q

وَسَيَعْلَمُ مَنْ بَوَّأَكَ وَمَكَّنَكَ!

المُلاحظ في خطابات أهل بيت النبّوة والرّسالة والإمامة، أهل البيت عليهم السلام، ما يلي؛

الف؛ لم ينجرّ الى الواقع المر ابداً وانّما يسعى لانتشالهِ وتنميته والارتفاع به، قد يسمِّيه ويعترف به، ولكنّهُ ابداً لم يستسلم له.

باء؛ لم ينشغل بالتّوافه من الامورِ وانّما همُّهُ الاستراتيجيات، البحثُ فيها والتّنبيه اليها والدّعوة لها.

جيم؛ نظرتُهُ مستقبليّة دائماً وهو يمرُّ على الماضي كمدرسةٍ يذكّر بها الامّة ليعلّمها بها لتكرّر الصّحيح وتتجنّب الخطأ.

دال؛ وأخيراً، فهو يُعالج الأسس ولا يكتفي بوصف الواقع.

هذا النّوع من الخطاب يستمدّ قوّتهُ وشرعيّتهُ وأصالتهُ

من القران الكريم، كما في قوله تعالى {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ* وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ* فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ* وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ

اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ* تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

ولقد جاء سياق الخطاب الزّينبي متوازياً مع هذا الخطاب القرآني عندما خاطبت الطّاغية يزيد في مجلسهِ بقولها عليها السلام {وَسَيعلَمُ مَنْ بَوَّأَكَ وَمَكَّنكَ مِنْ رِقابِ المسلمينَ أن بِئْسَ للظّالمينَ بَدلاً، وأَيُّكُم شَرٌّ مكاناً واضلُّ سَبيلاً}.

انّهُ الخطاب الرّسالي الذي يهتدي لعواقب الامورِ قبل ان يفكّر بحاضرها، ويهتدي الى النّهايات قبل ان يطمع بالعاجلِ من النّتائج، وصدق امير المؤمنين (ع) الذي أوصى بقوله {الْعَمَلَ الْعَمَلَ، ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ، وَالاسْتَقَامَةَ الاسْتِقَامَةَ، ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ، وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ! إنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إلى نِهَايَتِكُمْ، وَإنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ، وَإنَّ لِلاْسْلاَمِ غَايَةً فانْتَهُوا إلى غَايَتِهِ} ولذلك فان الّذين يفرحونَ بما كسبوا عاجلاً نسُوا انّ ذلك ليس نهاية النّطاق ابداً كما انّهُ ليس نهاية العالَم، بل انَّ لهذا اليومِ الذي يعيشهُ الانسان يومٌ آخَرَ بعدهُ، ولو انّ مَن استخلفهُ الله تعالى في السّلطة في بغداد بعد ان أَهلك الطّاغية الذليل صدام حسين ونظامه البوليسي الشّمولي بهذه الطّريقة وتذكّروا ان الاعمال بخواتيمِها وانّ الْيَوْمَ له ما بعده، لما مارسوا كلّ هذا الفساد المالي والاداري وأضاعوا الفُرص على العراقيّين وضيّعوا مستقبل ابناءهم عندما استأثروا بكلِّ شَيْءٍ من اجل ابنائهم وأنسابهم وأقربائهم وأُسرهم ومحازبيهم وزبانيتهم، خاصّة أولئك الذين ينحدرونَ من تاريخٍ جهاديٍّ عريق سِمَتُهُ الدّين والتديّن وهويّتهُ منبر الحسين (ع) والانتماء للمرجعيّة الدّينية ودماء الشّهداء الابرار وآهات الثّكالى وأنين الأيتام وحسَرات الآباء والامّهات الذين ماتوا قبل ان يرَوا صنعَ الله تعالى بالطّاغية الذّليل!.

انّ ايّ خطابٍ لا يأخذ بنظر الاعتبار المواصفات التي صدرنا بها هذا المقال ليس بخطاب رسالي ابداً بغضّ النظر عن هويتهُ وعنوانهُ وشعاراتهُ، فالخطاب الذي يشغل النّاس بالتّوافه من الامور ويتداول التّوافه من الأخبار التي منشأها عادةً أعداءنا من أيتام الطّاغية مثلاً او الاٍرهابيّين، وان الخطاب المشغول ليلَ نهار بعملية الاستنساخ واللّصق حتى قبل ان يقرأ المحتوى ويفكّر بالرّسالة التي يُرِيدُ ايصالها للرّاي العام عبر تمريرها من خلالنا، انّ هذا الخطاب أخطر بكثير جداً من الخطاب الإرهابي ورسائلهِ، لانّه يصلنا من (ثُقاة) ونتداولهُ على أيدينا ولذلك نسلّم به من دون ايّ نقاش ونعتمدهُ بلا ايِّ شكٍّ او ريبةٍ.

وا أَسفاهُ على أنفسِنا، وا أَسفاهُ على عقولِنا، وا أَسفاهُ على وعيِنا، وا أَسفاهُ على طريقة تفكيرِنا، فلقد باتَ ما يصلنا عبر وسائل التّواصل الاجتماعي ومجموعاتِها المنتشرة في صفوفنا هي (القرآن) الجديد الذي نسلّم لآياتهِ فنتعبّد برسائله فنستشهد بها ونتناولها ونبني عليها وعينا ومسلّماتنا بلا نقاشٍ او رويَّةٍ او توقُّفٍ او تثبُّتٍ أَبداً.

لقد وصفَ امير المؤمنين عليه السلام الخطاب الرّسالي بجملتَين رائعتَين هما الأساس الذي يجب ان نبني عليه خطابنا اليوم، يقول عليه السلام {إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ هُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى بَاطِنِ الدُّنْيَا إِذَا نَظَرَ النَّاسُ إِلَى ظَاهِرِهَا، وَاشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إِذَا آشْتَغَلَ النَّاسُ بِعَاجِلِهَا}.

خطابُنا يجب ان يعتمد على شيئَين أساسيَّين؛

الشيء الاول؛ النّظر الى باطن الامور وليس الى ظواهرها، فمن ينشغل بظواهرِ الامور سيتعب ويستهلك نَفْسَهُ قبل ان يصلَ الى ايّةِ نتيجة، فالأمور لا يمكن إصلاحها والحياة لا تنمو وتتطوّر اذا انشغل الانسان بظواهرِ الامور، اذ سيبقى في دوّامةٍ يدور في حلقةٍ مفرّغةٍ، وهو حالنا اليوم للاسف الشّديد فلذلك ترانا مشغولون بصراعاتٍ جانبيّةٍ نُناقش أتفه الأشياء ونُجادل في أتفه الامورِ، نجلد ذاتنا ونطعن أنفسنا بظهورنا! وكلُّ واحدٍ منّا يتصوّر انّهُ يحقق فتحاً مُبيناً في ذلك وهو لا يدري انّهُ مشغولٌ بنفسهِ يُعالجها والعالم يسير ويتقدَّم بعيداً عنه.

الشيء الثاني؛ النّظر الى المستقبل وعدم الانشغال بعاجلِ الامور، فما نراهُ اللّحظة سيكون تاريخاً بعد لحظةٍ من الزّمن، فإلى متى نظلّ نعيش اللّحظة من دون ان ننظر الى المستقبل لنفكّر كيف نبنيه وكيف نقدمهُ شيئاً جديداً للاجيال القادمة؟!.

لنسمعَ ماذا أوصى امير المؤمنين عليه السلام ابنه محمد بن الحنفيّة عندما أعطاهُ الرّاية في يَوْمِ صفّين، يقول له عليه السلام؛

تَزُولُ الجِبَالُ وَلاَ تَزُلْ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ، أَعِرِ اللهَ جُمجُمَتَكَ، تِدْ في الاَْرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى القَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ.

فأنت الذي تدّعي انّك تحمل اليوم راية الحسين (ع) راية الكرامة الانسانيّة، كيف تجيزُ لنفسِك ان تنشغلَ بالتّوافهِ من الامور؟ وكيف تسمح لنفسِك ان تتردّد في إيمانك؟ وكيف تشكُّ في متبنّياتك واهدافِك لكلمةٍ تسمعها او رأيٍ تقرأهُ؟ وكيف تسمح لنفسِك ان تكون ظهرهُم المركوب وضرعهُم المحلوب؟ وأَمير المؤمنين عليه السلام يقول {كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ، لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ، وَلاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ}؟.

كيف تسمح لنفسكَ ان تنشغلَ بصناعةِ طاغوتٍ او قائدٍ ضرورة او تدعو لعبادةِ شخصٍ او (عِجْلٍ) وانت ترى كلّ هذه التحدّيات العظيمة التي تنتظرك والتي تواجهها الامّة؟!.

الى متى ننشغل بانفسِنا أكثر بكثير من انشغالِنا بأهدافِنا المقدّسة؟ هل نَحْنُ مُنتبهون ما الذي نفعلهُ بانفسِنا؟ حربُ دعايات، تسقيط مُتبادل، شتائم وفضائح مُتبادلة، دعايات مشبوهة وأكاذيب مفبركة، هي الاخرى متبادلة! عمليّةُ جلدٍ للذّات مستمرّة دون توقّف!.

مشغولون بفلسفةِ الهزيمةِ والفشل وكلّ ما هو تافه من الامور والاشياء، وتركنا الاستراتيجيّات والاهداف الحقيقيّة والانجازات التّاريخية، التي خُلقنا من اجلها لنرثَ الارض، خلفَ ظهورنا!.

لو ننتبه لانفسِنا قليلاً لاكتشفنا انّ تسقيطنا لِبَعْضٍ أضعاف ما يفعلهُ عدوّنا بِنَا، فإلى متى؟!.

نَكذِبُ ونُصدِّق! نَكذِبُ ونستَغرِب!.

أَمِنَ الْعَدْلِ؟!

هل كانت عقيلة الهاشميّين (ع) تتوقع من الطّاغية يزيد ان يُعاملها بالعدلِ عندما خاطبتهُ في مجلسهِ قائلةً {أَمِن العدلِ يا ابن الطُّلقاء، تخديرك حرائرك وامائك، وسوقك بناتِ رسول الله سبايا، قد هُتكت ستورهنَّ، وأُبْديت وجوههنَّ، تحدو بهنَّ الأعداء من بلدٍ الى بلدٍ، ويستشرفهنَّ أهل المناهلِ والمعاقلِ، ويتصفّح وجوههنَّ القريب والبعيد، والدني والشّريف، ليس معهنَّ من حُماتهنَّ حميٌّ ولا من رجالهنَّ وَلِيّ}؟.

هل كانت تستجدي مِنْهُ العدل؟!.

هل كانت تنتظر منه ان يعدِلَ في طريقة تعاملهِ مع الرّعيّة بين حرائر النبوّة والرّسالة والإمامة وبين نساء القصر الأموي؟!.

كلا، بالتأكيد كلا، فهي لم تنتظر من حاكمٍ ظالمٍ أَرعن مهووس بحبّ السّلطة، قاتل النّفس المحترمة لاعب بالقرودِ، نزا على منبر رسول الله (ص) بالعنف والارهاب والعدوان، وبالبدعةِ والتّضليل ان يكونَ عادلاً مع أحدٍ ابداً.

فلماذا، إذن، خاطبتهُ بمفهوم (العدل) وكأنها كانت تنتظر منه ان يعدِل في تعاملهِ معها ومع بقيّة أَسرى أهل البيت عليهم السلام بعد واقعة عاشوراء؟!.

اذا تتبّعنا آيات القرآن الكريم ومنهج أهل البيت عليهم السلام فسيتّضح لنا انّ العدل هو محور كلّ شيء وبه تستقيم الحياة ومنها السّلطة والحكم والخلافة وعكسهُ الظّلم الذي هو أساس تدمير الحياة وكل ما يتعلق بها.

فلقد جاء هذا المفهوم في قوله تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} لانّ {اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

والعدل لا يتعلّق بالدّين والمذهب والقومية، فهو أساسٌ عام من حقّ الانسان كإنسانٍ ان يتمتّع به ويعيش حياته في ظلّهِ، ولذلك قيل [يدومُ الحكمُ مع الكفرِ ولا يدومُ مع الظّلمِ] ولهذا السّبب ذهب العلماء والفقهاء الى القول بانّ [الحاكم الكافر العادل أفضل من الحاكم الظّالم المؤمن].

ولقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام الى هذا المعنى بقوله {فَإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الاَْجَلَ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيءُ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر} في إشارةٍ الى انّ الأصل الذي ينبغي التطلّع اليه هو العدل من الحاكم، وليس هويَّتهُ ابداً، ولذلك فعندما خاطبت العقيلة (ع) الطّاغية بمفهوم (العدل) انّما فضحته وأصابت شرعيّة سلطتهُ في مقتل، وكأنّها ارادت القول الى الذين لا يُعيرون لدينِ الحاكمِ اهتماماً ولا لسلوكهِ الشّخصي ولا لأيِّ شيء آخر من هذا القبيل، فانّ عليهم على الأقل ان ينتبهوا الى سيرتهِ في الرّعيّة وفيما اذا كان عادلاً او ظالماً؟ فاذا لم يكن عادلاً في رعيّتهِ لم يبقَ من شرعيّتهِ ايَّ شَيْءٍ يعتدُّ به، حتّى دينه، فلماذا، إذن، تقبل به الرّعيّة وتمنحهُ حقّ الخلافة والحكم والسّلطة على رقاب النّاس؟!.

ذات المنهج أكّد عليه الامام الحسين عليه السلام عندما لقي الحرّ بن يزيد الرياحي الذي جاء على رأس قوَّةٍ من الخيّالة تقدّر بألفِ فارسٍ، فقد خطب فيهم الامام (ع) قائِلاً {امّا بعدُ، أيّها النّاس: فانّكم إِنْ تتّقوا الله وتعرِفوا الحقّ لأهلهِ يكن أرضى لله، وَنَحْنُ أهل البيت أولى بولايةِ هذا الأمرِ عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليسَ لهم، والسّائرين فيكم بالجور والعُدوان} في إشارةٍ الى انّ الرفض الحسيني للبيعة للطاغية يزيد قائمة على أساس رفض الظُّلم والجَور الذي اعتمدهُ النّظام الأموي كقاعدةٍ أساسيَّةٍ لتثبيت الحكم والسّلطة.

وصدق امير المؤمنين (ع) الذي قال {فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ!}.

تأسيساً على هذا المفهوم العميق لشرعيّة السّلطة التي لا تكتسبها من شيء اكتسابها من العدل تحديداً، فانّ العقيلة لم تقصد ابداً انّها كانت تنتظر ان يكون الطّاغية يزيد عادلاً معها، وانّما ارادت ان تلفت نظر الحاضرين الى حقيقة انَّ العدل هو المحور فاذا تحطّم وحلّ محلَّهُ الظّلم والجور والعدوان فلم يبق من السّلطة وشرعيّتها شيءٌ ترتجى لهُ ابداً.

وهو حالنا اليوم في بلادنا، فقد يتصور بَعضنا ان هويّة السّلطة وحدها تكفي لتكتسب بها الشّرعية المطلوبة ولذلك ينبغي الدّفاع عنها والتمسّك بها والقتال من أجلها ديمومتها.

فيما يظنّ البعض ان صندوق الاقتراع كافٍ لإضفاء الشرعيّة للسلطة التي تنبثق عنه وللحاكم الذي يتسنّم مقاليدها، او انَّ الهويّة الحزبيّة تمنح السّلطة الشّرعية المطلوبة!.

ابداً، انّ الهويّة في الحقيقة لا تمنح شرعية لاحدٍ وهي لا تسلب شرعيةً من أحدٍ كذلك، فكم من حاكمٍ (مسلمٍ) ظلم شعبهُ أشدَّ الظّلم حتى حطم شخصيتهُ ودمّر بلدهُ كما فعل الطّاغية الذليل صدّام حسين مثلاً في العراق وعلى مدى (٣٥) عاماً عجاف، او كما فعل كلّ الطّغاة الذين حكموا بلاد المسلمين على مرّ التاريخ والى اليوم.

ولعلّ في نموذج نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربية والذي يذرّ الرّماد في عيون المغفّلين بإقامة الحدود (الشّرعية المزعومة) او باتّخاذه الأسماء والمسمّيات (الدِّينِيَّة) التي يُضلّل بها الرّاي العام العربي والإسلامي المغفّل والسّاذج، خيرُ دليلٍ على ذلك.

إذن، الهوية ليست أساساً لشرعيّة السّلطة، ايّة سلطة، ابداً، وانّما الأساس هو العدل، فاذا عدَلَت السّلطة اكتسبت الشّرعية حتى اذا كانت كافرة والعكس هو الصّحيح فاذا مارست الظُّلم والجور والقهر والعبوديّة مع الرّعيّة فإنّها تفقد شرعيّتها مهما رفعت من شعارات وتلفّعت بأزياء ومارست من شعائر وطقوس، دينيَّةً كانت او مذهبيّة!.

زينب بنت علي (ع) لم تنتظر من الطّاغية ان يعدل معها في التّعامل كأسرى، الا ان الشعب العراقي انتظر ممّن استخلفهمُ الله تعالى في السّلطة بعد هلاكِ الطّاغية الذليل ونظامه ان يتعاملوا معه بعدلٍ وانصافٍ ومروءة، بعد سنيِّ القهر والظّلم، على اعتبار ان المستخلَفين ضحايا الظّلم والقهر فليس من المعقول انّهم يُمارسون معهُ نفس سياسات الظّالم، خاصة (قادة) التيّار الديني المُشبعون بثقافة (القرآن والدين ونهج امير المؤمنين) والذي يُمسك بالسّلطة منذ سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام ٢٠٠٣ ولحدّ الان، فلقد ظنّ العراقيّون انّ شعاراتهم (الدّينية) صادقة وان أزياءهم (الدّينية) صادقة وان خطاباتهم (الدّينية) صادقة وان عروضَهم (الدّينية) صادقة ولذلك تصوّروا بأنهم سيكونوا اكثر عدلاً معهم من غيرهم! وانّ العراق سينعم بالعدل وبالدّولة (الكريمة) التي يردّدون صفاتها في ليالي رمضان المبارك من كلّ عام في معرض دعاء الافتتاح! اذا بكلّ هذه التصوّرات واخواتها تتحوَّل الى طحينٍ تذروهُ الرّياح فاذا هي أَحلامٌ يعيشها العراقيون بلا أملٍ!.

انّ الخطاب الزّينبي يعلّمنا انّ شرعيّة السّلطة بالعدل وليس بالهويّة، ولذلك ينبغي علينا ان لا ننشغل كثيراً بالدّفاع عن هوية السّلطة وانّما عن عدلِها اذا كانت عادلة، والا فينبغي اسقاطها واستبدالها اذا كانت ظالمة.

انّهُ يعلّمنا ان لا فرق بين يزيد الذي ميّز نساء القصر عن نساء الامّة، وبين ايِّ حاكمٍ آخر يفعل الشيء نَفْسَهُ، شيعياً كان ام سنياً، عربياً كان ام كردياً، اسلامياً كان ام ليبرالياً، فالتمييز الذي يعتمدهُ الحاكم كسياسةٍ عامَّةٍ في الدّولة ظلمٌ وجورٌ، بغضّ النظر عن الهوية، وهو يلثم شرعيتهُ ويطعن فيها.

المغفّلون وحدهم الذين يُدافعون عن هويّة السّلطة، امّا الواعون فيُدافعون عن عدلِها فقط بغضّ النّظر عن الهويّة!.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق