q

عاشت طرابلس في عهد دولة بني عمار الشيعية عصراً ذهبياً لم تعهد له مثيلاً على مدى تاريخها الطويل فأصبحت في القرن الحادي عشر أعظم مدينة على طول الساحل الشرقي للبحر المتوسط تحفها أساطيلها التي كانت تتنقل في البحر المتوسط وتستقر على سواحلها كأروع ما تشمخ به مدينة تعيش أروع أدوارها الفكرية والحضارية.

توالت على هذه المدينة العريقة في تاريخها العديد من الدول فطرابلس القديمة والتي هي الآن في موضع يسمى بـ (الميناء) كانت مدينة عظيمة أنشأها الفينيقيون وأقدم ما عرف من تاريخها يعود إلى سنة (359) قبل الميلاد حيث كانت خاضعة في ذلك العصر للحكم الفارسي وكانت تتألف من ثلاثة أحياء تمثل المدن الفينيقية وهي (صور وصيدا وأرواد) ثم احتلتها جيوش الإسكندر ثم الرومان قبل دخول الجيوش الإسلامية إليها وإلى بلاد الشام.

بقيت طرابلس في نطاق المدن الشامية حتى عهد أحمد بن طولون فوقعت تحت سيطرة الخلافة العباسية في بغداد ولكن الإخشيديين استعادوها وضموها إلى نفوذ حكمهم في مصر في عهد محمد بن طغج الإخشيدي ثم آلت مع باقي المدن إلى حكم الفاطميين عندما اعتلوا الحكم ففصلوها عن دمشق وأصبحت تابعة للخلافة الفاطمية في القاهرة.

وفي عهد الفاطميين ازدهرت طرابلس وأصبحت مدينة عظيمة و(بلغت شأناً رفيعاً) كما يصفها الإصطخري في كتابه (الممالك والمسالك) والمقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) كما وصفها الرحالة ناصر خسرو بأنها (مدينة شيعية) وبقيت طرابلس تابعة للخلافة الفاطمية حتى استقل بها بنوا عمار وهم أسرة شيعية اثني عشرية تنتمي إلى قبيلة (كتامة) المغربية الأفريقية التي كان لها دور كبير في قيام الدولة الفاطمية فتولى رجالها مراكز قيادية مهمة في مصر والشام.

أسس هذه الدولة أبو طالب الحسن بن عمار الذي لقب بـ (أمين الدولة) والذي كان قاضياً عليها من قبل الفاطميين فاستقل بها عام (462هـ/1070م) وهي بداية دولة بني عمار وتولي مؤسسها الحكم غير أن علاقة هذه الأسرة بطرابلس تعود إلى ما قبل هذا التاريخ فقد عرفت طرابلس الشام كما يطلق عليها اسم (أبو محمد الحسن بن عمار) جد هذه الأسرة والذي ظهر كشخصية بارزة فيها عام (381هـ) أيام الخليفة الفاطمي (العزيز بالله) وقد مهد الحسن بن عمار السبل لانتقال أفراد أسرته إلى الشام فوجه (أبو تميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي) إلى دمشق فقام هذا الأخير بتولية أخيه (علي بن جعفر بن فلاح الكتامي) على طرابلس عام (386هـ) وهي السنة التي توفي فيها الحسن بن عمار والملاحظ أن هذه الأسرة تعتز كثيراً باسم عمار حتى يكاد الدارس لها يقع في الإشتباه بين الأسماء لولا الكنية التي تميز بينهم، فمن أعلامهم الذين برزوا قبل قيام دولتهم ممن تولى القضاء في طرابلس (أبو الكتائب أحمد بن محمد بن عمار) الذي كان معاصرا للعالم الجليل أبي الفتح الكراجكي وقد ألف له الأخير كتاب (عدة البصير في حج يوم الغدير).

ولا يعرف على وجه التحديد ظروف انتقال بني عمار إلى الشام ولا الأسباب التي ادت إلى انتقالهم إليها غير أن هناك روايات تشير إلى أن مؤامرات حيكت ضدهم من قبل حاشية البلاط من الديالمة والأتراك فأدت إلى التقليل من شأنهم والحط من قدرهم لدى الفاطميين فكان ذلك وراء هجرتهم تدريجياً ومما يؤكد ذلك هو موقف بني عمار المحايد من الصراع بين الفاطميين والسلاجقة وهذا الموقف كان غريبا عليهم فقد كانوا من أشد الجنود إخلاصا للفاطميين والذراع الضارب لهم في حروبهم.

حكم بنو عمار طرابلس لمدة أربعين سنة تقريبا (462 ـ 502هـ/1070 ـ 1109م) وامتدت حدود دولتهم من بيروت وحتى أنطاكية وأول من تولى حكمها هو أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار وهو من علماء الشيعة ألف الكثير من الكتب كما عرف بسداد الرأي ورجاحة العقل وقد أنشأ دار العلم ومما جاء في وصفه في تاريخ ناصر الدين بن الفرات المصري تحت عنوان (ذكر بعض أخبار طرابلس والشام) (ج8 ص76ـ77) من طبعة الدكتور قسطنطين زريق والدكتورة نجلاء عز الدين قوله: (ثم تغلب عليها قاضيها أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار ولم يزل بها إلى أن توفي في سنة أربع وستين وأربعمائة كما هو مذكور في ترجمته وكان ابن عمار هذا رجلاً عاقلاً فقيهاً سديد الرأي وكان شيعياً من فقهائهم وكانت له (دار العلم) بطرابلس فيها ما يزيد على مائة ألف كتاب وقفا).

إلى هنا تقف الحقيقة في قول ابن الفرات ثم ينسب لابن عمار ما ليس له ويلصق به ما ليس فيه فيقول ما نصه: (وهو ـ أي الحسن بن عمار ـ الذي صنف كتاب (ترويح الأرواح ومفتاح السرور والأفراح المنعوت بجراب الدولة).

وقبل أن نذكر صاحب هذا الكتاب الحقيقي لا بد أن ننوه إلى أن ابن الفرات نسي كلمة مصباح في بداية عنوان الكتاب فإن اسم الكتاب هو (مصباح ترويح الأرواح ومفتاح السرور والأفراح) والمنعوت بـ (جراب الدولة) كما ينبغي أن ننوّه إلى مضمون الكتاب لكي يقارن القارئ بين المؤلِف والمؤلَف فهذا الكتاب من كتب الفكاهة والهزل وقول الباطل فكيف يؤلفه (رجل عاقل فقيه متدين من العلماء) كما وصفه ابن الفرات نفسه؟

ولمعرفة صاحب هذا الكتاب نترك الحديث لياقوت الحموي حيث يقول في ترجمة الهازل الملقب بـ (جراب الدولة): (أحمد بن محمد جراب الدولة: هو أحمد بن محمد بن علوية من أهل سجستان ويكنى أبا العباس وكان طنبورياً أحد الظرفاء والطياب كان في أيام المقتدر وأدرك دولة بني بويه فلذلك سمى نفسه بـ (جراب الدولة) لأنهم كانوا يفتخرون بالتسمية في الدولة وكان يلقب بالريح وله أيضا كتاب (ترويح الأرواح ومفتاح السرور والأفراح) لم يصنف في فنه مثله اشتمالا على فنون الهزل والمضاحك).

وهنا تنبلج نصف الحقيقة حيث يبقى السؤال ما هو وجه العلاقة بين هذا الكتاب وابن عمار؟ وتتضح خيوط هذا الخلط في مقدمة ابن خلدون فصل (إن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها من أصلها) (ص98) حيث يقول: (وكذلك وجد بخط أحمد بن محمد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيام المأمون من جميع النواحي نقله من جراب الدولة: غلات السواد.. كسكر.. دور دجلة.. حلوان.. الأهواز.. فارس) ثم يفصل ابن خلدون ارتفاع الواردات لحكومة المأمون بأسرها.

وهنا نجد أن (جراب الدولة) هو اسم كتاب مهم بل من أهم الكتب الاقتصادية التي تهم الدولة الإسلامية من حيث الإلمام بهذا الجانب وهذا الكتاب هو من تأليف القاضي ابن عمار كما يقول الدكتور مصطفى جواد في بحث له حول دولة بني عمار: (وقد وجدنا من الغريب قول المؤرخ المصري ابن الفرات في ذكر أمين الدولة أبي طالب الحسن بن عمار: (وهو الذي صنف كتاب ترويح الأفراح ومفتاح السرور والأفراح المنعوت بجراب الدولة) أما أولاً: فلأن كتاب (ترويح الأرواح) من كتب الفكاهة والهزل والباطل وهذا قاضي وأمير وذو ديانة متينة وأما ثانياً: فلأن جراب الدولة عند المطلعين على التاريخ الإسلامي جاء في حالتين: أولاهما كونه لقباً للإنسان الذي ألف (ترويح الأرواح والأخرى كونه إسماً لكتاب ألفه القاضي ابن عمار المذكور في اقتصاديات الدولة الإسلامية وشؤونها الأخرى وقد أخذ ابن الفرات المصري اسم الكتاب الهزلي ولقب مؤلفه فجعلهما اسماً لكتاب القاضي ابن عمار وهذا من أشنع الغلط وأفظعه) والآن وضح الإلتباس وانكشفت الحقيقة في قول الدكتور المحقق الكبير مصطفى جواد.

ازدهرت طرابلس في عهد بني عمار ازدهاراً اقتصادياً وعلمياً وأدبياً لم تشهد له مثيلاً فقد اشتهرت في ذلك الوقت بصناعة الورق وكانت أساطيلها في حركة مستمرة تنقل منها وإليها البضائع المختلفة وقد تولى إمارتها أربعة أمراء هم أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار الذي حكم طرابلس لمدة سنتين (462 ـ 464هـ) ثم تولى بعده ابن أخيه جلال الدولة علي بن محمد بن عمار الذي استمر حكمه إلى عام (492هـ) ثم جاء بعده أخوه عمار بن محمد بن عمار المعروف بفخر الملك والملقب بذي السعدين وبقي حتى عام (501هـ) وأخيراً ابن عمه محمد بن الحسن بن عمار المعروف بذي المناقب قبل أن تسقط طرابلس بيد الصليبيين عام (502هـ/1109م).

ولكن طرابلس لم تكن لقمة سائغة للصليبيين فقد سجلت أروع صفحات المجد في حروبها معهم وخاصة في عهد فخر الملك عمار بن محمد بن عمار الذي لقب بملك الساحل فأنشأ اسطولاً حربياً لمقاتلة الصليبيين وخاض معهم معارك كبيرة رغم تفوق العدو بالعدة والعدد.

وقد زخرت التواريخ ببطولات هذا الأمير وسجلت له أسطراً من كفاحه ودفاعه عن بلاد المسلمين يقول ابن الأثير في تاريخه الجزء العاشر: (إن حملة ميرة بحرية خرجت من اللاذقية لإنجاد الصليبيين المحاصرين لطرابلس فأخرج إليهم فخر الملك أسطولاً فجرى بينه وبين القادمين قتال شديد ظفر فيه المسلمون بقطعة من الروم فأخذوها وأسروا من كان بها).

ومن صور البطولة التي سجلها له التاريخ موقفه عندما احتل الصليبيون مدينة (جبيل) فقد كان لهذا البطل موقف يجعله في مصاف أبطال التاريخ المعدودين يقول ابن الأثير: (وحين ملك (صنجيل) الفرنجي مدينة جبيل وأقام على طريق طرابلس حصنا مقابلها ومراصد لها خرج فخر الملك ومعه ثلاثمائة فارس من فرسان طرابلس الأشداء فأحرق ربضه ووقف صنجيل على بعض سقوفه المذهبة المحترقة ومعه جماعة فانخسف بهم ومرض ومات).

وكان لبطولات فخر الملك صدى واسع في البلاد فمدحه الشعراء ووثقوا أمجاده وانتصاراته المتلاحقة على الروم والدفاع عن بلاد المسلمين وأكثر من تغنى بهذه البطولات من الشعراء هو ابن الخياط (أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة التغلبي) المتوفى سنة (517هـ) والذي زخر ديوانه بمدائح بني عمار وكان منها رائعته التي يقول في مطلعها:

أعطى الشباب من الآراب ما طلبا *** وراح يختال في ثوبي هوى وصبا

وقد بقي ابن عمار خمس سنين يقاتل الصليبيين ولما رأى أن أعدادهم تتزايد وخطرهم يستفحل ذهب إلى بغداد يطلب الإمدادات من السلاجقة لكنهم خذلوه فرجع يقاتل الروم حتى سقوط طرابلس.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق