q

منذ عام 2003 والقوى الرئيسة داخل الإتحاد الأوروبي بإستثناء بريطانيا تبحث عن الأطر الممكنة لبناء ذاتها في بيئة إستراتيجية قائمة على أساس تأمين الذات الوطنية والقومية من التهديدات الإرهابية، لاسيما في ظل التهديدات المستمرة التي أطلقها زعيم تنظيم القاعدة آنذاك أسامة بن لادن تجاه العالم الغربي والولايات المتحدة الأمريكية بشن ضربات نوعية على مراكز نوعية وسكانية في أوروبا.

ورغم طبيعة الأحداث والتطورات التي طالت البيئة الأمنية العالمية، إلا أن إستراتيجية أوروبا تجاه الإرهاب لم تكن بمستوى عالي من التحسب والوضوح، فالمجال العسكري في إستراتيجية مكافحة الإرهاب لم يكن واضحاً، إذ إرتأت أوروبا أن تتجه نحو صياغة مقتربات تقوم على أساس التكييف والتنمية الفكرية من أجل ضبط حركة التنظيمات الإسلامية داخلها معتمدة بذلك على ما تمتلكه من قوة ناعمة قادرة من خلالها على التأثير في سلوكيات التنظيمات الإسلامية والدينية المنتشرة فيها، فالتنظيمات الإسلامية المنتشرة في أوروبا تشكل تحدياً هي الأخرى بشأن أي إستراتيجية تتبناها هذه الدول تجاه الوضع الدولي المتجه شرقاً نحو الإرهاب على الإرهاب.

القيم مقابل نظرية المصالح

بالرغم من أن أوروبا توجهت في بادئ الأمر على أساس سياسة براغماتية حددت بموجبه أسس التعامل مع التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ضد ما أسمته الأخيرة بالدول المارقة أو محور الشر، إلا أن طبيعة الدور الأوروبي كان منضبطاً لاسيما ما يخص فرنسا وألمانيا، فمعارضة فرنسا للإستخدام المفرط للقوة العسكرية بعد أحداث أيلول خصوصاً في العراق في عام 2003 كان يشكل أحد ملامح التوجه الخارجي لأوروبا بشأن التعامل مع الوضع الدولي الجديد. حيث كانت المصالح الإستراتيجية لتوازنات القوى والقلق من معادلات التغيير تفرض إعتبارها على الإدراك الإستراتيجي الأوروبي حيال المعيارية التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع الإرهاب الدولي.

ومع تنامي الفوضى في منطقة الشرق الأوسط، وجدت أوروبا نفسها بعيداً عن توازن المصالح الذي بدأت تفقده نتيجة للتبدل في معادلات التوازن، خصوصاً مع إتساع دومينو التغيير وإنهيار الأنظمة السياسية في المنطقة العربية، ومن هنا عدلت أوروبا إسلوب تعاملها الخارجي مع قضايا البيئة الإستراتيجية، فقيادة الناتو الأوربي للحرب في ليبيا شكلت إحدى ملامح الدخول في توازن المصالح الجديد لكي تحتفظ أوروبا بحيويتها الإستراتيجية عالمياً.

وعلى الرغم من إتساع الدور الأوربي في المنطقة، إلا أن هذا الدور ما يزال تكميلياً، فأوروبا التي قادت الحرب في ليبيا، لم تضع ترتيبات سياسية للوضع الجديد بعد مقتل القذافي، بعكس الولايات المتحدة الأمريكية التي وضعت الأسس البنيوية لإدارة السلطة في العراق وأفغانستان، الأمر الذي ساعدها كثيراً في إدارة أوراقها السياسية ومصالحها الإستراتيجية من خلال ما وضعته من ركائز بنيوية. وهذا ما يعني إن أوروبا قد لا تكون الرابح الأخير في المعادلات التي كانت جزءاً منها، فهي لم تقدم برنامجاً كاملاً لسلوكها الخارجي تجاه المصالح المرتبطة بها أو المجال الحيوي الذي تقصده.

ومن زاوية أخرى، فإن إندفاع فرنسا وإلى حد ما ألمانيا بشأن تغيير نظام الرئيس السوري بشار الأسد لصالح المعارضة كان بعيداً عن الدقة في تقديرات الموقف الإستراتيجي هناك، لاسيما وأن الوضع في سوريا يرتبط إلى حد كبير بتمكين الجماعات الجهادية المتطرفة من بناء دولة لهم تشكل مصدر لتهديد الأمن الإقليمي في المنطقة برمته، والذي قد ينتقل أثره فيما بعد إليها بسبب حدة الإرتباط بين الأهداف البعيدة والقريبة التي تتبناها الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط.

لم يكن التحسب في إستراتيجية أوروبا تجاه تنظيم داعش موجوداً بالأصل في حساباتها الإستراتيجية عندما تعاملت مع الأزمة السورية، فغياب الوعي بشأن الطموح السياسي لتنظيم داعش وتناقضاته الأيديولوجية مع تنظيم القاعدة جعل من أوروبا مجالاً لتنفيذ بعض الأهداف الإستراتيجية المتناقضة بين التنظيمين، حيث أصبحت الخلايا النائمة في أوروبا مصدراً للتهديد الأمني لفرنسا خصوصاً التي لم تراعي الطريقة التي تتعامل بها مع الوضع في سوريا.

ووفقاً لبعض الدراسات، فإن الولايات المتحدة هي الأخرى كانت مضللة بشأن طبيعة التعقيد في البناء الفكري الجديد لكل من القاعدة وداعش، ولعل ماكتبه "سيمور هورتش" المتخصص بالشرق الأوسط يبين هذا التناقض من خلال توصيف الخلاف بين مؤسسة الرئاسة وأجهزة الإستخبارات بشأن تقييم الدعم العسكري للجماعات المعارضة في سوريا. الأمر الذي إنعكس على الأداء الإستراتيجي للتحالف الدولي برمته في التعامل مع القضايا الإستراتيجية والأمنية في المنطقة وفي مقدمتها الإرهاب والتطرف.

أوروبا: أولوية الداخل وموازنة التهديدات

منذ تفجيرات باريس في عام 2014 والتي ساهمت في صياغة إستراتيجية أوروبا الجديدة تجاه الإرهاب، والقوى الأساسية داخل الإتحاد الأوروبي تتبنى أسلوب الهجمات العسكرية الجوية في هذه الحرب، فهي لم تضع لغاية الآن ترتيبات على الأرض تدعم الجهود التي تقوم بها في الجو.

إن إستراتيجية أوروبا وفقاً لهذا التوصيف تتجه نحو مقاربة تأمين البيت الأوروبي دون أن تتجاوز ذلك نحو موازنة التهديدات الإستراتيجية العالمية، فإستراتيجية أوروبا لم تصل إلى مستوى ربط الأمن القومي بالأمن العالمي كما فعلت الولايات المتحدة بعد عام 2001، وهذا ما يعني أن أوروبا فقدت فاعليتها الإستراتيجية لصالح الولايات المتحدة في هذه الحرب من حيث موازنة التهديد، مع إحتفاظها بذاتها القومية في توازن المصالح.

إن طبيعة الترتيبات الأوروبية مازالت غير قادرة على موازنة الدور الذي تقوم به روسيا جوياً أو إيران على الأرض، فهي مازالت تدور في تحالف الولايات المتحدة كقوة ساندة وليست أساسية، وهذا ما يعني أنها ستبقى تدور في نطاق التحالف الدولي ضمن ما يحدده الناتو لها من دور، دون أن تنتقل إلى الموازنة الإستراتيجية، فالوضع الدولي لا يسمح لها أن تتربع على قمة تحالف تقوده بمفردها، علاوةً على أن الخلافات داخل الإتحاد الأوروبي مازالت تحدُ من إمكانية إنتقاله إلى قوة أساسية في توازنات القوى العالمية بحيث تكون قادرة على أن تكون طرف في توازن التهديد أو طرف رادع.

ورغم جميع ذلك، فإن الفرصة أمام الإتحاد الأوروبي ستكون قائمة في أي لحظة، فالقدرة القتالية له في معالجة التهديدات الأمنية قائمة بكافة مفاصلها، إلا أن الحنكة في إيجاد موقعها ستكون صعبة، فهي ماتزال تتخوف من ضياع ذاتها إذا ما تخلت عن الولايات المتحدة لتعود مرة أخرى متأثرة في الإستقطاب الدولي. وهذا ما يجعلها مضطرة إلى التعامل مع القضايا الدولية كالإرهاب بالشكل الذي يضمن أمنها القومي دون أن تتحول إلى قوة موازنة للأدوار الإستراتيجية العالمية. وبالتالي فإن قوة ودور أوروبا سيكون قوة للولايات المتحدة الأمريكية وليس لذاتها في مجابهة التحديات والتهديدات العالمية كالحالة مع الإرهاب.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق