q
إسلاميات - اهل البيت

رِتاج الفردوس

ما بال ذلك الاسم يعدو دائما إليه.. منطق عجيب للحياة يضعه كل حين وجها لوجه أمام ذلك القدّيس!! إنّ طيفه عاد يلاحقه حتى بعد أن غادر تلك البلاد ومضى الى ما وراء البحار..

مواقف وأحلام عديدة تحيله كل مرّة الى سؤال يتردد صداه في أعماقه وتترك في قلبه حيرة غامضة وشعورا غريبا.. هل يكون قدره في استرجاع اسمه القديم الذي تخلّى عنه يوما بعد أن قرض الخوف أطراف عظامه في تلك الأيام المشؤومة، لاسيما وانه الان يعيش في بلاد الحريّة والتي لايُقتل فيها من يخالف الاخر في الرأي؟!

هذا ما جال في خلده وهو يقلّب هويّة ضائعة لأحد طلاّبه وجدها في مكتبه وكان إسم ذلك الطالب هو ذات ذاك الاسم الذي ظنّ أنّه أثرٌ من الماضي.. علي!!

***

كثيرا ما تكون أسماء البشر أجمل منهم.. بل هم من يتّجمّلون بها..

وكذلك كان الاسم الذي اختارته عائلته له و"لكل امرئ من اسمه نصيب" كما يقولون، وسموه "علي" وينادونه بينهم كما يذكره الانجيل: "بريا" مع انهم لم يكونوا يعتنقون دين ذاك الامام او القدّيس كما كان يقول عنه أبوه دوما، ولكنه أخذ نصيبه نتيجة حب أبويّه لأهل البيت وكذلك لنذر عقدته والدته وهو تسمية الذكر الذي سيشرّف الدار بعد طول انتظار بإسم مبارك عند الله..

وبعد نزاعات طائفيّة قصمت ظهر الوطن تغيّر الناس.. ومن الذي لايتغير!!

أوجس ابوه خيفة من اسمه الذي يُقتل كل من حمله في ذلك الوقت وقد خُطف وذُبح الكثير من الشبّان بمجرد رؤية القتلة هويّة المخطوف!!

لم يكن يعنيه يومها من كان على الحق.. فتنة بين المسلمين ماله بها، فرضي بتغيير اسمه بطيب خاطر لينجو من بين فكي الموت..

داهمه شعور بالندم والخجل وهو يتذّكر تلك الحادثة فلا أحد يهرب من موته!! وتسليةً لنفسه تمتم بحزن:"طريق الخيانة معبّد بالنوايا الحسنة".

دائما ما اعتقد أنّ الزوبعة التي تحدث في رأسه كلما يمر ذلك الاسم أمامه تحصل بسبب نكثه لنذر والدته.. بيد أنّ الحكاية كما سيرى أعمق بكثير من مجرد اسم..

***

اسم علي يشبه حجر الفلاسفة الذي يتحوّل ما يمسّه الى ذهب!! فتحولت تلك الهوية الى أمانة ذات قيمة ويتوجب عليه ان يوصلها الى صاحبها.. يمم وجهه شطر بيت الطالب وسلّمه هويته وقبل أن يهمّ بالخروج نظر الى المرآة ليعدّل هندامه..

كأنّه يرى في المرآة هذه المرّة شخصا آخر لا يشبهه.. شخصا كان مدفونا في مكان ما في داخل قلبه واستيقظ للتو بعد حفنة أعوام.. ينفض النائم عن نفسه التراب لتتألق في عينيه آلاف المصابيح..

لم يلتفت الى الوراء عندما لمح في المرآة لوحة تربعت وسط جدار غرفة الضيوف..ارتعشت أهدابه في تسارع وهو يتأمل لوحة زيتية رُسمت بمهارة عالية لشخص مهيب يحمل سيفا بالعرض ويبتسم شبه ابتسامة.. خلى ذلك الشخص ينظر اليه بحنو من الصورة.. أنِس اليه كما لو كان يعرفه منذ زمن طويل.. لمح كلمات أسف الصورة رآها بشكل مقلوب أضاق عينيه وفهمها جيدا.. "لافتى إلا علي ولاسيف إلا ذو الفقار"..

***

ينساب المطر الى الميزاب الذهبي وهو واقف تحته مباشرة وبمحاذاته إيوان للصلاة وشباك يطل على ضريح نوراني.. تأخذ المياه طريقها للنزول ليستحمّ بهذا الماء.. مياه عسجديّة تغسله من الأعماق..

تفتّح قلبه لكلمات تُتلى بعذوبة: (عمّ يتساءلون.. عن النبأ العظيم..)

مسح دمعة خانت صلابته وهو يستيقظ من ذلك المنام.. أغراه الحلم بالتحرّي لمعرفة أسرار ذلك الامام وتذّكر صديقه وأستاذه في الجامعة وكان مسيحيا أيضا عندما قال له: "إكتب عن علي!!"..

قطع أرض الغرفة جيئةً وذهابا وهو يقلّب فكرة اختيار شخصية الامام علي لأطروحة الدكتوراة عن علم الأديان.. وقرّ عزمه أخيرا على ذلك..

لن تضيق كتب التاريخ على أسئلته.. فتصفّح بنهم عشرات الكتب والمصادر وها هو ذا يقترب من الشروق يوما بعد يوم..

بلا شك جمال روح الانسان تظهر في قلمه.. فهو رسول القلب الى الناس.. العجب يأخذ بتلابيبه وهو يتصفّح كتاب "نهج البلاغة" وتحسّر على أعوام قضاها بين دفات كتب ظنّ انها ستروي عطشه ولم تكن سوى سراب يحسبه الظمآن ماءا!! تمتم بأسى:

"ولم أر في عيوب الناس شيئا كنقص القادرين على الكمال"

وجد نفسه امام دين غاية في الانسانية والرفعة والجمال.. حمل رسالته أناس مطهّرون مفضلون عند الله ومقربون اليه ومنهم هذا الوصي..ولكنه أمام مثال يخفق في الاقتراب منه، وكأن الامام يحاوره من الكتاب "ألا وانكم لاتقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد".

شعر لبرهة من الزمن بالخوف!! فكل قصص محبي ذلك الامام وأبنائه مرسومة بالقتل والتشريد والتعذيب.. وجاءه جواب الامام محذّرا "من أحبنّا فليعد للبلاء جلبابا"، أحسّ بوخزة في قلبه من تلك الكلمات وفكّر بالطرح الحيادي فالوقوف على التل أسلم وهو بكل حال يحبّه!!

كان الامام أقدر على الاجابة منه فهمس في اذنه:"من أحبنا فليعمل عملنا" وأما المحايدون فهم:" أناس لم ينصروا الباطل، ولكنهم خذلوا الحق".

وقرر في آخر المطاف أن يكون مع الحق ولايبالي!!

قد سمع يوما أنّ الطرق الى الله بعدد أنفس الخلائق، لكن بمحبة ذاك الامام تطوى المسافات الى المعبود..

قرأ كل الكتب السماوية والتاريخية والاحاديث المتفق والمختلف عليها وتيقنّ أنّ كل دين من دونه ناقص!! وأنّ أبواب الجنّة مغلقة بإحكام أمام من يبغضه.

بفضله عرف الله وصفاته الحقيقية وعرف نبي الرحمة وخاتم الرسل ودين السلام والانسانية و كل ذلك من كلماته وخطبه وأحاديثه فكيف بمن رآه وعاش في زمنه!!..

لقد رسم الله له طريقا جديدة في الوصول الى ملكوت السماوات ولن يصل إلّا بالعروج إلى حرم ذاك الأمير..

"أعدّ الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا"

***

يقول فيثاغورس" أن هناك موسيقى في الحجر!!" أصاخ السمع إلى سمفونية الخلود في ذلك المكان..

إستردّ من عناق الضريح الكثير من روحه الضائعة واعترته موجة من السرور وهو يخاطب الامام: لم يكن وصلك إلا حلما!!

أطلق العنان لدموعه وهو يردد كلمات الاذان مع نفسه، غرس جديد بدأ وجوده.. أم ان الحكاية أقدم من هذا بكثير!! لقد كان موحدا منذ الازل وأحبّ من أحبهم الله وأمر كل العوالم بمودتهم وقد أجاب بالتلبية منذ كان في الأصلاب بالولاء.. وكل ما حدث في حياته لم تكن سوى اشعارات تذكره بطينته الأصليّة.

تساءل باستغراب: لمَ يتخبّط الناس في الطريق الى الله والصراط واضح جلي؟!

أجابه هذه المرّة الفيلسوف المسيحي "جبران خليل جبران": لو أفلت الأسد من سجنه لعمّ الاسلام الأرض"

اضف تعليق