q

ما هي حقيقة تاريخنا ولماذا كان ولا يزال يتنفس بالاستبداد وهل هو قدر مفروض علينا أم اختيار سلبي..؟ بين التاريخ والمستقبل واقع علينا مواجهته وهو تجاوز قدر الاستبداد وتحمل مسؤوليتنا في حرية الاختيار.

في البحث عن تحديات التاريخ الجديد نكتشف أن التحولات العميقة التي يشهدها عالم اليوم لاتمثل بحد ذاتها التحدي الاستراتيجي للامة الإسلامية بقدر ما تكون شاهد إثبات على حقيقة التخلف الحضاري عن الركب العالمي.

لان تطور التاريخ لا يعتمد بالأساس على تطور أدوات ووسائل الحياة التي لاتمثل إلا المظهر الخارجي لحقيقة النمو والتطور، بل إن التاريخ الحقيقي الذي يسجل بناء الأمم وشموخها هو التاريخ الذي ينبعث من الروح الإنسانية والعقل البشري المبدع والإرادة الواعية، وهو حينئذ يستند إلى قيم ومبادئ راسخة وليس مجرد تاريخ سردي يتناول فيه المؤرخ أحداث ماضية وأمم ثاوية. بل إن التاريخ في حقيقته هو انعدام الزمن ليتلاقى الماضي مع المستقبل وتصبح الحقيقة واحدة في كل الأزمنة. ومن هنا نرى إن القرآن الحكيم يطرح التاريخ كمادة حية تعيشها الأمم مع مرور الأزمنة لتأخذ اعتبارها وتستفيد من التجارب والدروس.

في تجاذب معطيات البحث الموضوعي نحاول أن نصل إلى حقيقة أساسية مهمة وهي: إن التاريخ لو كان في واقعه حقيقة معنوية تؤسس أحداثا مادية فأن الإنسان هو صاحب هذه الروح التي تمد التاريخ بالانسياب أو الانشطار أو الانتحار أو الاندثار أو الارتقاء، وان الإرادة الإنسانية هي المحك في صياغة الأحداث وإيجاد العمق التغييري والانعطافي في مسيرة البشر، فليست الصدفة هي التي تتحكم في تحولات الحياة وليس القدر هو الذي يقرر حتمية وقوع الأشياء بل إن القدر نتيجة لإختيار إنساني نابع من تفكيره وإدراكه. فالتاريخ حركة انسيابية مستمرة ناتجة عن مؤثر عاقل يدرك ما يفعله وإلا لما انتج تلك المنجزات والتحولات التي نشعر من أعماق فطرتنا بأنها نابعة من عقل مدرك لما يفعله عن عزم وتصميم.

لذا فان حركة الإنسان التي هي محور وجود التاريخ وديناميته تعتمد على حريته وقدرته على الاختيار، فالحركة الواعية والناضجة هي حركة اختيارية تعبر عن وجود حرية وارادة وفهم لما يفعله الإنسان. لذلك فان التاريخ الإنساني الإيجابي والناصع كتبه الأحرار الذين اختاروا بعقولهم وتفكيرهم السليم أن يبنوا للإنسانية حضارة ومدنية. كما أن التاريخ السلبي والأسود كتبه العنف والظلم والعبودية وفقدان حرية الإنسان واضمحلاله، فعندما يفقد الإنسان حريته يصبح التاريخ وحركة الحياة عديمة الجدوى. والأمم الخائفة التي تصبح أسيرة المستبدين وتقدم حريتها هدية لهم تموت وتصبح خارجة عن التاريخ الانسيابي وتدخل في ربقة المستعبدين والتابعين يتحكم بهم الآخرون. أما الأمم الشامخة التي تفتخر بحريتها وتناضل من اجلها فإنها تخترق حواجز الجمود والتخلف وتصنع تاريخا متقدما وتبني لها حضارة وعزة وشموخا. وكم هناك من أمم كانت قابعة في زوايا النسيان والعدم فبرز بها المصلحون والأنبياء ليخرجوهم من الظلامة إلى النور بعد أن أدركوا معنى الحرية لتصبح أمما عظيمة ومتقدمة.

نفض ركام الاستبداد

إن أهم مشكلة تعيشها الأمة في وقتنا المعاصر وهي تريد أن تنفض عن نفسها ركام التخلف وتتحرك في إطار التاريخ إنها لاتملك الطاقة الحركية التي تدفعها لبناء واقعها وهذه الطاقة هي الحرية والقدرة على الاختيار والتفكير والتعبير والإبداع. لأنها أسيرة الاستبداد الذي صنع حواجز نفسية وفكرية وتاريخية عميقة يمنعها عن الحركة الإيجابية نحو التاريخ المستقبلي. فالاستبداد بمختلف ألوانه وأشكاله هو ضد حركة التاريخ والحضارة لأنه نقيض الحرية ويسلب من الإنسان القدرة على اختيار البدائل المتعددة ويمنعه من التفكير واستخدام عقله وفطرته وبالتالي يحرمه من الحياة ولأنه يمنع روحه من التنفس، وهنا تتوقف عجلة التاريخ ويصبح أسيرا بيد القدر والجهل والاستبداد، وعندما يفقد الإنسان حريته يفقد كل شيء العز والكرامة والأخلاق والعلم ونفسه...!

الحرية وجود للانسان

فالحرية هي الوجود الذي يرى الإنسان الحياة من خلاله فإذا كان الإنسان واعيا بدوره وقدرته على صياغة التاريخ فانه يصل إلى قمة قدراته العقلية والإبداعية خصوصا عندما ينظر إلى التاريخ لا من خلال زاوية كونه قارئا أو مراقبا متجردا بل من خلال كونه يشعر بأنه يساهم فيه ويؤثر في حركته فهو حينئذ يتحد مع حركة الأسباب والمسببات، بحيث عندما يقرأه يحس بانسيابه وامتداده في أعماقه وكأنه يعيش بين سطوره حيا. وهذا معنى الوعي بماهية التاريخ وفلسفته وفهم أسبابه ومسبباته. ولهذا فأن مقدرة الإنسان على أن يكون رائدا للتقدم أي أن يفهم ماهية الحضارة وان يعمل لها تتوقف على كونه مفكرا وعلى كونه حرا، إذ ينبغي أن يكون مفكرا ليكون قادرا على فهم قيمه ومبادئه وتصورها، وينبغي أن يكون حرا ليكون في وضع يتهيأ له منه أن يدفع بقيمه في الحياة العامة وتطبيقها.

إن الأمة لا تستطيع أن تتجاوز أزماتها بشكلها العام والمطلق إلا بعد أن تكون قادرة على امتلاك زمام ذاتها والتصرف بحرية واختيار دون وجود موانع قمع واستبداد، وإلا فإن البقاء تحت رحمة القدر والانتظار السلبي لا يزيد الوضع إلا تأزما والمجتمع إلا تفككا والفكر إلا بلادة وجمودا. ومن هنا يرى تونبي انه: ليس مقدرا علينا أن نجعل التاريخ يعيد نفسه، والطريق مفتوح أمامنا لكي نبذل جهودا خاصة لنوجه التاريخ في حالتنا ونحن كبشر نتمتع بحرية الاختيار ولا يمكننا أن نطرح عنا المسؤولية لنلقيها على الله أو الطبيعة وانما يجب أن نتحملها بأنفسنا، إننا لسنا تحت رحمة القدر الذي لا يرحم.

ويرى البعض من دارسي التاريخ: إن الأمة الإسلامية كانت قوية وتقدمت في ميادين الحضارة حين كان ولاتها متقيدين بقوانين الشريعة التي مدارها العدل والحرية ثم ضعفت هذه الأمة بضعف القانون العادل واستبداد الملك فانتشرت المظالم وانتقص العمران.

ولاشك عندما تختار الأمة البقاء تحت رحمة الاستبداد والقبول بفقدان الحرية فان هذا اختيار ولكنه اختيار سلبي وقدري يتحمله الإنسان بنفسه. فالحياة الحقيقية للأمم تبدأ عندما تختار قدر الحرية وتتجاوز سلبياتها ولا مبالاتها وأنانيتها وخوفها لتفتح بوابة جديدة نحو التاريخ. والتاريخ روح متحركة تصنعه الإرادة الإنسانية والوعي البشري في استجابته لتحديات وتحولات الحياة. فالحضارة الحقيقية تنشأ من خلال الروح المتولدة والحية من الناس.

وإذا أردنا أن نكتشف معطيات الحرية ودورها في توليد الشلال الدينامي لحركة التاريخ الإيجابي نحو التقدم والتطور فلابد أولا أن ندرس آثار واسباب التاريخ السلبي الذي يرسخ التخلف والتدهور بوجهه المعروف وهو الاستبداد. لأننا إذا أردنا أن نعرف معنى الحرية ودورها في حركة التاريخ المتصاعدة لابد أن نعرف ونقرأ نقيضها وهو العبودية والاستبداد الذي بنى ركاما هائلا من الانحطاط والجمود والكسل في أعماق أسس الأمة والمجتمع.

الاستبداد والدكتاتورية التحدي الكبير للامة

كان التاريخ ولا يزال صراعا مريرا بين الاستبداد والحرية بين الظلم والعدل بين الحق والباطل، حيث كتبت بأسطر غالبا بأحرف سوداء ودماء حمراء ومذابح هوجاء من اجل إرضاء الشهوة والنزوة والغريزة والإحساس الأناني بالتملك المطلق. فكان التاريخ مظلما إلا في بعض فتراته التي انطلقت فيها شرارة الحرية عبر الأنبياء والمصلحين لتوقد مشعل الحضارة والازدهار الإنساني. وكان هذا في فترات متفرقة من التاريخ عندما استطاعت الحرية أن تخترق كوة لتنير للعالم الخير، ولو أن الإنسان تغلب على طغيانه وأنانيته واستثمر نوازع الخير والحرية لديه لخلق إبداعا مثاليا رائعا يعبر بحق عن حقيقة المبدع الإلهي.

فالحرية لم تتنفس إلا في فترات كان فيها نمو الحضارة الإنسانية، فالحضارة اليونانية والغربية القديمة برزت عندما تمتعت بديمقراطية نسبية نخبوية امتلك فيها العلماء والفلاسفة الحرية للإبداع والفكر. والحضارة الإسلامية انطلقت في عهد الرسول (ص) عبر مثل وقيم إنسانية وإلهية اعتمدت على التحرر من الجاهلية والطغيان، لولا ان قفزت على الحكم دول وحكام كالدولة الأموية والعباسية فعرقلت حركة الحرية والازدهار ورسخت الاستبداد والطغيان والرذيلة. والحضارة الإسلامية لم تر النور إلا في مقاطع من التاريخ استثمرها المصلحون لترسيخ أسس العلم والحضارة كالفترة التي كانت بين نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية حيث ضعفت سلطة الاستبداد فاستثمر الإمام جعفر الصادق (ع) هذا الأمر وأسس اعظم جامعة إسلامية في التاريخ حيث برزت أسس العلوم الحديثة التي يعتمد عليها العالم حتى اليوم.

جذور الاستبداد واسباب نشوئه

تتعدد أسباب نشوء الاستبداد باختلاف الظروف والعوامل، ولكن القاسم المشترك هو عوامل معنوية تنبع من ذات الإنسان الذي يشكل عبر مجموعة الأفراد والمجتمع الأرضية القابلة لتحقق الاستبداد فيه، ذلك أن الاستبداد كالنبتة الخبيثة التي تنبت في التربة السيئة ولاتنبت في التربة الصالحة. وهناك قصة في التاريخ تعبر عن هذا المعنى عن ملك مغولي سأل الناس في مدينة فتحها وأراد قتلهم عن السبب في تسلطه عليهم فإن قالوا الله قتلهم، وان قالوا هو الذي تسلط عليهم قتلهم، لان ذلك يعني ان القدر أوجب قتلهم، فاجابه حكيم منهم انهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بضعفهم وخوفهم.

ويرى روبرت ماكيفر في كتابه تكوين الدولة ان: الدكتاتوريات تزدهر في أوقات الأزمات التي يتهافت فيها النظام القائم وتتهالك التقاليد وتستفحل المنازعات فيمتلك اليأس النفوس ويرضى الناس بالرجل القوي مضحين بالكثير لأنه يعدهم بعودة الثقة والأمن ويتنازلون عن معايير الشرعية التي لا يتنازلون عنها في أوقات أخرى ويتغاضون عن التناقض بين الدكتاتورية والشرعية.

فالنفس البشرية على الأعم الأغلب عندما يتملكها عدم الثقة بالنفس وفقدان الشعور بالاستقلالية الذاتية وسيطرة التبعية تبحث عن شخص تجد فيه عوامل القوة التي تفتقدها ذاته ليصنمه ويمجده ويحوله إلى معبود بشري ان لم يتحول إلى معبود يدعي الربوبية كفرعون وغيره. يقول الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد: يجد العوام معبودهم وجبارهم مشتركين الكثير من الحالات والأسماء والصفات وهم ليس من شأنهم ان يفرقوا مثلا بين الفعال المطلق والحاكم بأمره وبين من لايسأل عما يفعل وغير مسؤول وبين المنعم وولي النعم.

ألم يقل ذلك الشاعر في مدح الحاكم الطاغية:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار......فأحكــم فأنت الواحد القهار

ويرى موريس ديفرجيه ان الدكتاتورية وليدة لأزمات يتعرض لها البنيان الاجتماعي: انه نموذج يعكس الوضع الاجتماعي لان الجذور والأصول العميقة هي التي أنجبته وانه نموذج يتولد عن تفاعل قوى وطاقات داخلية وذاتية.

ويعتمد شكل البنيان الاجتماعي على مستوى الجهل والوعي وعلى نوعية التربية والتقاليد الثقافية والاجتماعية التي تنتج منظومة من القيم والأفكار. وخصوصا نوعية الفكر الذي تنتجه النخبة التي تمثل المستوى المثالي للمجتمع حيث تعطي قياسا واضحا للنسيج الاجتماعي العام. فعندما يستفحل الاستبداد ويصبح في عمق المنظومة الثقافية والفكرية في مجتمع ما، نعرف ان الطبقات النخبوية في المجتمع هي التي تعتمد هذا المنهج وتوجه نحو هذه المنظومة وان كان بشكل لاشعوري. فمثلا معظم الأحزاب العلمانية والإسلامية في العالم الثالث التي تعتبر نخبة المجتمع يتركز الاستبداد في بنيتها الفكرية والثقافية والتنظيمية حتى وان ناقضت شعاراتها. لذلك فهي تشكل نفس المستوى من نظام الاستبداد وتعمل على تقويته وترسيخه، ولو أنها عممت نظام الحرية في كافة مستوياتها البنيوية لكان لذلك دور في تعميم الحرية وتموجها.

التربية بالاستبداد

ان التربية العائلية والاجتماعية تساهم بشكل كبير في وجود الاستبداد لان الاستبداد سلوك يتعلمه الإنسان من خلال ما يكتسبه من قيم وتقاليد خلال فترات حياته، فعندما يكون الجو العائلي مشحونا بالتسلط والقهر والأحادية فان هذا ينعكس على الأبناء بشكل سلوك عام تظهر كوامنه وأثاره على اتجاهين الفاعلية حيث يكون الاستبداد السلوك الأولي الذي ينتهجه الفرد في تعامله مع الآخرين، واتجاه القابلية حيث يكون الفرد جاهزا لقبول الاستبداد بكل أنواعه والتعاون معه. يقول ارسطو: ان الرجل الحر لا يستطيع أن يتحمل حكم الطاغية ولهذا فان الرجل اليوناني لا يطيق الطغيان بل ينفر منه، أما الرجل الشرقي فإنه يجده أمرا طبيعيا فهو نفسه طاغية في بيته يعامل زوجته معاملة العبيد ولهذا لا يدهشه أن يعامله الحاكم هو نفسه معاملة العبيد.

ومع عدم عمومية هذا الكلام فان البيئة التربوية والثقافية عنصر أساسي في تجذير الاستبداد في العقل الاجتماعي العام وتحويله الى حالة طبيعية غير منفور منها، وتصبح الحرية هنا غير ذي معنى وغير مفهومة ويعطل التفكير والإبداع وتحل التبعية ويفقد الفرد البصيرة والرؤية النافذة والقدرة على التغيير والتطور. يقول الله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون). البقرة 170

الاستبداد والقدرية المسيسة

إن أهم دواعي الاستبداد السياسي هو القضاء على الحرية بل انهما نقيضان لا يلتقيان ولا يجتمعان، والحرية هي الانعكاس العملي للقدرة الفكرية والعقلية على الاختيار والإرادة، لذلك حاول المستبدون أن يوجدوا منطقا هزيلا يغرر بالجهلاء وأنصاف المتعلمين عبر تسييس الــعقيدة ونفي حرية الإرادة والاختيار عقائديا، وان الإنسان مجبور وغير مخير وان الخالق هو الذي يجبر الناس على الفعل خيرا كان ام شرا. وذلك لتبرير شيئين: ان الناس مجبورون على الخضوع للمستبد والظالم مهما طغت وطفحت شروره وليس من حقهم المعارضة والنقد لان الخالق هو الذي نصبه عليهم، والشيء الثاني ان الحاكم غير مسؤول عن أعماله الجائرة واستبداده المطلق واسرافه في الدماء والأعراض لأنه مجبور على أعماله وغير مسؤول عنها. وقد حاولت الحكومات المستبدة على طول التاريخ نشر هذا المفهوم عبر وعاظها لفرض سيطرتها المطلقة وسلب الحريات. وكان الأمويون من الذين سبقوا الآخرين لإيجاد مذاهب تدعو الى هذا الأمر، فأسسوا الجبرية والمرجئة و... يقول معاوية: لو لم يرني ربي أهلا لهذا الأمر ما تركني واياه ولوكره الله ما نحن فيه لغيره وأنا خازن من خزان الله تعالى أعطي ما أعطى الله وامنع ما منعه ولو كره الله أمرا لغيره.

وكانت نظرية الحق الإلهي هي التبرير الذي استخدمه بعض المستبدين لتبرير هيمنتهم وسلطاتهم المطلقة.

لقد أنكر منظرو الاستبداد الجبري العدل الإلهي الذي يوصل الإنسان الى الحرية والاختيار، حيث ادعوا إن الله فاعل كل شيء وانه ليس بقبيح عليه ان يظلم وان يعاقب فاعل الخير ويثيب فاعل الشر. والهدف من هذه النظرية واضح وهو إنكار وجود نظام متوازن قائم على العدل والتوازن وان الحرية هي فرع العدل الإلهي.

إن الأمر الأخطر من التبرير العقائدي والشرعي للاستبداد هو سيطرة القدرية والجبرية على حياة الناس كنظام ثقافي واجتماعي يحكم على سلوكهم ويقود نحو الرضا المطلق بالعبودية والتبعية والظلم، وهذا هو الذي يوجد الأرضية القوية لسيطرة الاستبداد وليست قوة المستبدين. يقول تعالى في كتابه الكريم: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم انه كان من المفسدين). القصص4

فعندما تتولد في الناس مفاهيم القدرية وان الإنسان ليس في يده أي قدرة لتغيير الواقع او الإسهام في ذلك وان كل ذلك بيد الله لوحده، يساق الناس إلى المذابح كالقطعان وقد مسخوا الى عبيد لا روح فيهم ولا إرادة لهم. ومن هنا كان الهدف من بعث الأنبياء وإرسال الرسول الظاهري هو لإثارة الحجة الباطنة وهي العقل وتحريك الإرادة ودفع الإنسان لحريته يقول تعالى: (ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم).الاعراف157

التخلي عن الحرية

ان المشكلة الأساسية في الإنسان هو التخلي بسهولة عن حريته واختياره لصالح الحظ والقدر ويترك حياته تديرها الظروف والمتغيرات. فحيثما: يعتمد الجميع على الحظ او التدخل الإلهي يتلاشى الفعل الجماعي، فربما تتمنى الجماعة او الفرد لكنها غير قادرة على صنع مصيرها بيدها، وفي حالات نادرة اذا برز قائد منهم فسوف ترفضه الجماعة بسبب فقدان الثقة، وغياب القائد سيزيد من دائرة اليأس وعدم الثقة فيما بينهم، ولان القدري خائف من نفسه واستغلال الآخرين فسوف يفضل نظاما سلطويا مستبدا يفرض بالقوة، وهكذا فلا تبدو للمشاركة والمنافسة قيمة تذكر. ولان القدريين عاجزون عن معرفة متى سيساء استخدام السلطة فهم منحازون مسبقا لدعم السلطة الاستبدادية التي تتيح لهم إمكانية التنبؤ دون تحمل أدنى مسؤولية. ومن هنا يبدو أن نمط الحياة القدري داعم ومكرر لذاته فلا فعالية ولا فعل جماعي ولا نمو اقتصادي ولا منافسة ولا ثقة ولا تعاون ولا حرية ولا ديمقراطية. ونتيجة ذلك التوجه القدري الذي يدعم نمطا للتنظيم الاجتماعي معينا يكبح النمو الإنساني والفكري والاقتصادي ويترك بالتالي أفراده معرضين لتأثير أهواء الطبيعة والناس والظروف بحيث تتغذى الميول نحو السلوك القدري بشكل اكبر.

ان القدري في اغلب الأحيان يشعر بما يجري من حوله ويدرك الحقائق ويحس بضراوة الاستبداد لكنه يبقى عاجزا في روحه خائفا في قرارة نفسه لايثق بها وبالآخرين، ويتشاءم من المستقبل ومن القدرة على إيجاد التغيير ويرى ان الظروف فوق طاقته وطاقة الآخرين لذلك يعتمد بشكل أساسي على المعجزة ويتمسك بشكل مطلق على الغيبيات ناسفا كل دور لعقله وفكره وارادته. فهو يسير باتجاه الجبر بخضوع ذليل للاستبداد والدكتاتورية.

تبريرات الاستبداد والمستبدين

الشرعية هي أهم مشكلة يواجها النظام الاستبدادي لتثبيت أسسه وأركانه، فمهما امتلكت السلطة من قوة وإرهاب فإنها تبقى مؤرقة وقلقة تبحث عن الاستقرار الدائم بإحساسها انها تقف على ارض رخوة غير ثابتة. فتحاول ان تبرر سلطتها المطلقة عبر تبريرات شرعية او أخلاقية او سياسية أو أيديولوجية ولكنها تبقى مستندة الى القوة والقمع حتى في إثبات هذه التبريرات،. وقد ذكرنا أحد هذه التبريرات سابقا وهي نظرية الجبر، ونظرية الحق الإلهي التي يبرر فيها الحاكم سلطته الشرعية بأنها تفويض من الله فليس لاحد مناقشة هذه السلطة او معارضتها وبالتالي فان الناس ليسوا أحرارا ولا رأي لهم بل الحاكم هو السلطة المطلقة الذي يملك كل شيء وليس مسؤولا أمام أي أحد وهذا ينطبق بشكل عام على الحكومات ذات الطابع الديني والتي تستخدم الدين كوسيلة لإرضاء شهواتها في السلطة المطلقة. وهكذا فأن الاستبداد يفرض نفسه بالقمع ناسفا للحرية أي وجود قانوني أو فكري او عملي.

ومن التبريرات ان الاستبداد حل حازم لكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة لان الديمقراطية لاتملك حزما يعتمد على القوة وان الحرية تشتيت للمجتمع وتفكيك لأواصره. ولكن ما حصل في كثير من التجارب هو عكس ذلك لان البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تدمرت كاملا بعد سيطرة الاستبداد وكما عبر ديفرجيه عن الدكتاتورية كحل للمشكلات: بانها أشبه بصيد العصافير بصواريخ كونية. وكما قال مونتسكيو عن الطاغية بأنه: ذاك الذي يقطع شجرة ليقطف تفاحة.

ان المستبد يجعل من نفسه وصيا على الناس يحجر على حرياتهم وأفكارهم وطاقاتهم بأنهم غير قادرين على الاستفادة الجيدة من حريتهم لذا يتصرف عنهم بشكل مطلق، فهو يعتبر نفسه أبا للمواطنين ويعاملهم معاملة أطفاله على انهم قصر غير بالغين او قادرين على ان يحكموا أنفسهم ومن هنا كان من حقه عقابهم إذا انحرفوا لأنهم لا يعرفون مصلحتهم الحقيقية.

من هو المستبد..؟

لاشك ان معرفة المستبد وصفاته النفسية والأخلاقية يكشف لنا عن ماهية النظام الاستبدادي الحاكم وبالتالي تأثيراته على المجتمع وما يفرضه مــن تموجات تخترق البنية الاجتماعية وتحطم أسسه وخصائصــه الاستقرارية، لان المستبد يحتكر كل القنوات الفكرية والإعلامية والتوجيهية فيحاول ان يمسخ الآخرين على شاكلته، ولذلك قيل الناس على دين ملوكهم. يحلل الباحث موريس ديفرجيه نمط الشخصية الاستبدادية وصفاتها واسباب نشوء الاستبداد فيها بقوله ان المستبدين يتصفون بكونهم:

أفراد غير واثقين من أنفسهم ولم يستطيعوا يوما ان يكونوا شخصيتهم الخاصة بهم وان يحققوا لها الاستقرار، أفراد يشكون في ذواتهم وهويتهم فإذا هم يتشبثون بالأطر الخارجية لانهم لا يملكون ما يدافعون عن أنفسهم، فهم عندما يدافعون النظام الاجتماعي يدافعون عن أنفسهم وعن توازنهم النفسي، وعن هذا ينشأ العدوان فيهم وتصدر كراهيتهم للمعارضين وحقدهم على الآخرين المختلفين، حتى اذا اصبح النظام الاجتماعي ذلك النظام الذي رسموه حسب أهوائهم زاد عدوانهم وهكذا يظهر أوهن الناس نفسا بأقوى مظهر خارجي، لذلك فإن الأحزاب القائمة على القوة أحزاب تتألف من أناس ضعاف.

ان الميل الى الاستبداد هو في بعض الأحيان تعويض عن إخفاق أصاب الفرد، والمرء ينتقم من الآخرين لأنهم لا يحبونه او لانهم يستخفون به او لانهم يعدونه دونهم قدرا، والضعاف والحمقى والخائبون يحاولون ان يؤكدوا ذواتهم بإذلال من هم أعلى منهم بالسعي الى إنزالهم الى ما دون مستواهم.

الاستبداد والارهاب

لذلك فإن الاستبداد يستخدم القمع والإرهاب عندما يفشل في تحقيق سياسته وخططه بل مستعد ان يشن الحروب ويضحي بالملايين من اجل ان يحس بالاطمئنان ومع ذلك يبقى قلقا وخائفا ومرعوبا، لان النفس المستبدة فقيرة وهزيلة يستبد بها الرعب وتعاني وتنظر الى باطنها فتجدها خاوية فتمتد الى خارجها لتقتني ما يسد لها هذا الخواء، تتصيد أناسا آخرين لتخضعهم لسلطانها لأن مصدر طغيان المستبد هو فقر نفسه، فالمكتفي بنفسه لا يطغى ومن يشعر بثقة واطمئنان ليس في حاجة الى دعم من سواه.

ان الخطر ليس في المستبد بحد ذاته بل في تصديره لصفاته كنظام اجتماعي وثقافي واخلاقي يحكم على الناس خصوصا عندما يستخدم الرعب والقمع والانغلاق لحجر العقول والأفكار والإبداع على أناس قد تملكهم اليأس والخوف والقلق. وبهذا فان النظام الاستبدادي يستنسخ نفسه عبر انعكاس صفاته وخصائصه على الناس. فالأفراد الذي لم يسعوا ولم يروا ولم يقرأوا إلا عن المستبد وشخصيته العظيمة يتخرجون من مدرسته وهم يحملون صفاته وشعارهم الأول القضاء على المبدعين والمفكرين والأحرار لانهم يكشفون عن مدى خواءهم وضعفهم فالأشياء بأضدادها تعرف، ولهذا قتل الحكام المستبدون في الدولة الأموية والعباسية أهل البيت عليهم السلام وسجنوهم وشردوهم.

آثار الاستبداد على حركة الإنسان في التاريخ

لا يمكننا ان نحدد بشكل دقيق الآثار التي يتركها الاستبداد على حركة الإنسان في التاريخ لأنها اكبر من ان تحدد ولكن الشيء الذي نكتشفه من قراءة التاريخ ان حركة الإنسان في ظل الاستبداد تتوقف عن التقدم ان لم نقل تتراجع الى ما قبل التاريخ، لانه في ظل الاستبداد تتوقف عطاءات الإنسان بشكل مطلق ويتوقف نموه وتبقى آثار ذلك الى مجموعة أجيال متعاقبة. فالأمة الإسلامية لازالت تأن من وطأة التخلف لأنها مرت بأقسى أنواع الاستبداد في ظل الدولة العثمانية التي جمدت الحركة ونفت الإنسان الى خارج التاريخ، فلم يسجل التاريخ في هذه الفترة عطاءا إنسانيا او علوما مزدهرة او كتبا، والذي سجله التاريخ هو مذابح ومجازر وفقر مدقع ومجاعات وحروب مستنزفة.

نقرأ بعض آثار الاستبداد لنكتشف معوقات حركة التقدم نحو المستقبل:

أولا: مسخ هوية الإنسان ووجوده:

الإنسان كائن حي مدرك عاقل ويحس في قرارة فطرته وضميره بأنه قادر على الاختيار والإرادة لذلك تتشكل هويته من خلال هذا الأمر، ذلك ان وجود الإنسان هو وجود معنوي وروحي قبل ان يكون وجوده ماديا، فما اكثر البشر الذين يمتلكون وجودا ماديا وليس لهم وجود فكري ومعنوي وإبداعي وقد اصبحوا أمواتا وان كانوا احياءا في أجسادهم، وهناك من لا يزال حيا بوجوده المعنوي والإبداعي والأخلاقي وان ثوى جسده تحت التراب، يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين.

والاستبداد يستهدف مسخ هوية الإنسان والقضاء على وجوده المعنوي لانه نقيض للحرية والحرية هي هوية الإنسان وحقيقة خلقه وفلسفة امتحانه وابتلائه. فالمستبد يهدف الى تحويل رعيته الى قطيع من الأغنام لادور لهم متذللين بحيث يهدم إنسانية الإنسان ويقضي على احترامه وتقديره الذاتي. ترى حنة ارندت: ان الحركات الاستبدادية تضم إليها أفرادا معزولين ومبعثرين وتتميز بأنها تشترط الولاء المطلق واللامحدود وغير المتبدل للفرد إزاء حركته، ان ولاء كهذا لايمكن توقعه إلا من كائن بشري معزول بالكامل كائن مجرد من روابطه الاجتماعية التي تصله بعائلته واصدقائه فرد لايستشعر نفعه إلا من خلال انتمائه الى الحركة الاستبدادية، ولا يكون الولاء التام ممكنا إلا حين تفرغ الأمانة من كل محتوى ملموس. أي تفريغ الإنسان من كل محتوي إنساني حي بحيث يفقد استقلاله ووجوده لصالح الانتماء الى النظام الاستبدادي. فالاستبداد يعزل الإنسان عن وجوده الخاص ووجودات الآخرين ويضعه في صحراء مقفرة شاعرا بالتقفر الذي يعني هنا الوحشة التي يستشعرها الإنسان الذي اقتلعه النظام الاستبدادي وحرمه من مجال وجوده وحركته وفعله. فالاستبداد يمارس على الناس سلطة العبيد وينحى الى تدمير مجال الحياة العامة عازلا إياهم عن أي نشاط بل ويقضي على الحياة الخاصة على اساس التقفر والعزلة التامة وعدم الانتماء الأقصى والمطلق عن العالم، ولاشك فان هذا اشد اختبارات الإنسان يأسا واقتلاعه جذريا. وان يكون المرء مقتلعا يعني ألا يكون لديه مكان في العالم مكان يقر له الجميع به ويضمنونه، وهذا يقود نحو إحساسه بعدم جدواه وانه لم يعد يمت لهذا العالم باي صلة انتماء، وهذا هو الاقتلاع الوجودي للإنسان في ظل الاستبداد.

فالوجود في النظام الاستبدادي هو وجود المستبد فقط والآخرون هم وجودات هامشية لاتملك حق التفكير والمناقشة والحوار بل لاتملك ان تقول كلمة انا، فالقانون هو قانونه ولابد ان يكون الناس خاضعين له بشكل مطلق وان يكونوا جهلاء وجبناء محطمي النفوس، وبدلا من ان يتم التعامل بين الناس على أساس الاحترام المتبادل يتم التعامل على أساس الترهيب والتخويف. وهكذا يتحول الإنسان في هذا الواقع الى مسخ لا كيان خارجي له.

ثانيا: تدمير الأخلاق والفضيلة

وإذا مسخ الإنسان وجرد من هويته فانه يتجرد من كل شيء ويفقد تلك الأخلاقيات التي تميزه كانسان فاضل كريم، وهذا ما يهدف إليه الاستبداد تجريد الناس من الأخلاق لاستغلال ضعف النفوس لصالح تقوية أركانه ونظامه. ولهذا يجتذب النظام الاستبدادي الأفراد الذين تنعدم فيهم الأخلاقيات الاجتماعية حيث تقول ارندت: ان التذري الاجتماعي والفردانية القصوى كانا متقدمين على الحركات الجماهيرية (التي تبدأ بالاتجاه نحو الاستبداد المطلق) التي ما لبثت تجذب اليها الناس العديمي التنظيم والفردانيين العنيدين الذين كانوا يرفضون الاعتراف بالروابط الاجتماعية، بيد ان الميزة الرئيسة في رجل الاستبداد ليس الفظاظة فقط بل الانعزال والنقص في العلاقات الاجتماعية السوية. فالاستبداد يقود حملات تطهير ضد كل روابط الفرد الاجتماعية والعائلية بأن يخلق من الناس مجموعة وشاة ومنافقين حيث يحاول كل فرد ان يجمع الأدلة ضد الآخرين لتقريب نفسه الى السلطة وانه جدير بالثقة بحيث يصبح تقدير الفرد بعدد الوشايات عن رفاق اقربين له. وما ان يقتل الشخص الأخلاقي حتى يتحول الناس الى جثث حية فلا يبقى من البشر شيء سوى دمى مريعة ذات اوجه بشرية تتصرف جميعها على غرار الكلب في اختبارات بافلوف اذ تتفاعل جميعها بطريقة متوقعة تماما حين تمضي الى موتها فلا تقوى سوى على رد الفعل.

ان الاستبداد يساعد كثيرا على نمو الرذائل وقتل الفضائل لانه يرفض الرأي الآخر والنصيحة والنقد ويقرب المتملقين والمنافقين مما يساعد على نمو هذه الرذائل باعتبارها المقرب والمأمن من السلطات، الم يقل عبد الملك بن مروان: والله لايأمرني احد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه.

ان السلطة التي تحاول ان تكره الناس على الأخذ بتعاليم دينية او مباديء خلقية معينة تسيء للدين والأخلاق اكثر مما تخدمها وذلك لان عاقبة الاكراه التظاهر بالطاعة فتكون نتيجة السياسة الأخلاقية القسرية تعزيز النفاق والفساد.

ان الاستبداد في حقيقته ليس إلا مرتعا لنمو الأوبئة الأخلاقية والمفاسد الاجتماعية في ظل غياب الناصح والناقد والضمير الحي.

ثالثا: تدمير المؤسسات الاجتماعية

الاستبداد بطبيعته أحادي الفكر والمؤسسة ونقيض للتعددية فلا يقبل الرأي الآخر ولا وجود مؤسسات مستقلة، لانه يفرض رأيه الخاص ومؤسسته الخاصة ويفرض على المؤسسات الأخرى الاندماج والانصهار في مؤسسته الأحادية، وهو بذلك يعرض البنيان الاجتماعي للدمار عبر تدمير البنية التحتية. وعندما تدمر المؤسسات الاجتماعية يضطرب البنيان الاجتماعي وتعتل المؤسسات التربوية والاقتصادية وتصاب بشلل خطير.

رابعا: تكريس التخلف والتبعية

ان النظام الذي يسلب حرية الإنسان وفكره لاشك انه يقضي على دوافع الحركة الإيجابية للعمل والإنتاج وبالتالي يجمده ويقضي على استقلاليته ويجعله مستهلكا خاملا. يرى ديفرجيه ان: انعدام الحرية يقتل التقدم او يحد منه، فالضغط على الحريات هو اكبر العقبات التي تقف في وجه نمو التقدم. وذلك لكون تقدم أي بلد يستوجب نشر الثقافة العليا على أوسع نطاق الأمر الذي ينمي الفكر والمحاكمة والحاجة الى الحرية. ويضيف ديفرجيه قائلا: ان الدكتاتوريات الرجعية تسرع في التمهيد لإيجاد تغييرات عميقة وأساسية في التركيب الاجتماعي بمعنى انها تغذي الأزمات البنيانية والصراع حول فكرة المشروعية ومن اجل ان تنجح في هذا الاتجاه تسعى لإدخال تغييرات جوهرية في لب المجتمع بأن تتجنب تحديث البلاد اقتصاديا وتقف أمام التطور العام وتجميد الأوضاع البدائية وجعلها تكتسب صفة الاستمرار الشرعي وسط عالم يسير ويتقدم.

فالاستبداد لا يمكنه المحافظة على مكاسبه الضيقة إلا بإيقاف حركة التقدم والحرية لذلك تزداد البلاد الدكتاتورية يوما بعد يوم تخلفا واضمحلالا وتبعية وفقرا.

خامسا: قتل العلم وخنق الإبداع

ان فكرة التطور تعتمد على نمو العلم وخلاقية الإبداع في ظل ظروف تسودها الاجواء الحرة والمنفتحة لانه لا يمكن للإبداع ان يتفتق إلا في حال وجود ضمانات أمنية للإنسان تجعله قادرا على استخدام طاقاته بثقة واطمئنان. فالمفكرون والعلماء لا يستطيعون ان يعيشوا في ظل الاستبداد لانهم لا يشعرون بالأمان، وأكثرهم لا يملك القدرة والجرأة على المخاطرة ليكون ضحية في محرقة محاكم التفتيش، فالاستبداد والإرهاب يجعل كل بحث علمي عقيما ويطفئ شرارة الفكر المبدع. وتحطيم استقلالية العلم والفكر والقضاء على موضوعيته لصالح فكر وأيديولوجية السلطة يعني تحطيم العفوية الإنسانية التي هي القدرة التي أوتيت للإنسان ان يباشر أمرا جديدا انطلاقا من قدراته الخاصة. ان ما لا يتحمله النظام الدكتاتوري هو التفكير العلمي الذي يعتمد على تعدد الاحتمالات والذي يقوم على الشك في طبيعته بحيث يضع الأشياء موضع التساؤل والبحث ويناقش المبادئ وهذا هو الذي يدفع بالدراسات والبحوث للأمام، وهذا هو الذي يجعل من العالم يعارض الحكم الدكتاتوري معارضة جوهرية ما دامت كل دكتاتورية عقائدية.

ان أهم مشكلة تواجه الأمة الإسلامية هي هروب العقول المهاجرة الى الغرب بحثا عن الحرية والامان والقدرة على التعبير والإبداع، فاستفاد الغرب منها بشكل كبير وخسرتها بلادنا. يقول أحد هؤلاء وقد فاز بجائزة نوبل: ان العلماء والباحثين بحاجة الى بيئة ملائمة حيث تمثل حرية التعبير والاستقلال الفكري والاستقرار في العمل متطلبات دنيا، ان معظم الدول الإسلامية أنظمة قمعية لا تساعد على البحث.

وأخيرا فان فهم الآثار التي تنتجها الدكتاتورية والاستبداد يقودنا الى خلاصة رئيسية وهي ان الاستبداد يمثل عقبة أساسية في النهوض والدخول الى تاريخ مستقبلي جديد لانه يقضي على أساس هوية الإنسان وإبداعه ووجوده الفكري والاجتماعي. وكذلك يوصلنا هذا البحث الى ان الاستبداد عندما يتسلط لفترات طويلة يشكل ظاهرة مرضية عامة متأصلة في البنيان الاجتماعي العام وهذا يعني ان في كل نفس وفكر وثقافة يتجسد دكتاتور قد يكون صغيرا وقد يكون كبيرا.

ان التحدي الكبير الذي يواجهنا هو تحدي البحث عن الحرية وكيف نجعل من الحرية في فكرنا وعقلنا انطلاقة نحو المستقبل..؟

* مقالا منشور في مجلة النبأ-العدد 45/صفر 1421/ايار 2000

اضف تعليق