q

ثمَّة فرقٌ بين مفهوم التأويل طبقاً لمناهج الاستنباط الإسلامي، والتأويل طبقاً لمناهج الهرمنيوطيقا، يتمثل في أنَّ التأويل الاستنباطي محكومٌ بقواعد وضوابط متفقٍ عليها في الدوائر العلمية القرآنية نابعةٍ من الخصوصية التي تتسم بها لغة الوحي، فلا يمكن إبدال أيِّ معنىً للخطاب القرآنيّ إلا بناءً على ما يمليه خطابٌ قرآنيٌّ آخر، فبما أنَّ الآيات القرآنية يهيمن بعضها على بعضٍ أثناء عملية التأويل، فإنَّ كلَّ آيةٍ تمارس دورها في توجيه المعنى المخزون في الآية الأخرى، وعن طريق تصعيد هذه العملية والوصول بها إلى مستوياتها العليا في إجراء عمليات الهيمنة للآيات القرآنية بعضها على بعضٍ يمكن أن تتكوثر المعاني والدلالات للآيات، فيتصرَّف المؤوِّل في تكثير وجوه المعاني الكامنة في الخطاب، فلا تتغيَّر دلالة مفردةٍ ولا معنى آيةٍ بناءً على المزاج الشخصيّ أو بناءً على المسبقات الفكرية والإيديولوجية للمؤوِّل، حتى لو كان لكلِّ ذلك تأثيرٌ بنسبةٍ ما على توجيه معنى الخطاب، لكنَّ الحصة الأكبر للتأثير، أو التأثير الذي لا تمارس أية آليةٍ أخرى التأثير إلا بناءً عليه ومن خلاله إنما هو ناتجٌ عن تتبع الاقترانات اللفظية بين الآيات، على أن يكون المعنى الناتج عن طريق هذا الإجراء مناقضاً لما تصادق عليه سائر آيات القرآن، فيكون المعنى منسجماً تماماً مع الروح العامَّة للخطاب، ومع ما تصادق عليه كلُّ آيةٍ من خلال معناها المتحصّل عن طريق تطبيق هذا المنهج داخل النسيج العامّ للخطاب.

إنَّ تطبيق قواعد البلاغة العربية المستمدَّة مباشرةً من النصوص اللغوية الشعرية والنثرية المعروفة في البيئة العربية آنذاك، وهي ذات بنيةٍ لغويةٍ تعتمد المجاز كآليةٍ رئيسيةٍ لإنتاج المعنى، جعل النصَّ القرآنيّ يفقد القدرة في نظر المؤوِّلين على توليد الدلالات اللانهائية طبقاً للمفهوم الآنف الذي طرحناه للتأويل، فأصبح تفسير النصّ وتأويله كذلك لا يتعدَّيان مستوى التراكيب اللغوية السطحية للآيات القرآنية خلال التفسير، كما لا يتعدّى اللجوء إلى صرف المعنى الظاهريّ إلى المعنى المجازيّ في الآية الواحدة بشكلٍ مستقلٍّ عن اقترانات ألفاظها وتراكيبها مع مثيلاتها في الآيات القرآنية القريبة والبعيدة، من دون تتبع شبكة الدلالات المعقَّدة الناتجة عن الترابط الهائل بين ألفاظ القرآن وتراكيبه في عموم الخطاب، وهو ما يشير إلى الخطأ الفاحش الذي ارتكبه اللغويون بحقِّ القرآن، يقول الإمام الصادق عليه السلام في هذا السياق: "أصحاب العربية يحرِّفون كلام الله عزَّ وجلَّ عن مواضعه" يراجع المصدر، فلم يكن علماء اللغة منفكِّين عن علاقاتهم ومصالحهم التي تربطهم بالملوك والخلفاء في تأريخ الإسلام، بل كان العكس هو الصحيح، فلا تكاد تجد عالماً من علماء اللغة إلا ارتبط بمؤسسة السلطة في زمانه وصار يتلقى منها الأعطيات، فليس معقولاً في هذه الحال، أن يمنح هؤلاء الملوك والخلفاء علماء اللغة كلَّ هذه الرعاية والعناية ما لم يكونوا يتوقَّعون منهم تقديم الخدمات الإيديولوجية التي تدعم سلطانهم أمام الخصوم.

فنحن نعلم ابتداءً أنَّ العلوم اللغوية العربية تأسست بدافعٍ من ارتباطها بالنصِّ القرآنيّ منذ البدء، ولا ينبغي أن نوافق على أنَّ المطلوب كان هو صيانة اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم من اللحن والخطأ اللذين أصابا اللغة بعد أن وجدت عوامل كثيرة جعلت العرب يبتعدون عن سليقتهم اللغوية السليمة، فلو كان الهدف هو هذا فقط، إذن لكان الاعتماد على القرآن الكريم كمرجعيةٍ لغويةٍ يتمّ تصحيح الاستعمالات اللغوية البشرية الخاطئة على أساسها هو الأولى بالطبع، ولما تمَّ اللجوء إلى الكلام البشريّ المهزوم أمام المعجزة اللغوية الغالبة للقرآن ليكون هو المعيار الذي تقاس فصاحة القرآن عليه، وإذ لجأ اللغويون إلى هذا الإجراء، فإنهم كشفوا عن أنَّ عملهم لم يكن المراد منه تأسيس القواعد الصحيحة للكلام الفصيح والبليغ لا غير، بل كانوا يستهدفون جنباً إلى جنبٍ مع هذه الغاية، أن يجعلوا النصَّ القرآنيّ محكوماً بأصول وقواعد الاستعمالات اللغوية البشرية الناقصة في جميع الأحوال، لكي يفقد القدرة على كوثرة معانيه عن طريق اتباع قواعد التأويل الصحيحة.

والمفارقة هي أنَّ القرآن أشار بصراحةٍ تامَّةٍ إلى أنَّ هناك أشخاصاً معيَّنين هم المسؤولون عن عملية التأويل في عددٍ من الآيات، يشار الى ذلك، مضافاً إلى أنَّ عملية الاستنباط لا تعني مطلقاً تلك العملية التفسيرية اللغوية التي لا تتجاوز المديات الأفقية الساذجة لدلالات الآيات، بل هي تشير بوضوحٍ إلى وجوب التعمُّق والتدبُّر والتوغُّل بعيداً في أغوار النصّ وتتبُّع جميع الخيوط المتواشجة في الشبكة الدلالية التي يتألَّف منها النسيج اللغويّ للنصِّ القرآنيّ، وهي عمليةٌ معقَّدةٌ للغاية لا يمكن أن يحسنها إلا من كانت لديهم قدراتٌ ومواهب هائلةٌ ليست في حوزة علماء اللغة على كلِّ حالٍ، وإلى هذا المعنى يشير حديث رسول الله ص: "لا لا يكون الرجل فقيهاً حتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة" وكذلك حديث الإمام الصادق عليه السلام: "أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا وإنَّ كلامنا ليتصرَّف على وجوه" فمن الصحيح أنَّ القرآن الكريم نزل باللغة التي يعرفها العرب، إلا أنَّ الحقيقة التي جهلها علماء اللغة أو تجاهلوها هي أنَّ معرفة العرب بلغة القرآن لا يلزم منها أن لغتهم الدارجة في استعمالاتهم الأدبية واليومية مساويةٌ في دقَّتها وصرامة نظامها الهندسيّ للغة القرآن من هذه الجهة، فنحن الآن نقرأ الشعر العربيّ القديم مثلاً، فلا نجده يعكس معرفة العرب بفقه اللغة الحديث الذي يقدِّر عالياً خاصية التأويل في الكلام الأدبيّ عموماً، وهو الوجه الذي يشكِّل عنصر الامتياز الأوَّل للأدب الحديث على الأدب القديم في الجملة.

