q

إنها امرأة نحتت اسما شامخا على أحجار جبال مكة، اسم يحاكي قصصا ممتلئة بالدروس والعبر، إنها شخصية عظيمة، فقد كانت ركنا أساسيا في بناء الاسلام ونشره، وهي أول امرأة نالت شرف اعتناق الإسلام،! لم تعتنق الاسلام فقط بل ذادت عنه بنفسها وبما تملك، كم جميل أن يقدم الرجل شيئا وتقف المرأة الى جانبه وتدافع عنه، ما أجمل حياة الرجل اذا كان لديه زوجة تؤمن به، وترفع عنه همومه وتسانده في جميع المصاعب والمحن، والأجمل ان لا ينسى الرجل الإيثار والمحبة التي قُدمت له، ولا تأتي كل هذه العظمة إلا بالعلم والفهم.

ولدت خديجة بنت خويلد في مكة، نشأت وترعرعت في بيت جاهٍ ووجاهة وإيمان وطهارة سلوك، حتى سميت بالطاهرة وعرفت بهذا اللقب قبل الاسلام.

زواجها المبارك

انها كانت من اعظم النساء في عصرها، وما أن بلغت خديجة سن الزواج حتى أصبحت محط أنظار شباب قريش وأشراف العرب، فقد كانت فتاة راجحة العقل كريمة الأصل ومن أعرق بيوت قُرَيْش نسبا، ولعظم شخصيتها وعلو قدرها كان يخطب يدها الكريمة، كبار العرب وعظماؤهم، ولكن لم تقبل بهم، شاءت ان تختار ما هو الأعظم والأفضل من بينهم من الناحية الأخلاقية ولم تهتم سوى بهذا الجانب الحياتي، لان المرأة الذكية تعرف ان المال زائل، فهو ربما يزول في لحظة واحدة، ولكن الأخلاق الرفيعة والصفات الحميدة لا تفارق صاحبها.

كان يَظهرُ على خديجة رجاحة الرأي وحسن التدبير وصواب المشورة في حياتها قبل زواجها من الرسول، وفي اختيارها للرسول زوجاً لها، ثم في حياتها معه حتى وفاتها، وكان الرسول (ص) يأنس بمشورتها ويحرص على عرض الأمور عليها والاستئناس برأيها، لخديجة بنت خويلد مكانة كبيرة وفضل عظيم، ويستند هذا الكلام الى روايات من كتب العامة والخاصة.

لمن الفخر ان يبشر الانسان بالجنة وخديجة هي من نالت هذا الشرف العظيم.

قال رسول الله ص: أفضل نساء الجنة أربع؛ خديجة بنت خويلد، فاطمة بنت محمد، مريم بنت عمران، واسية ابنة مزاحم.

كانت خديجة بنت خويلد أول امرأة آمنت بالله ورسوله وصدقت رسول الله (ص)، فيما جاء به عن ربه وآزرته على أمره، فكان لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردٍ عليه وتكذيبٍ له، إلا فرَّج الله عنه بها، تثبته وتصدقه وتخفف عنه، وتهوّن عليه ما يلقى من قومه، انها أسوة حسنة لكل امرأة تبحث عن الخلود والرفعة، تلجأ الى باب خديجة لتتعلم معنى الإيثار والوفاء، ليس النساء فقط بل موقفها الرصين كان يفوق قدرة عشرات الرجال.

لقد تركت بصمة حبها في قلب حبيبها، قليل من يذكر شريك حياته بعد مضي أعوام عديدة، ربما يكون هؤلاء قلة قليلة، أعني الذين يذكرون شريك حياتهم، هناك نساء تستحق الرثاء وتستحق ان تبقى شامخة في ذاكرة الدهر، وفي قلب الرجل هناك نساء خالدات، ليس باستطاعة أي جبروت في الكون أن يمسح أسمائهن عن لائحة العظماء، نساء مخلصات، نساء يقدمن ما لديهن بسعادة ولم يبخلن في شيء حتى نفوسهن! خديجة كانت احدى ابرز هذه الشخصيات الخالدة التي لم تبخل على زوجها أبدا، فقد بذلت اموالها وحتى نفسها في سبيل الاسلام.

كان يذكرها النبي (ص) وكان يمدحها دائما، وكان رسول الله -ص- إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناءٍ عليها واستغفارٍ لها، فذكرها يوما، فحملتني الغَيرة ، فقلت: لقد عوضك الله قالت: فرأيته غضب غضبا. أُسْقِطْتُ في خلدي وقلت في نفسي: اللهم إنْ أذهبتَ غضبَ رسولك عنّي لم أعُدْ أذكرها بسوء. فلما رأى النبي -ص- ما لقيت، قال: كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورُزِقْتُ منها الولد وحُرِمْتُمُوه منِّي. قالت: فغدا وراح عليَّ بها شهرا. و في رواية اخرى أن رسول الله ص قال مجيباً عائشة: (لا والله ما أبدلني الله خيراً منها).

ولم يقتصر اهتمامه بخديجة فقط، بل كان يتفاعل مع كل ما يذكره بها. عن أنس بن مالك قال: (كان النبي إذا أُتي بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة، فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانة، فإنها كانت تحب خديجة). هنا ندرك ان النبي ص كان يحب ويهتم بخديجة حتى بعد رحيلها وان حب خديجة كانت سبب ارتفاع شأن صديقتها وأصبحت محط اهتمام الرسول.

أسماؤها وألقابها

للسيدة خديجة ألقاب كثيرة تعكس عظيم نبلها وشديد قدسها من هذه الألقاب: الصدّيقة، المباركة، أمّ المؤمنين، الطاهرة، الراضية، المرضية ...إلخ.

وكانت تعطف على الجميع، وتحنو عليهم كأمّ رؤوم بأولادها، فكانت «أمّاً لليتامى»، و«أمّاً للصعاليك» و«أمّاً للمؤمنين»، وهي كوثر الخلق، وسمّيت أيضاً «أمّ الزهراء» أو ينبوع الكوثر.

وفاتها

حان موعدها مع القدران في العاشر من رمضان في السنة العاشرة من البعثة، عندما اسلمت الروح لبارئها وألقت برحيلها المفجع حزنا كبيرا على قلب النبي (ص)، ودفنت في الحجون حيث دخل النبي (ص) قبرها ووضعها في لحدها بيديه الشريفتين، كانت وفاتها ووفاة ابي طالب في العام نفسه، لذلك سمى النبي (ص) هذا العام بعام الحزن وأعلن الحداد فيه.

من وصايا السيدة خديجة:

لقد اوصت السيدة خديجة النبي (ص) عدة وصايا وهي على فراش الموت:

- ان يدعو لها بالخير.

- أن يلحدها بيديه الشريفتين.

- أن يدخل في قبرها قبل دفنها.

- أن يضع مرطه الذي ادثر به عند نزول الوحي على كفنها.

هذه السيدة العظيمة التي وهبت كل أموالها الى الرسول (ص)، لم تطلب شيئا سوى مرط، ومع ذلك فهي لم تطلبه منه مباشرة، بل بواسطة ابنتها الزهراء (ع)، حينذاك نزل الوحي من عند الله العلي القدير بكفن من الجنة، ما اعظمها، كثرة عطائها بلا مقابل تدل على شموخها واصلها الرفيع، قامت ام أيمن وأم الفضل (زوجة العباس) بغسل جسد هذه الطاهرة، عندما كانت تتسارع مع الموت في لحظاتها الأخيرة، كانت تنظر بقلق الى ابنتها الزهراء (ع)، أسماء بنت عميس تعهدت لها بان تكون اما لها ليلة زفافها، وهكذا اختتمت حياة هذه العظيمة وكانت ثمرتها سيدة نساء العالمين من الاولين والاخرين والأئمة الأثنى عشر.

يصف الرسول الكريم (ص) ورود خديجة يوم الحشر بهذه العبارات: يأتي لاستقبالها سبعون الف ملك يحملون رايات زيّنت بعبارة الله اكبر.

اضف تعليق