q

في 3:13 دقيقة بعد منتصف الليل دقّت ساعته الداخلية، على مهل طرق ضوء القمر على أجفانه، سقطت خيوطه الفضيّة على صفحة وجهه، فاستيقظ والليل لا يزال ضاربا على الوجود أطنابه، أشاح بعينيه نحو النافذة المفتوحة والريح تداعب الستائر، يكاد يسمع نبضه، إنّه قلب البدر، غريمه الأبدي!!.

أحسّ بدوامة في رأسه، ورياح تصفر في داخله كزوبعة، تصبب العرق منه بغزارة، فها هو ذا البدر يطلع في خيلاء من وراء الشجرة المجاورة لبيته، ذرع الغرفة جيئةً وذهابا علّ التهيّج يغادره، وليس في ذلك من سبيل.

ثمّة رابطة بين اكتمال القمر ونفسيته المضطربة، ليس عليه فقط، بل على الكثير من الناس في شتّى أنحاء العالم، تزداد في هذه الليالي حوادث السيارات والتصرفات الغريبة ومعدلات الانتحار والجرائم بشكل ملحوظ، فدورة القمر تؤثّر على أعمال العنف لدى البعض، كما تتأثّر مياه المحيطات والبحار بجاذبيّة القمر في عملية المد والجزر، وكذلك جسم الانسان يمتلئ بالسوائل ويتهيّج دمه.

هذا ما قاله دكتوره وصديقه عن تفسير حالته المرضيّة، وأرفده بنصيحة أخويّة وهي ترك جرعات الدواء والمسكّنات وإبدالها بجرعة إيمان ومحاولة تغيير توجّهه الذهني نحو القمر، وأن يتذّكر دائما المقولة القديمة "ليس هناك جميل ولا قبيح، وإنّما تفكيرك هو الذي يصوّر لك أحدهما".

أخذ يحدّق في اللاشيء، ومع انبثاق أول خيط من ضوء الفجر، داعب النوم عينيه، وغطّ في نوم عميق حتّى برزت الشمس من خدرها، حينئذٍ نهض وصلّى الصبح قضاءا كما في كل يوم!!.

***

في الليلة التالية، تكرّر الأرق المزمن، أمواج الهم تتقاذفه من كل جانب، خواء في داخله يكبر، وغصّة علقت في حلقه عندما تأمّل السماء وشعر أنّ أبوابها موصدة في وجهه، أطرق خجلا وشرعت عيناه تبحثان عن مرافئ دافئة، وقعت نظراته على دفاتر طلّابه فتلقّفها على أمل حرق الوقت حتى تباشير الفجر.

"إن لم تكونوا كالأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السماء"، رددها مع نفسه وهو يقلّب صفحات الدفاتر لتلاميذه في المدرسة، وكان الواجب موضوع إنشاء عن (شيء من الطبيعة تحبّه ويؤثّر فيك كثيرا).

قرأ ما جادت به أيدي من لا يزالون في طور البراءة الفطريّة، واستوقفه أحد العناوين، ضربت الكلمات كسوط على قلبه، وكانت: البدر التمام.

توجه بكلّه الى تلك الورقة، ونافذة أمل تُفتح على مصراعيها ليرى من يعتبر القمر مصدر طمأنينة له.

كانت كلمات ولغة بسيطة لقلب طفل لم يدّنسه عالم المادة والناس، أفكار تشف عن نفس رقراقة ومعاني سامية لم يسعها يوما عقله الكبير!! قرأ الموضوع بتمعّن:

(حكايتي مع البدر بدأت عندما سألتني جدّتي عن أمنية مستحيلة الحدوث، وكان جوابي هو وجودي في زمن نبي أو وصي واللقاء به، أمسكت جدّتي بعصاها وحركتّها في الهواء وركزّتها علي لتوحي لي كحكايا السحر وومضاته بأنّ حلمي تحقق.

سكتت هنيهة ثمّ ترقرقت عيناها بالدموع وهي تقول لي: عزيزي.. إنّ الله لا يخلي الأرض من حجّة، لم أفهم ما قالت، فشرعت في الحديث عن عقيدة مهمّة في الحياة، وهو وجود إمام يحتجب عن الأنظار بأمر الله، "بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورا" سيظهر.

دمعت عيني لكلامها وقُذفت محبّة ذلك الإمام كآبائه في قلبي، فأخبرتها بذلك وقالت حديث للإمام وهو: "لو علم شيعتي كم أحبهم لماتوا شوقا لي" .

أريد أن أراه.. بدأت تشهق بالبكاء: إنّه غائب لكنه يلامس كل جزء من حياتنا، بصماته في كل مكان، هو قريب منّا لدرجة أنك تستطيع أن تضع خطواتك فوق آثار أقدامه، ستجده عند بيوت الله، وعند أعمال الخير، ستشعر بطيفه عندما تمسح دمعة يتيم وتمنع الظلم أو ترفضه عن المظلوم.

طلبتُ منها رمزاً يذّكرني بوجوده، وقالت إنّها كلما ترى القمر مكتملا يلهج لسانها بذكره، فكل الناس نجوم، وهو البدر بنوره وروعته في تمامه وكماله، لأنه بقية الله في أرضه ولأنه ولد في النصف من شعبان.

عندما يكتمل القمر.. أصوم مع جدتي ثلاثة أيام وتسميها "الأيام البيض" وأهديها لإمام زماني، وعندما ألمحه في كبد السماء، أغمض عيني وأناجيه وأبثّ همومي وأدعو الله بتعجيل ظهوره.

***

كثيرة هي الأفكار التي اخذت تعصف داخله على ضوء ما قرأه، أعاد تدوير تساؤلات قديمة لقناعات تهتّز لأقل مطب، وكأنّ ذاك التلميذ فطن لما في باله، لقد تخبّط طويلا بين الأديان والمذاهب وإجاباتها عن هويّة المنقذ، شد ما سأل نفسه يائسا، متى سيولد؟! متى سيهبط؟! متى سيظهر إن كان موجودا بالفعل؟! وقد امتلأت الأرض ظلما وجورا.

تراه كان ينقصه شخصا كتلك الجدّة لتلج بأحاديثها أعماق النفس البشرية، أم الذي ينقصه الإيمان بقيم روحيّة كتلك التي يمتلكها تلميذه.. الإيمان بأشياء غيبية لا ترى بقدر ما يُشعر بها، شعر بكلمات رسول الله (ص) تخاطبه: "أما والله ليغيبنّ إمامكم شيئا من دهركم، ولتمحصنّ، حتى يقال: مات أو هلك بأي وادٍ سلك، ولتدمعنّ عليه عيون المؤمنين". حزّ في نفسه أن يجد الطفل رابطة تربطه بإمام زمانه، أما هو فلا يذكر ما يربطه به.

هو يقف عندما يسمع إسمه ويضع يده على رأسه بحركة آليّة لا يفقه علّتها أو لا يؤمن بها وهي نتيجة طبيعية لعدم إيمانه بوجود إمام حي يعيش بين الناس لكنه غائب عن الأنظار، تلك الحركات ستأخذ قيمتها عندما يستشعر حضوره الشريف، فتصبح يده التي مسحت رأس يتيم جديرة بوضعها على الرأس عند ذكر إسمه المبارك، وكذلك وقوفه احتراما لإبن الاوصياء هو لا قيمة له مادام لا يقف لأخيه الأكبر القاطع لصلته!!.

***

السكون يلقي كلاكله عليه وهو يتأمل القمر البهيّ، تلك الآية الكبرى التي يقسم الله بها "والقمر اذا اتسّق"، وقد انقلب غمّه فرحا فالصوم أفاده في هذه الأيام والتي عرف الحكمة في استحباب صيامها فاكتسب التوازن والاستقرار، وأيضا عند اكتمال القمر ولد منقذ البشرية والكثير من الأوصياء كذلك، فألقت سفنه الدائبة مرساتها عند شاطئ الامام الذي بحث طويلا عنه واكتشف أنّه في داخله.

لمح الساعة وهي تشير إلى 3:13 دقيقة، تذكّر أنصار الإمام ومحطاتهم في مثل هذا الوقت، قرّ عزمه لشدّ الرحال والمسير في طريق ينيره البدر التمام، وإن لم يصل سيقع حتما بين النجوم.

ها هو ذا ضوء النهار يغمر المكان، بيد أنه جالس هذه المرة على سجادّته متأهبّا لاستقبال الشمس ولقائها، يحدّق في الأفق البعيد لا في اللاشيء، يترقب بأمل لا يذوي ظهور الشمس من وراء السحب!.

اضف تعليق


التعليقات

نور الهدی
قصة رائعة كما عودتينا دائما.. اكثر شيء لفت انتباهي الرموز التي وظفتيها لتبيين مكانة الامام واهميته في حياتنا
جعلك الله من انصاره واحدی نجومه المضيئة..2016-05-21
رنا
عراق
قصة جميلة جداً سلمت يداكي والتشابيه بمحلها.. القمر رمز لوجود الامام والشمس لظهوره الشريف وربط الوقوف ووضع اليد على الرأس عند ذكر صاحب الزمان وعلاقته بأعمالنا حقيقي..2016-05-22