفقات رأس المال إلى الداخل، فتدفع بالتالي سعر الصرف إلى الارتفاع وتقوض النمو في القسم القابل للتداول من الاقتصاد. ولهذا، يتعين على صناع السياسات في الدول المتقدمة أن يفكروا في فرض بعض الضوابط على حسابات رأس المال (تماما كما تفعل الاقتصادات الناشئة الناجحة) ــ وهي الخطوة التي من شأنها أن تسهل الاستعانة بأساليب أكثر استقلالا وتفصيلا في الخروج من سياسات القَمع المالي.

لابد أن تكون الأولوية الثالثة تعزيز الاستجابات المالية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالاستثمار في القطاع العام. ذلك أن أوروبا بشكل خاص تدفع ثمنا باهظا بسبب عدم استغلال قدرتها المالية بالقدر اللازم ــ وهو القرار الذي كان مدفوعا بانعدام الشعبية السياسية للديون والتحويلات المالية. وفي ظل الظروف المناسبة يصبح من الممكن أيضا استغلال ميزانيات صناديق التقاعد والثروة السيادية لتمويل الاستثمار.

هناك العديد من المجالات الأخرى حيث قد تحتاج البلدان إلى النظر في الإصلاحات. وتتضمن هذه المجالات السياسة الضريبية، والاستخدام غير الفعّال أو غير السليم للأموال العامة، ومعوقات التغير البنيوي في أسواق المنتجات وعوامل الإنتاج، وعدم التطابق بين امتداد المؤسسات المالية العالمية وقدرة ميزانيات الكيانات السيادية على التدخل في حال حدوث ضائقة مالية.

من الواضح أن الركود المزمن الأول من شأنه أن يجعل معالجة الركود المزمن الثاني أمرا أشد صعوبة. ولا يبدو حتى أن الاستجابات السياسية المحلية والدولية القوية قد تكون كافية لإزالة الخطر المتمثل في بقاء الطلب والنمو مكبوحين لفترة ممتدة. ولكن هذا ليس سببا لتأخير العمل في المناطق حيث قد تُحدِث السياسات فارقا ملموسا. وكما ساعدتنا اختياراتنا السياسية الماضية في توليد الركود المزمن الأول الذي نواجهه اليوم، فإن الفشل في تنفيذ السياسات الرامية إلى معالجة الركود المزمن الثاني من الممكن أن يخلق وضعا مستعصيا على الحل وربما يكون غير مستقر في الغد.

* حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ علوم الاقتصاد في كلية جامعة نيويورك شتيرن لإدارة الأعمال
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق