q

«لا أريد لداري أن تحيط بها الأسوار من كل جوانبها، وأن تسد نوافذها، أريد ثقافة البلاد كلها أن تهب على داري بحريّة تامة». المهاتما غاندي

توصف الكثير من المدن في العالم بانها (كوزموبوليتانية) وذلك بسبب ثقافاتها المتعددة وانفتاحها على العالم، ووُصِفَت العاصمة الفرنسية باريس بهذه الصفة لثقافاتها المتعددة وانفتاحها على العالم.

في المدن الصغيرة، يكون الناس منغلقين على ذواتهم، يمارسون الحوارات الرتيبة ذات المسار الواحد، لديهم مخاوفهم تجاه الغريب، اسيرين لعاداتهم وتقاليدهم المنغلقة، لا يتعاملون الا مع اشخاص يتوقعون سلوكهم وردة فعلهم.

اما الشخصية التي تنشأ في هذه المدن (الكوزموبوليتانية) فانها تكون متعددة اللغات والثقافات، تتقبل وتساعد وتتفاعل مع الآخرين، ودائماً لديها شعور أن وطنها بيئات مختلفة، وقد كان كوامي أبياه مؤلف كتاب" الكوزموبوليتانية : أخلاقيات في عالم من الغرباء". يدعو إلى أن يكون الإنسان اقل انغلاقاً، ويتعلم التسامح وتقبّل اختلافات الآخر، ويقدّر الاختلافات، ويعي أن هناك التزاماً تجاه الآخرين، بمعنى التزاماً يتجاوز من يربطنا بهم رباط القربي أو الجيرة، والصداقة، أو رباط المواطنة المشتركة؛ فنتعلم أن الناس مختلفون ولا يتطابقون معنا، أو حتى يشبهوننا، وهذا الاختلاف ما هو إلا دروس نتعلمها من أجل العيش بسلاسة وسلام واحترام لوجود الآخر أياً كان، وهذا الالتزام تجاه الآخرين بمثابة تحد في حياتنا لنتعلم الحياة معاً يداً بيد في وسط التنوع الثقافي.

ويسهل أن نتبين هذا البعد مع ملاحظة اتساع مدى التنوع العرقي والثقافي واللغوي الذي أصبحت تتميز به المدن الأوروبية ـ الأمريكية الكبيرة على نحو متزايد في عالمنا المعاصر، حيث لم يعد الواقع السكاني في هذه المدن يعرف هامشية التجمعات السكنية المنغلقة المعزولة أو المنبوذة عن بقية التجمعات، وإنما أصبح هذا الواقع يقوم على تعددية عرقية (ومن ثم لغوية ثقافية) مفتوحة، بلا حواجز صارمة أو معلنة من التمييز العنصري أو الديني أو الثقافي القديم. ولذلك أصبح التعدد اللغوي سمة هذه المدن التي تأتي نيويورك ولندن في موضع الصدارة منها، ولا سيما من حيث معدلات الازدحام اللغوي. وهو ازدحام لا يخلو من عمليات تبادل وتراسل وتفاعل تؤكد تساقط الحواجز اللغوية التقليدية بين الأحياء ذات الكثافة العرقية المتباينة في المدينة الكوزموبوليتانية.

 فلم يعد سكان منطقة من المناطق يقتصر على ذوي اصول معينة، لا علاقة لها بغيرها، وإنما انفتحت تلك المناطق على اخرى غيرها، واتصلت بها من لم تكن تتصل به قديماً، وخرج أبناء المنطقة المعزولة ليختلطوا ببقية المناطق. وفي الوقت نفسه انتقلت ثقافة المنطقة في مظاهرها المتعددة وممارساتها المتنوعة إلى خارج دائرتها الجغرافية المحدودة، لتمارس حضورها في غيرها من المناطق، وتتفاعل مع غيرها من الثقافات بما يخلق أوضاعاً ثقافية جديدة وتراسلات لغوية متباينة.

من المعروف أن مدينة سامراء تضم في تربتها اثنين من الأئمة المعصومين؛ الامام علي الهادي ووالده الامام الحسن العسكري، عليهما السلام، الى جانب مرقدي السيدة حكيمة والسيدة نرجس والدة الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه الشريف، وايضاً مكان غيبة الإمام الحجة المنتظر، بما يُعرف بسرداب الغيبة، بيد أن الطابع الديموغرافي السنّي ما يزال هو الغالب اجتماعياً على هذه المدينة منذ عهود طويلة، مما ميزها عن سائر المدن المقدسة، حيث غياب التنوع السكاني من مذاهب وطوائف اخرى.

لتغيير الواقع المنعزل لهذه المدينة المقدسة لدى المسلمين، بادر علماء الدين الى جملة خطوات ومشاريع انطلقت منذ القرن التاسع عشر والقرن العشرين وما تزال الجهود مستمرة، وكانت البداية من المرجع الديني الأعلى في زمانه؛ السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي – طاب ثراه-الذي نقل الحوزة العلمية من النجف الاشرف الى سامراء، وتبعه في هذه الهجرة، المئات من العلماء والمجتهدين وطلبة العلوم الدينية.

خلال هذه الهجرة، أسس الميرزا الشيرازي المدارس الدينية وقام بمشاريع عمرانية ذات ابعاد اقتصادية واجتماعية عديدة، مثل تشييد الجسور وبناء الاسواق والمستشفيات وغيرها من المرافق الحيوية التي أنعشت المدينة وضخت فيها روح الحياة، كما مهّد لتواجد اتباع اهل البيت في هذه المدينة المقدسة، وأزال آثار الغربة عن المرقدين الشريفين، علماً أن هذه المبادرات الحضارية والمشاريع العمرانية، لم تسلم من ردود الفعل من الاطراف المتضررة، ومن جملة ردود الفعل السلبية والخطيرة؛ الهجوم على دار المرجع الشيرازي بحجة السرقة، فيما الهدف كان اغتيال احد أنجاله، فقتل بطعنات سكين على يد مجهولين.

هذا الحادث المريع، أثار ردود فعل سريعة من لدن السلطات العثمانية والقاجارية وايضاً السلطات البريطانية (الاستعمارية)، فشهدت سامراء آنذاك، وصول وفود رسمية من هذه الجهات للقاء المرجع الشيرازي والاستماع الى ما يطلبه من اجراءات معينة حيال هذه الجريمة، بيد أن حكمة وفطنة المرجع الشيرازي كانت أكبر من هذا الحادث بكثير، فتم إغلاق الملف نهائياً من قبله، لأنه في وعيه يدرك مدى اهمية ان تكون تلك المدينة منفتحة على التنوع والتعدد السكاني والديني والثقافي، بعيدا عما يريده اصحاب الايديولوجيات السياسية في ذلك الوقت.

بعد وفاة الميرزا الشيرازي، واصل كبار علماء الدين في حوزة سامراء، الطريق الذي مضى عليه المرجع الراحل، وفي مقدمتهم؛ حاج آغا رضا همداني، والميرزا محمد تقي الشيرازي، وبعد هجرة الميرزا الشيرازي الى كربلاء المقدسة، وقيادته الثورة ضد الاستعمار البريطاني بما يُعرف بثورة العشرين، ثم وفاة الميرزا الشيرازي وتأسيس الدولة العراقية، انحسر النشاط في حوزة سامراء، كما اقتصر وجود اتباع اهل البيت في هذه المدينة الى بضع مئات من العوائل، وهم على الأغلب، من أسر طلبة العلوم الدينية.

في مرحلة لاحقة، وفي عهد زعامة السيد ابو الحسن الاصفهاني، قرر تقوية وجود اتباع اهل البيت في سامراء مرة اخرى، واقترح على بعض عشائر الجنوب العراقي بأن تهاجر الى سامراء وتستوطن هناك، فهي اضافة الى كونها عشائر عربية، فهي ترتبط بوشائج اجتماعية وعشائرية مع عشائر اطراف سامراء، بيد أن هذا الاقتراح جوبه بالرفض من قبل الحكومة العراقية آنذاك، فتوقف المشروع أمام جملة من العقبات والعراقيل.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد انبرى المرجع الديني آية الله العظمى الامام السيد محمد الشيرازي ليواصل المسيرة والابقاء على حرارة الطريق الى مدينة سامراء المقدسة، فكان مشروعه تنموياً واجتماعياً يصب في مصلحة أهل المدينة من السنّة، لتفادي المعوقات الحكومية، وتضمن المشروع، إحياء زيارة الامام الحسن العسكري، عليه السلام، في اليوم الثامن من شهر ربيع الاول، وتنظيم رحلات يومية ومجانية للزيارة في ايام شهر رمضان المبارك، حيث تنطلق الحافلات من جنب حرم الامام الحسين، عليه السلام، بعد صلاة الظهر والعصر، ويكون البرنامج؛ زيارة الامامين العسكريين عصراً وإقامة مراسيم الدعاء والافطار هناك حتى المساء، ثم إقامة مأدبة السحور الى جوار مرقد السيد محمد، عليه السلام، في قضاء بلد، والعودة الى كربلاء المقدسة بعد أداء فريضة الصبح.

وكان المرجع الشيرازي – قدس سره- يرافق الزائرين في آخر جمعة من شهر رمضان المبارك.

وخلال هذا المشروع الجديد، شيّد سماحته الحسينية الكربلائية في سامراء، لتكون مركزاً لاستضافة الزائرين طيلة أيام السنة، ومن التوجيهات السديدة لسماحته – قدس سره- دعوته الأكيدة لأصحاب الحملات والزائرين من الوسط والجنوب، بأن يتبضعوا من اسواق سامراء، وهو ما انعكس ايجاباً على أهالي المدينة وشوّقهم لاستقبال الزائرين لمدينتهم ولمرقد الامامين العسكريين، عليهما السلام.

ليس هذا وحسب، بل شدد سماحة المرجع الشيرازي، على مراقبة الزائرين للحؤول دون صدور أعمال او تصرفات معينة بما من شأنه ان يثير حفيظة السكان السنّة في سامراء.

وعندما استولى البعثيون على مقاليد الحكم في العراق، عمدوا الى ترحيل جميع السكان من اتباع اهل البيت من مدينة سامراء او من العراق بشكل كامل، حتى باتت المدينة خالية تقريباً منهم، كما تم هدم الحسينية الكربلائية والحوزة العلمية التي شيّدها الميرزا الشيرازي، وبالنتيجة؛ تم إزالة جميع المظاهر الدينية لاتباع اهل البيت من هذه المدينة.

وبعد الاطاحة بنظام البعث، وبالتنسيق مع مكتب سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي – حفظه الله- تم استئناف رحلات الزيارة الى هذه المدينة، بيد أن حادثة الاعتداء على المرقدين الشريفين، تسبب بإغلاق الطريق الى سامراء، وبناء على أوامر خاصة من رئاسة الوزراء آنذاك، تم تجميد أمر الزيارة وإغلاق المرقد الشريف لمدة عامين، ومنع أي شخص من دخول المرقد الشريف.

 ولكن؛ بالتنسيق مع مكتب المرجع الشيرازي، انطلقت اول حملة للزيارة نحو سامراء، وبعد الحصول على الموافقات الاصولية من شخص محافظ صلاح الدين –وهو من الاخوة السنّة- تم الدخول الى المدينة، والى المرقد الشريف الذي تحول الى انقاض بفعل التفجير الارهابي، وقد تم تصوير وقائع الرحلة وجميع اللحظات المثيرة للزيارة وكيفية دخول الزائرين بعد انقطاع طويل، وتم بث المشاهد عبر القنوات الفضائية، ونظراً للتأثير العميق الذي تركه هذا الفيلم على المشاهدين والرأي العام في العراق وخارجه، رأت الحكومة العراقية نفسها مجبرة لإعادة النظر في قرارها وإطلاق عملية إعادة بناء المرقدين الشريفين.

ومنذ ذلك الحين، انطلقت قوافل الزائرين الى سامراء، ومن ابرز المناسبات؛ الجمعة الاخيرة من شهر رمضان المبارك، التي تمثل سنّة حسنة تعود الى حوالي خمسين عاماً.

هذه الزيارة لم تواجه أي ردود فعل سلبية، ومضت سنوات وهي تتضاعف من حيث عدد الزائرين وتتطور دون أن تواجه أي مشكلة، حتى ظهرت في الآونة الاخيرة بعض الاصوات وللأسف الشديد، ولتحقيق بعض الاهداف، تحاول رسم صورة خاطئة عن هذه الزيارة بأنها تمثل بديلاً عن يوم القدس العالمي وترمي الى التقليل من هذه المناسبة التي تقام في آخر جمعة من الشهر الفضيل ايضاً! علماً أن يوم القدس العالمي يقام في جميع انحاء العالم، وتتضمن المراسيم إقامة التظاهرات الجماهيرية صبيحة يوم الجمعة، وتنتهي المراسيم مع صلاة الجمعة، بينما مراسيم زيارة الامامين العسكريين، تكون تحديداً بعد صلاة الظهر والعصر، بما يعني عدم وجود أي تعارض بين البرنامجين.

علاوة على ذلك؛ وبنظرة منصفة الى القضية، نلاحظ أن برنامج زيارة الامامين العسكريين، يُعد مكملاً لبرنامج يوم القدس العالمي، حيث ان الاولوية اليوم تتركز على الحرب ضد القوى التكفيرية المتمثلة بتنظيم "داعش"، سواءً في سوريا او العراق، وبرنامج الزيارة يمثل خطوة سلمية تراعي مشاعر الاخوة السنّة في مدينة سامراء، فكما اننا بحاجة الى تعبئة القوى للحرب العسكرية ضد "داعش" فنحن بحاجة ايضاً الى العمل الثقافي والديني، وبما أن قوى التكفير تمثل احدى رؤوس الحراب الاسرائيلية، فان كسر هذه الحربة يلحق اكبر الضرر بالكيان الصهيوني الغاصب.

وثمة نقطة مهمة في قضية مدينة سامراء، تتعلق بمخطط تقسيم العراق، وبما أن أي مشروع للتقسيم يقوم على الارض، فان وجود المراقد المقدسة في المناطق التي يسكنها السنّة، يمثل فرصة لتواجد اتباع اهل البيت هناك، وعليه؛ فان استمرار وتقوية رحلات الزيارة الى مدينة سامراء، يؤدي الى لجم مشروع التقسيم في العراق على اساس طائفي، لأن تحقيق التقسيم –كما يريده البعض- يقتضي إخلاء المناطق السنية من أي وجود لاتباع اهل البيت، وهذا ما نرجو أن لا يتحقق ببركة هذه الرحلات وجهود القائمين عليها وهمة آلاف بل ملايين الزائرين من كل مكان للإمامين العسكريين، عليهما السلام.

ندعو ان تتحول سامراء وغيرها الكثير من المناطق في العراق الى مدن (كوزموبوليتانية) تحتضن التنوع العرقي واللغوي والديني لسكان العراق بعيدا عن توجهات وايديولوجيات السياسيين او جهات اخرى، تريد للعراق ان يعيش في مناطق معزولة وغيتوهات مغلقة لاتعرف شيئا عن الاخرى، وتساهم في رفع وتيرة التطرف والكراهية ضد الاخر.

اضف تعليق