هذا بالنسبة إلى الفرق الموجود بين الفضاء التأويليّ للشعر القديم والفضاء التأويليّ للشعر الحديث، ويكون الأمر أشدَّ وضوحاً بطبيعة الحال بالنسبة إلى الفرق الموجود بين الفضاءين التأويليين في الشعر العربيّ القديم والقرآن، ولهذا نفى القرآن صراحةً أن يكون القرآن شعراً، لا من باب أنه فاقدٌ للوزن والقافية كما تخيَّل علماء اللغة القدامى، ولكن من باب أنَّ طريقته في استعمال اللغة مع أنها تتمتَّع بغاية الانفتاح على التأويل والتصرُّف بوجوهٍ كثيرةٍ فإنها لا تستخدم آلية المجاز التقليدية التي تعتبر هي الآلية الوحيدة تقريباً لتحقيق هذا الانفتاح الدلاليّ في الشعر القديم والحديث على السواء، فعن طريق التأويل بالمعنى الخاصّ الذي أشرنا إليه خلال هذا البحث، ينجز النصّ القرآنيّ قدرته على كوثرة معانيه وتفجير الطاقات المعرفية والفكرية فيه من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ هذه الكوثرة الدلالية تتجنَّب بشكلٍ مطلقٍ ارتكاب التناقضات، فإذ يستطيع المؤوِّل للنصِّ الشعريّ أن يقترح له دلالاتٍ أفقيةً عديدةً لا تكون متفقةً بالضرورة، فإنَّ النصَّ القرآنيّ يمتنع على مثل هذا التعدُّد في المعاني المتناقضة، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: "أفلا يتدبَّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً".

الأصل هو الدفاع عن فكرة الحداثة والعصرانية وضرورة أن يصاحب التحديث المادِّيّ للمجتمعات الإسلامية عموماً التحديث الفكريّ والثقافيّ والفلسفيّ الذي يقتضي التحرُّر من سلطة النصّ الدينيّ، أما المقاربات التأويلية الحديثة للنصّ، فإنها مجرَّد ذريعةٍ يراد منها تطويع النصّ بحيث ينسجم تماماً مع ما تمليه فلسفة الحداثة من دون الأخذ بنظر الاعتبار احتمال أن توجد فيها بعض الأخطاء والتجاوزات التي يجب تعديل مسارها بناءً على ما يتبنّاه النصّ الدينيّ، الحداثة بكلِّ تجلياتها ونظمها وقوانينها ومؤسساتها وما ينبثق منها من رؤىً وأفكارٍ هي المعيار الذي يجب محاكمة النصّ على أساسه، وتحوير دلالته ليتفق معه في نهاية المطاف، هذا هو الأصل الذي ينطلق منه التأويليون الحداثيون على اختلاف مناهجهم ومشاربهم في التعامل مع النصّ الدينيّ في الإسلام، وليس بالأمر المهمّ أن يكون المؤوِّل لهذا النصّ مؤمناً به أو غير مؤمن، المهمّ أنَّ هناك حاجةً ملحَّةً تدعوه إلى الانخراط في مشروع تأويل النصّ، ليسهم في إزالة المعوِّقات الفكرية والثقافية والفلسفية التي تحول دون أن تصبح فكرة الحداثة هي من يمتلك كلمة الفصل في تحديد ما يجب أن يوجد من أفكارٍ وتصوُّراتٍ في مجتمعٍ بات واضحاً أنه لا يمكن أن يتخلى عن الإيمان بهذا النصّ المؤسِّس للعقيدة والدين فيه، فيكون الطريق الأمثل إلى تحقيق تلك الغاية الرئيسية في الاحتكام إلى منهج الحداثة على هذا الأساس هو اللجوء إلى آلية التأويل الحديثة، فيتمّ تحوير دلالاته ومعانيه بما يجعله منسجماً كلياً مع فكرة الحداثة.

نعم، ثمَّة فرقٌ بين الفقه والنصِّ الدينيّ المؤسس، فبما أنَّ حصيلة علم الفقه ليست إلا تلك الأحكام التي هي ثمرة تفاعل العقل البشريّ العاديّ مع مقتضيات الواقع وضروراته، وبما انه حصيلة اتباع تلك المنهجية الاستدلالية التي تعتمد على مجموعةٍ من قواعد الاستدلال والاستنباط التي لا تعتبر بريئةً من عوامل النقص والخلل في جميع الأحوال، فإنه لا يمكن أن يمتلك تلك الخاصية التي يمتلكها النصّ الدينيّ المؤسس، من جهةِ أنه خارقٌ للزمان والمكان، وإلا لأمكن القول انَّ النظريات العلمية والأطروحات الفلسفية كلها تتمتع بتلك الخاصية كذلك، فلا فرق بينها وبين الفقه من جهةِ أنها جميعاً إفرازاتٌ للعقل البشريّ المحدود الذي لا يمكن له أن يكون إلا متجدداً ومتغيراً ونسبياً تبعاً لنسبية الزمان والمكان، ولا يعتبر استناد الفقه إلى النصِّ المؤسس مائزاً له يحقق شرط التجاوز والتعالي على الزمان والمكان، بداهةَ أنَّ أحداً لا يمكن له الاعتقاد بالسنخية التامة بينه وبين النصِّ المؤسس، بل إنَّ الفقهاء أنفسهم لا يعتقدون بوجود هذه السنخية التامَّة، وإلا لما كانت هناك من ضرورةٍ أصلاً تدعوهم إلى تقسيم الحكم الشرعيّ إلى حكمٍ واقعيٍّ موجودٍ في عالم ثبوت النصّ، وحكمٍ ظاهريٍّ موجودٍ في عالم إثباته، كما لا يعود للاختلاف الحاصل بين الفقهاء في تقرير الأحكام الشرعية التي يقال باستنادها جميعاً إلى النصّ المؤسس من مبرِّرٍ أساساً، حتى انَّ درجة الاختلاف في الحكم الشرعيّ الواحد تشتدّ أحياناً لتصل إلى درجة التحريم والإباحة في الكثير من الأحيان.

بيد أنَّ تقرير هذا الاختلاف بين الفقه كعلمٍ بشريٍّ مرتبطٍ بالتأريخ وغير متجاوزٍ للشروط الثقافية والاجتماعية والسياسية لكلِّ عصرٍ، ولكلِّ طورٍ عقليٍّ أو حضاريٍّ ما، وبين النصِّ الدينيّ المؤسس كنصٍّ متجاوزٍ للتأريخ ومتعالٍ على الزمان والمكان، لم يكن واضحاً إلى درجةٍ معتدٍّ بها في المجتمع الإسلاميّ، فتمَّت على هذا الأساس معاملة الأحكام الفقهية المرحلية بصفتها أحكاماً مقدَّسةً متجاوزةً للزمان والمكان، ومتمتِّعةً بصفة الإطلاق على وجه العموم، بذات الطريقة التي تمَّ النظر فيها إلى النصِّ المؤسس، ومن هنا بالضبط حدثت المفارقة، حتى أدَّت هذه النظرة المشوَّهة إلى أن تنعكس سلباً على النصِّ المؤسس نفسه، فأصبح من الطبيعيّ أن تُسند إليه تهمة عدم مواكبة الواقع، والتخلف عن الاستجابة إلى متطلبات الإنسان المتجدِّد في إنتاج الثقافة والحضارة على الدَّوام.

وقد يقال في مقام الاعتراض على هذه النتيجة: إنَّ القواعد الفقهية واضحةٌ في موقفها من هذه المسألة، إذ هي تدعو إلى إعادة النظر في الأحكام الفقهية والاستدلال عليها من النصوص الدينية المقدَّسة، وتجديد آليات الاستنباط والاستدلال، إلا أنَّ المهمّ ليس هو مجرَّد الاعتراف بهذه الحقيقة بعيداً عن تجسيدها بصفتها واقعاً ملموساً في الذهنية العامَّة التي تهيمن على طرائق التفكير، فالواقع العمليّ يشير إلى أنَّ هذا الاعتراف لم يتجاوز حيِّز النظرية في جميع الأحوال.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق