q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

الدراسات التاريخية وجدلية البناء الحضاري (4)

مقاربة في المباني المعرفية "الإبستيمولوجية" لمباحث فلسفة التاريخ

د. هيثم الحلي الحسيني

 

مداخلة في مباحث فلسفة التاريخ

يقوم المبنى اللغوي لفلسفة التاريخ على مفردتين، المفردة الأولى هي "الفلسفة"، وفي مقاربة الجذر اللغوي للمفردة، فهي بأصولها من اليونانية القديمة، philosophy، أو في الأبجدية اليونانية φιλοσοφία، فهي تتشكل من مقطعين، وهما “filo” التي تعني المحب أو الهاوي، وفي اليونانية المعاصرة تعني الصديق، و”sofia”، والتي تعني الحكمة والدراية، أو wisdomفي الإنجليزية، وبذلك يكون المعنى الحرفي للمفردة، هو "حب الحكمة، ودون التفصيل في المعنى المجرد لكلمة "الفلسفة"، إذ يمكن أن تعني التأمل التجريدي للظواهر البشرية ومحاولة تفسيرها، اي النظر وتجريد الظواهر من ملابساتها، وتحويلها الى مفاهيم، بحيث يمكن استخدامها في سياقات أخرى.

وكلمة التاريخ، history، والمفردة عن اليونانية القديمة في أبجديتها ιστορία ، والتي اشتقت عن الكلمة اليونانية "Istori" ιστορί، والتي تعني القصص، وفي الإنجليزية "stories"، وهذه المفردة في أصولها، متماهية مع التعبير القرآني لها، في قوله تعالى في سورة يوسف، "نحن نقص عليك أحسن القصص"، وكذلك "وفي قصصهم"، والتي يفهم منها، دراسة تاريخ الأنبياء والوقائع والحوادث المرتبطة فيه، والدروس والحكمة في فهمه والتعرف عليه.

فعلم التاريخ، أو البحث التأريخيي، وهو من أقدم المناهج العلمية، التي تقوم على منهج النقل، وعلى المنهج "الأركيولوجي" الأثاري، وهو منهج حسّي "إمبيريقي"، واستقرائي تجريبي معاً، يقوم بجمع وتحقيق وتدوين وتفسير الأحداث والوقائع التاريخية، من خلال الزمان والمكان والرجال، وهو عندما يفعل ذلك، يبدو علماً سكونياً كالجغرافية الوصفية، لكنه عندما ينتقل لاستكشاف القوانين والاستفادة منها، يتحول الى علم حركي "ديناميكي"، كتحويل الجغرافية الى السياسة الجغرافية، أو "الجيوبوليتيك"[1].

وعليه فمن خلال ربط المفردتين حرفياً، ينتج مفهوم "فلسفة التاريخ"، وهو ذلك العلم الذي يحاول أن يكتشف القوانين الموجبة لحركة المجتمعات والدول والحضارات، وأسباب صعودها وهبوطها، وليست وظيفة هذا العلم، قاصرة على توصيف هذه القوانين، لكنها كأي علم اخر، يسعى لاكتشاف القوانين، من أجل استخدامها لمعالجة الظواهر القائمة والمستقبلية.

ويمكن القول أن فلسفة التاريخ، في أبسط تعريف لها، هي النظر الى الوقائع التاريخية، بنظرة فلسفية، ومحاولة معرفة العوامل الأساسية، التي تتحكم في سير الوقائع التاريخية، والعمل على استنباط القوانين العامة الثابتة، التي تتطور بموجبها الأمم والدول والحضارات، على مرّ الأزمنة والقرون والاجيال.

كما أن هناك من يقول، أن التاريخ يسير وفق مخطط معين، وليس بطريقة عشوائية، وأنّ فلسفة التاريخ، هي رؤية المفكر للتاريخ، أو حكمه عليه، كما هي رؤية المخطط وصانع القرار، للعملية أو الخطة الإستراتيجية الموضوعة، بما يعرف بفكرته للعمليات، كما أنّ علم فلسفة التاريخ، يمكن أيضاً إسقاط قوانينه ومدركاتها، على التجمعات والمنظمات والهيئات، السياسية والمجتمعية، في بعض جوانبه، كونها تشكل صورة مصغرة، عن وحدة الحضارة، سواء الأمة أو الشعب أو الدولة.

نشأة علم فلسفة التاريخ

يعتبر الفيلسوف المؤرخ، عبد الرحمن بن خلدون[2]، أول من استخدم مفهوم فلسفة التاريخ، حيث قصد بها البعد عن السرد، وتسجيل الأحداث، دون ترابط بينها، كما قصد بها التعليل للأحداث التاريخية، ثم أن الفيلسوف الفرنسي فولتير، كان أول من صاغ مصطلح "فلسفة التاريخ"، في القرن الثامن عشر، من بين الفلاسفة الأوربيين، في بحثه عن التعليل والأسباب، واستخلاص الرؤى المستقبلية، في دراساته التاريخية.

ويرى مفكرون إسلاميون، أنّ المسلمين هم أول من وضع نواة هذا العلم، يوم كانوا يسيرون على هدي كتاب الله، وينظرون في الآفاق، امتثالاً لقوله تعالى، "فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين"[3]، ثم غاب نجم الحضارة الإسلامية، وتسلّمها الغرب، واستكملوا مسيرة بن خلدون، في البحث في هذا العلم.

أهمية أداة فلسفة التاريخ

قد يكون هذا العلم، مجهول عند الكثيرين، من المهتمين في البحث والتحقيق، لكنه علم أساس، وأداة منهجية فكرية، لصنّاع النهضة ومتخذي القرار، حيث يضع لهم أرضية صلبة، ليس فيما يتعلق في فهم الماضي، بل فيما يتعلق في استقراء الحاضر والمستقبل، وإنّ هذه الأداة العلمية البحثية، تضع بين يدي الفاعل السياسي أو المجتمعي، مناظير متعددة، لفهم الحراك النهضوي في المجتمعات.

إن الموضوعية العلمية، تفرض على هذه الدراسة، عدم النظر الى النظريات التي طرحت في هذا العلم، على أنها أجزاء متناثرة، لا يربطها رابط، بل في اعتبارها مداخل متعددة، تتكامل ويدعم بعضها بعضاً في الفهم، مما يستوجب عرضها، والتعمق بدراستها.

فكل من هذه الجزئيات، تعالج جانباً من جوانب الموضوع الحيوي، الذي ينصرف المهتم لتفصيله، من خلال الدراسة في فلسفة التاريخ، ومن هذه الحاجة العلمية، كان اهتمام السيد الباحث المجدد، في التعريف بهذه المعارف، وتيسير مباحثها، للناشطين في الهيئات الدينية المختلفة، ولعموم المجتمع الثقافي، سواء في تصنيفه الكتاب موضوع الدراسة، أو في مفردات موسوعاته البحثية، وتراثه العلمي، وخاصة في مجال الموضوع، وذلك من خلال المطالب الشرعية، النقلية القرانية، وكذلك المطالب العقلية، والتكليف في إستنهاض الكتابات والدراسات والبحوث، لتقتفي الأثر، في عرض المادة وتفصيل مدركاتها، للشريحة المستهدفة من الدراسة، وفي عموم المجتمع العلمي، والمساحة الأوسع من المتلقين.

المطالب النقلية القرآنية لمباحث فلسفة التاريخ

لقد بيّن القرآن الكريم، في قصصه عن الأمم السابقة، الحاجة الى الاعتبار، من الدروس والعبر، وإعمال العقول والفكر، لما آلت إليه أحوالها، وتعليلاتها وأسبابها، سواء في الصعود أو الإنحدار، وما رافق ذلك من تطور وتداع، ورقي وتدهور، سواء في مستويات المعيشة، أو القدرة على العطاء، والإنجاز التأريخي والحضاري، وبالتالي تبيان الأحوال التي تتعلق بما يصيبها من دمار وإبادة، فيبين النص القرآني الشريف، في ثنايا تلك القصص، أو تعقيباً عليها، سنن الله تعالى في خلقه، ونواميسه المتحكمة في هذه الحياة، والموجهة لها، ليتبين الإنسان في العقل والتجريب، أو الحكمة والإعتبار، أسباب السقوط، ودواعي النمو والإقلاع.

والى ذلك يذهب مفكرون إسلاميون، أن القرآن الكريم بمعطياته التاريخية، يدفع من خلال المنهج القرآني، المستمد من الآية الشريفة، "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق[4]"، من أجل أن يحرّك الإنسان صوب الأهداف، التي رسمها الإسلام، ويبعده في الوقت ذاته، فرداً أو جماعة، عن المزالق والمنعرجات، التي أودت بمصائر الأمم والجماعات والشعوب، فضلاً عن الأفراد والمجتمعات.

المطالب العقلية لمباحث فلسفة التاريخ

استرشاداً بالفطرة والعقل، فالكون تحكمه سنن متطابقة، وصيرورة الحياة البشرية، التزاماً بالقيم، أو إنحرافاً عن الطريق القويم والجادة المثلى، تكاد تكون صورا متكررة، لذلك فمن الضروري والواجب الحتمي لأي جماعة بشرية، تسعى للتغيير وتحقيق قيم الحق والفضيلة، أن تنظر بإستبصار وفحص وإقتباس متعقّل، منسجم مع الواقع والأحداث، لآثار من سبقوها، مسترشده بها في غير تقليد للأشكال، وانبهار بالأنماط، غير القابلة للإستنساخ، مبدعة أساليب جديدة، تحقق الهدف، وتوصل للغاية.

ذلك أن التأريخ البشري، سلسلة وقائع آخذ بعضها بعنان بعض، لا تنفك في المآل، وإن تباينت في الأشكال، والعاجز من تجاوزها متجاهلاً، فيكون قد بدأ من الصفر، بل من سالب الفعل، دون خط الشروع، لما انتهى إليه الآخرون، فإن تجارب البشرية ملك مشاع، أفلح من استفاد منها على الوجه المطلوب، وفشل من حاول التأسيس والإنطلاق بعيدا عنها.

حركة التاريخ والتكليف السلوكي

مما سبق يتبين أن التأمل في التأريخ، هو مطلب عقلي ومطلب شرعي، وتستخدم أداة فلسفة التاريخ، في تشكيل القاعدة المعرفية، وفي اكتشاف القوانين العامة، التي تقود حركة التاريخ، من خلال النظر الكلّي للظاهرة التاريخية، في الدول والحضارات صعوداً وهبوطاً، وبالتالي الى فهم الماضي واستشراف المستقبل، فهي بذلك تؤسس الى مناهج فاعلة، في تعزيز التفكير التأملي، عند قادة الفكر، وأداة مستنيرة للنقاش والحوار، الذي ينتج التفكير المنهجي، في حل المشاكل، وعملية البعث والإحياء النفسي للأمة.

إن وظيفة قادة النهضة، ليس العمل الأكاديمي المجرد، المتعلق بعلم من العلوم، فهذه وظيفة الأكاديميين، أما وظيفة القادة، فهي الاستفادة من هذه العلوم لتغيير الواقع، وبالتالي تتحول المعرفة الى حركة "ديناميكا" حيوية، تنطلق في الحياة، وتبث فيها الدفء والحيوية والنشاط.

وتزعم هذه الدراسة، أن الغاية النهائية، لمخرجات الكتاب موضوع الدراسة، ترتكز في تكليف قادة الفكر والنهوض، بتمام الإستيعاب لفلسفة التاريخ، واستخدامها وشرحها لغيرهم، وتيسيرها لطلابهم ومريديهم، والتدرب على الإستعانة بطروحاتها، في ثنايا طروحاتهم، بل وعقد حلقات النقاش حولها، حتى تتحول الى مكون طبيعي في ثقافتهم.

العلاقة الجدلية بين التاريخ والفلسفة

يبين المفكر المجدد هذه العلاقة، في كتابه موضوع الدراسة، من خلال أن الفلسفة التي تعتمد على آراء عقلية مجردة، لا يمكن استخدامها في معرفة التاريخ، فالتأريخ لا يمكن أن يستكشف بالفلسفة المجردة، لأنه شيء حقيقي، يعتمد على مخرجات معللّه ومسببة، لابد أن يكتشفها الحاضر بنفسه، إلّا في الحفريات الأثرية، غير أن علم التأريخ، في إنغلاقه على مناهج التسجيل والتقرير، يتبين إحتياجه، الى أدوات الفلسفة، في التفكّر والعقل والحس والتدبر، وكذا ما تظهره الفلسفة، في احتياج مخرجاتها، الى الحقائق الموضوعية، المعللة والمسببة، والتي تجد ضالتها، في مناهج البحث التاريخي.

وعليه فإن المنهج العلمي الحدسّي الإستقرائي، في عزل مفردات الوقائع، وتجريدها عن خصوصيات الزمن والمكان، هو المتّبع في البحث في فلسفة التأريخ، وليس المنهج العقلي المجرد، أو المنطقي الإستباطي، الذي يتبع عادة، في البحوث في الفلسفة المجردة، أما البحث التأريخي العام، فهو منهج تجريبي، نقلي تحليلي، وحسي "إمبريقي"، وحفري "أركيولوجي"، لما يتبع في قراءة النصوص التأريخية، والدراسات الآثارية، والتنقيب فيها.

....................................
[1] الجيوبولتيك أو الجغرافيا السياسية، دراسة الإقليم وموقعه وخصائصه وعلاقاته، وقد تطور هذا المفهوم ليشمل فهم الجغرافيا كوسيلة لتحقيق طموحات الإقليم القومية، والسيطرة على الموارد والمقدرات، وتسخيرها لمصلحة أمة معينة، مما أعطى المفهوم بعدًا آخر، يلامس المرتكزات الاسترتيجية.
[2] عبد الرحمن ولي الدين بن خلدون، أصله من حضرموت، نزح أجداده إلى بلاد المغرب العربي، أثناء الفتح الإسلامي للأندلس، واستقرت أسرته في تونس، في منتصف القرن السابع الهجري، وقد ولد فيها في العام ٧٣٢ هـ.
[3] سورة النحل، الآية 36.
[4] سورة فصلت، الآية 53.

اضف تعليق