q

لم تكن النتائج التي أفرزتها سيطرة تنظيم داعش على الموصل وبعض المناطق الأخرى ذات نتائج محدودة من حيث مستوى الوجود، فالتوازن الذي فرضته الإعتبارات الإقليمية والدولية بين البر والجو مازالت غير محسومة، وهذا ماساهم في تأخير عمليات التحرير لبعض من هذه المناطق. إذ بدأت المشكلة تتزايد في تعقيدها كلما إستطاع الحشد الشعبي والقوات الأمنية من تحقيق إنتصارات نوعية كما هو الحال في آمرلي أو جرف الصخر، وأصبح هناك حاجة ملحة إلى سحب القتال منه لصالح تشكيلات قتالية جديدة أو التحالف الدولي.

فمعضلة إيجاد العراق لنمط من التوازن بين البر الذي تسيطر عليه القوات الأمنية والحشد الشعبي وبين الجو الذي خضع بموجب التنسيق الرباعي إلى شكل من التوازن بين التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية مقابل روسيا أثر كثيراً على طبيعة البيئة الإستراتيجية الحاضنة لمعركة الموصل والأنبار، والتي تضم بفعل المصالح الإقليمية والدولية نوعاً من التوازن المفقود، الذي ينبغي تحقيقه بموجب معادلة توازن المصالح الإستراتيجية. وهذا الأمر من شأنه أن يؤثر على مكانة العراق في توازنات القوى الحيوية الخاصة بهذا الجانب.

وبالرجوع إلى الخلف قليلاً، يلاحظ أنه لم تكن هناك مشكلة بين الفئات المختلفة للحشد الشعبي والقيادات السياسية في أي منطقة من المناطق التي تم القتال فيها، بل على العكس كانت هناك ساحات مشتركة بينهما خصوصاً في الرمادي عندما تعالت أصوات العشائر في دعوة الحشد الشعبي للمشاركة معهم في القتال ضد تنظيم داعش، غير أن الضغط الأمريكي قد تزايد في الفترات الأخيرة لأجل سحب قطاعات الحشد الشعبي من المشاركة في ساحات القتال لاسيما في ظل العمليات المتكررة التي قامت بها قوات التحالف الدولي في الحويجة.

التوازنات المفقودة

تفترض توازنات القوى أن يكون هناك مقدار معين من التوازن في المصالح يسود علاقات الأطراف أو المحاور الأساسية في المنطقة وبخلافه سيتجه أحد الأطراف إلى تغيير الوضع الراهن من خلال زيادة قوته أو نفوذه في منطقة الصراع. الأمر الذي سيكون له تأثير كبير على طبيعة المعادلات التي تحكم صيغ التفاعل السياسي في هذه المنطقة.

ووفقاً لهذه الصياغة فإن الولايات المتحدة لايمكن أن تجعل نفسها الحلقة الأضعف في العراق، فإنسحابها منه في عام 2011 لم يكن إلا بضمانات حفظ المصالح والنفوذ الإستراتيجي، وهي بالتالي لاتسمح لإيران أو غيرها من القوى أن تفترض نفوذاً سياسياً في العراق على حساب مصالحها الأمنية.

ولضعف القدرة على الإدارة من قبل الدولة "الحكومة المركزية" وسطوة الأطراف المختلفة من فئات عشائرية وكتل سياسية على المشهد السياسي، أصبحت معادلة التوازن مفقودة، فالحشد الشعبي في التفكير الإستراتيجي الأمريكي لايمثل مصالحها الإستراتيجية، بل على العكس يعد تهديداً لنفوذها الجيوستراتيجي، علاوةً على أنها لاتجد من خلاله منفذاً لتحقيق التوازن مع الأطراف التي تتحكم في توجيه المشهد السياسي للعراق.

وبالتالي فإن حصر نفوذ الحشد الشعبي في حدود صلاح الدين دون المشاركة في عمليات الأنبار يعد تمهيداً للمشهد القادم في الموصل، فغياب قدرة صانع القرار أو المخطط الإستراتيجي الوطني قد أفقد العراق القدرة على تحقيق نمط معين من الموازنة في المصالح بحيث أصبح العراق محوراً أكثر من كونه لاعباً قادراً على ضبط حركته الإستراتيجية بين المصالح المتناقضة. بل إن طبيعة التعقيد وغياب العقيدة الإستراتيجية جعلته يفقد مساره ليكون طرفاً في توازن التهديد بدلاً من كونه موازناً له، فعدم القدرة على تفسير ماتفرضه الظروف الإقليمية من تبدلات مستمرة جعلته يدور في أحد المحاور دون أن يتحسب لها.

تعقيدات حرب الموصل

يبدو أن معركة الموصل هي معركة سياسية قبل أن تكون معركة ذات بعد عسكري، فهي تمثل آخر محصلة التوازن الإقليمي الذي فرض ذاته على العراق، فالإمكانيات العسكرية للقوات المسلحة والتشكيلات المساندة الأخرى كالعشائر والحشد الشعبي قادرة على ضبط المشهد وأن توجد النصر على الأرض بمرونة عالية، لاسيما وأن معظم المناطق المحررة قد تم مسكها من قبل هذه القوات، بيد أن معركة الموصل تبدو أكثر تعقيداً وهذا ما يشكل جزءاً منه سبباً في إختيارها من قبل تنظيم داعش لتكون نقطة إنطلاقها في تشكيل (دولة العراق الاسلامية) وفقاً لما تتحدث به داعش.

فالبعد الإقليمي في هذه المعركة سيكون الأكثر وضوحاً خصوصاً في ظل توظيف البعد الأيديولوجي. فالوجود التركي أصبح اليوم أكثر إزعاجاً للعراق حسب تصريحات وزارة الخارجية العراقية ورئاسة الوزراء، فضلاً عن غموض الموقف التركي المتأرجح بين التمدد أحياناً والمشاركة في أحيان أخرى، الأمر الذي زاد من تعقيدات القرار السياسي بهذا الشأن. وإلى جانب كل ذلك هناك الموقف السعودي الذي دخلت في حرب فكرية ذات أبعاد عقائدية بعد إعدام الشيخ النمر.

إن معركة الموصل تستهدف في الأصل نوعين من المعطيات، حيث تتعلق أولى هذه المعطيات بالتوقيت والذي يتصل في حسابات المصالح، أما الثاني فإنه يتعلق بالقيادة والمشاركين في هذه الحرب، كيف يمكن أن تتحقق ضبط المتغيرات في هذا المشهد. فحرب الموصل هي تمثل إستعادة التوازن المفقود الذي تسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن تداخلت المتغيرات بشكل سريع، وإستنفذت كثير من الأطراف أوراقها السياسية، وهذا ما سوف يجعلها الحرب الأسرع من حيث زمن الجهد العسكري.

إن إندفاع العراق ينبغي أن يكون منضبطاً وقادراً على إدارة توازن المصالح، فحسابات القوى الإقليمية والدولية تتأثر بالوضع القائم في العراق، وبالتالي فإن الجميع يسعى إلى ضمان مصالح أطرافه وحلفاءه الإقليميين، وهذا بدوره يحتم على العراق الإستعداد للمشاركة في الإدارة دون أن يبقى متأخراً لينتظر مايصنعه الآخرون.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق