q

كشفت الاعتداءات الارهابية الاخيرة في بغداد الجديدة ومحافظة ديالى خللا كبيرا في وسائل الاعلام العراقية، فقد اثبتت هذه الاعتداءات بان مؤسساتنا الاعلامية لا تزال تجري كالسلحفاة باتجاه مختلف الاحداث وفي اغلب الاحيان تنتظر اعلان الحدث في وكالات الانباء العالمية الكبرى لتعلن هي عنه بإسناده الى تلك الوكالات. وهذا السلوك الاعلامي هو احد ابرز مخرجات التبعية الاعلامية التي نعاني منها كثيرا بسبب اتكالية العاملين في غرف الاخبار على ما تقدمه وكالات الانباء تلك، وبهذه الحالة اننا نفتح الباب واسعا امام هذه الوكالات لتحدد اهمية هذا الحدث وتقلل من اهمية ذاك وفقا لأجندات اعلامية قائمة على اساس مصلحة من يقف وراء تلك الوكالات ويمولها، ولا نستغرب اذا سمعنا يوما ما بان انفجاراً يقع قرب مقر قناة عراقية فيخرج بعدها مقدم النشرة فيها ليسند خبر الانفجار لوكالة رويترز؟.

جلست كالمعتاد امام شاشة التلفاز متنقلا بين الفضائيات العراقية والعربية والاجنبية باحثا عن اي جديدة للحروب والصراعات التي لا تزل تشتعل في روح وجسد الوطن، وفي ظل هذا الجو التلفازي رن هاتفي الذكي يؤكد لي ان احد اصدقائي في العالم الافتراضي قام بالنشر في موقع الفيس بوك، وبسرعة فتحت الهاتف واذا بالصديق كتب متسائلا "اربع تفجيرات في منطقة بغداد الجديدة لحد الان، التفجيرات نسمعها منذ نصف ساعة ووكالات الانباء خارج التغطية، فعلا لدينا في العراق اسرع وكالات انباء" (هنا يقصد وكالات الانباء والمؤسسات الاعلامية العراقية). اثارني هذا الخبر فعدت من جديد اتنقل بين نفس القنوات التي شاهدتها قبل لحظات للبحث عن هذه المعلومات ولم اجد اي خبر عن الحادثة وبعد توالي الاخبار الفيسبوكية وبعد ان صعد مؤشر الاشعارات بمنشورات تحدثت عن تفجيرات واحتجاز رهائن، جاء الخبر العاجل في التلفزيون!، ولا اعرف اي قيمة لهذا العاجل، فما نعرفه عن الخبر العاجل هو الجدة والانية وفي خبرنا هذا فقد قيمتي الجدة والانية معا بعد ان اختلطت المعلومات بالشائعات وانتشرت التعليقات والإعجابات والتساؤلات.

هذه الحادثة جعلتني ارجع قليلا الى الوراء، فكثيرا ما تدور المناقشات في كليات الاعلام حول دور التلفزيون في نقل الاخبار لحظة وقوعها بل اصبح هو الحدث نفسه بحسب وصف استاذ الاعلام الدكتور فاروق ابو زيد في كتابه الرائع "الخبر الصحفي"، فيما يقول باحثون اخرون ان دور التلفزيون قد يتلاشى بعد اجتياح مواقع التواصل الاجتماعي لسوق الاخبار، وهي وجهة نظر منطقية وواقعية ايضا.

فبعد ان كانت احاديث الناس تسند في اغلبها للتلفزيون وما يدور فيه من احداث درامية او واقعية مثل نشرات الاخبار والمساجلات السياسية؛ اصبح اغلب حديث الناس عما يدور في مواقع التواصل الاجتماعي فكثيرا ما نسمع في المجالس وفي السوق ومختلف الاماكن العامة احاديث الناس عن مشاهداتهم في الفيس بوك ومنشورات فلان وتعليق فلان، حتى ان بعض الحملات السياسية وغير السياسية اصبحت تنظم وتدار من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.

اعلان خبر تفجيرات بغداد الجديدة في الفيس بوك قبل التلفزيون يؤكد حقيقتين اساسيتين وهما: الاولى ان مواقع التواصل الاجتماعي اصبحت منافسا اخباريا حقيقيا للمؤسسات التقليدية كالإذاعة والتلفزيون وغيرها.

والحقيقة الثانية هي ان المؤسسات الاعلامية العراقية لا زالت تغني خارج السرب، بل انها لا تريد الدخول الى السرب اصلا فهي غير معنية بذلك باتكالها على وكالات الانباء الكبرى وهي لا تدري في الاصل لماذا يتم التركيز على هذا الحدث ولا يتم ابراز ذلك الحدث، اضف الى ذلك ان المؤسسات الاعلامية العراقية لم تجتاز بعد عصر مراهقتها حتى اجتاحتها مواقع التواصل الاجتماعي.

وبما اننا نعيش اليوم حربا شرسة ضد عصابات داعش الارهابية، وهذه الحرب يتفق اغلب المختصين في المجالين الامني والاعلامي على ان ساحتها الاكبر هي الفضاء الاعلامي المفتوح؛ فإننا بحاجة ماسة الى مراجعة جذرية لأساليب الانتاج الاعلامي من اجل اللحاق بركب الفضاءات الاعلامية التقليدية والافتراضية.

ففي مجال الاعلام التقليدي تتضح اهمية توفير بيئة صالحة للحوار والنقد البناء وان تركز على ايصال المعلومة الصادقة وبأسرع ما يمكن، فحرب داعش تعتمد على اسلوب الصدمة الاولى وقد شهدنا كيف تم تحويل الأنظار من الانتصار في الرمادي الى نكسة امنية في بغداد وديالى وهذا كل ما تحتاجه داعش.

ونؤكد على ضرورة نقل الخبر بمصداقية ودون حذف او تجاهل لأي حادث مهما كان نوعه، والجميع يعرف ان مؤسساتنا الاعلامية تحاول التعتيم على بعض الاحداث الامنية وهو اسلوب لا ينجح في المجتمعات المغلقة فكيف يمكن ان يعطي ثماره في مجتمع مفتوح على جميع الثقافات والفضاءات الاعلامية، فضلا عن ذلك فان التعتيم الاعلامي يعطي الطرف المقابل حرية تفسير الحدث على مقاساته الخاصة ومن ثم يصبح جمهورنا فريسة سهلة لوسائل الاعلام المضادة والمتعاطفة مع العدو الداعشي.

اما في مجال العالم الافتراضي التي تكاد تكون حصتنا فيها صفرا فالحاجة اكبر؛ إذ يتوجب على مؤسساتنا الاعلامية الدخول في هذا العالم الفسيح الذي اثبت فاعلية فاقت التوقعات وابهرت الجمهور بميزاته الكثيرة مثل سهولة استخدامه وقلة تكاليفه وسرعته في نقل الاحداث، وهذا ما اكتشفته داعش وغيرها من الجماعات الارهابية التي باتت تسيطر على جزء كبير من مواقع التواصل الاجتماعي وبشهادة الكثير من المختصين، ما جعلها تنجح في تسويق خطاب اعلامي اقل ما يقال عنه انه خطاب دموي.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق