q

إن من يتابع حركة مقاطعة إسرائيل في العالم سيلاحظ أنها ترتفع بشكل تصاعدي في مجالين مهمين بالنسبة للكيان الصهيوني، وهما قطاعا الاقتصاد والثقافة، إذ بنت إسرائيل وجودها على ثلاثة ركائز أساسية هي العلم والإعلام والمال، وكلها تندرج ضمن قطاعي الاقتصاد والثقافة، مما يعني أن المقاطعة ناجحة حين تهتز قواعد الكيان الصهيوني.

وبالرغم من أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو المتطرفة، تواصل ممارساتها الإجرامية البشعة في حق الفلسطينيين، سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية المحتلة، بما في ذلك الاستمرار في عمليات الاستيطان بالقدس الشرقية، التي تعد جزءا من الضفة الغربية التي احتلتها إسرائيل عام 1967، إلا أن الكنيست ـ البرلمان ـ الإسرائيلي والحكومة والكثير من المؤسسات الإسرائيلية بدأت تشعر بقلق متزايد وملحوظ في الآونة الأخيرة، وذلك حيال الدعوات المتصاعدة لمقاطعة إسرائيل، وفضح ممارساتها التي تتسم بالعنصرية ضد الفلسطينيين.

ومع الوضع في الاعتبار أن الدعوة لمقاطعة إسرائيل، علمياً وثقافياً وأكاديمياً، بدأت قبل سنوات في عدد من الجامعات الغربية، إلا أن هذه الدعوة تتزايد ويتسع نطاقها الآن، بشكل ملموس في الأوساط الأكاديمية والثقافية الغربية. ففي لندن، قرر نحو 340 أستاذاً جامعياً يعملون في أكثر من سبعين جامعة بريطانية مقاطعة الجامعات والمؤتمرات التي تنظمها إسرائيل احتجاجاً على انتهاكاتها غير المقبولة لحقوق الإنسان بحق الشعب الفلسطيني. وكتب 343 أستاذاً جامعياً في رسالة مفتوحة، نشرتها صحيفة الغارديان، كباحثين مشاركين في جامعات بريطانية نحن قلقون جداً من الاحتلال الإسرائيلي غير المشروع للأراضي الفلسطينية والانتهاكات غير المقبولة لحقوق الإنسان بحق الشعب الفلسطيني ومقاومة إسرائيل لأي تسوية. وأضاف الأكاديميون، الذين ينتمي بعضهم إلى جامعات بريطانية عريقة كأوكسفورد وكامبريدج ولندن سكول أوف إيكونوميك ويونيفرستي كوليدج لندن: تلبية لدعوة المجتمع المدني الفلسطيني، نعلن أننا لن نقبل دعوات من أي مؤسسة تربوية إسرائيلية، ولن نشارك في مؤتمرات تموّلها وتنظمها وترعاها هذه الجامعات.

وفي وقت سابق وقع 400 بروفيسور أميركي على بيان مشترك، أعلنوا فيه عن مقاطعتهم للجامعات والمعاهد الصهيونية. الأهم ما جاء في بيانهم (نورد بعض مما جاء فيه): الإقرار بأن المجتمع الدولي لا يحاسب إسرائيل، لدينا مسؤولية أخلاقية لاعتبار حكوماتنا وإسرائيل مسؤولة عن الجرائم ضد المجتمع المدني الفلسطيني. الحصار الإسرائيلي للقطاع غير قانوني، إسرائيل تمارس التمييز العنصري ضد الطلبة الفلسطينيين في الجامعات والمعاهد الإسرائيلية، نعبر عن قلقنا من التاريخ الطويل لإسرائيل في مصادرة المخطوطات الفلسطينية، تواطؤ المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية مع الاحتلال واضطهاد الفلسطينيين، من هذه المؤسسات: جامعة بن غوريون، الجامعة العبرية، جامعة بار إيلان، جامعة حيفا. جامعة بن غوريون عبرت عن دعمها غير المشروط لجيش الدفاع الإسرائيلي، هناك تواطؤ بين المؤسسات الأكاديمية والجيش والأمن والسلطة السياسية في إسرائيل. كما أكد العلماء في بيانهم على: عدم التعاون والتدريس وحضور المؤتمرات والنشر في المجلات الأكاديمية في إسرائيل، وسيستمر ذلك حتى إنهاء هذه المؤسسات تواطئها في انتهاك الحقوق الفلسطينية المنصوص عليها في القانون الدولي، واحترام إسرائيل الكامل للحقوق الوطنية الفلسطينية بما في ذلك: حقوق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ممتلكاتهم وديارهم المنصوص عليها في قرار الأمم المتحدة رقم 194. أهمية القرار والبيان: أنهما صادران عن مؤسسات أكاديمية أميركية، حيث إسرائيل تعتبر الولايات المتحدة ملعبها الرئيسي، وساحة مقتصرة ومحجوزة على الدوام لها، كما أن أميركا هي الحليف الاستراتيجي الأول والأهم لها وللحركة الصهيونية عموماً.

لقد بدأت المقاطعة في عام 2005 حينما دعت مائة وإحدى وسبعون من منظمات المجتمع المدني في فلسطين المجتمع الدولي إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني. ومن بين آليات أخرى، دعت هذه المنظمات إلى مقاطعة المؤسسات الإسرائيلية المتواطئة مع الاحتلال ومن بينها الجامعة العبرية التي تقيم بصورة غير مشروعة أجزاء من حرمها في أراض محتلة. طولب المناصرون بنشر الوعي بافتقار الفلسطينيين إلى الحرية الأكاديمية ليس في الأراضي المحتلة وحدها بل وداخل حدود عام 1948 لدولة إسرائيل. فالوسط الأكاديمي الإسرائيلي لم يحفل كثيراً بالافتقار إلى هذه الحرية: ففي عام 2008 تم إرسال بيان بالنيابة عن الأكاديميين الفلسطينيين إلى تسعة آلاف أكاديمي إسرائيلي فلم يوقعه منهم إلا أربعمائة وسبعة فقط.

وإن من بين الأسباب التي دعت الأكاديميين في الغرب إلى المشاركة في حركة المقاطعة، تقديم الدعم للأكاديميين الفلسطينيين ذوي الأصوات المكبوتة. ففي عام 2006 قرر أعضاء الرابطة الوطنية للمعلمين، ورابطة أساتذة الجامعات البريطانية، مقاطعة إسرائيل أكاديمياً. نفس الخطوة اتخذتها الحكومة الإسبانية في عام 2009 ضد جامعة بار إيلان لأنها مقامة على أراضي الضفة الغربية، وجرى منعها من المشاركة في المرحلة النهائية للمسابقة الدولية بين كليات الهندسة المعمارية.

وليست الريادة في هذا الصدد للأكاديميين من الولايات المتحدة، فالمسألة أكثر تطوراً من ذلك بكثير في أوربا التي تقاتل الكليات فيها من أجل مقاطعة إسرائيل، والتي يتحرك فيها الاتحاد الأوربي إلى وضع تصنيف خاص لمنتجات المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية، لكن الأكاديميين في الولايات المتحدة لهم مهمة خاصة بما أنهم يدركون أن المؤسسات الإسرائيلية التي تستفيد من الاحتلال إنما تستفيد منه وهي محصنة بضمان تمويل أمريكي ودعم من الولايات المتحدة في المجالات العسكرية والدبلوماسية وغيرهما، فلو أن الولايات المتحدة تضمن احتلال إسرائيل للأنفس الفلسطينية، فالدارسون في الولايات المتحدة مسئولون عن تأييد مساءلة هذا الدعم.

نعم. لقد بدأت تتكاثر المؤسسات الأكاديمية والإقليمية والشركات والمؤسسات الأوروبية التي تعلن مقاطعتها لإسرائيل في دول عديدة من الصعب إيرادها كلها في مقالتنا هذه. ومن الأهمية بمكان أن جرس الإنذار هذا لا يمكن لإسرائيل أن تتهم القائمين عليه بأنهم معادون للسامية، أو أنهم معادون لإسرائيل بوجه خاص، وهي التهمة الإسرائيلية الجاهزة في مواجهة أية دعوة تنتصر للحق الفلسطيني والعربي، أو تدعو إسرائيل إلى الالتزام بقواعد القانون الدولي، واتفاقيات جنيف الأربع التي تنظم العلاقة بين قوة الاحتلال ومواطني الأراضي التي تحتلها، وذلك نظراً إلى أن هذه الدعوة يشارك فيها علماء وباحثون يهود، ومؤسسات كانت متعاطفة مع إسرائيل، ولا تناصبها العداء، ولكنها تريد ـ أي هذه الجامعات ـ أن تقوم إسرائيل بالالتزام بمبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي، وتجنب الممارسات التي تعيد إلى الأذهان ممارسات نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا، قبل إطلاق سراح المناضل الراحل نيلسون مانديلا.

ولعل ما يزيد من أهمية وتأثير الدعوة لمقاطعة إسرائيل علمياً وثقافياً وأكاديمياً، ويضاف إليها الآن الدعوة لمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية المصدرة إلى الاتحاد الأوروبي، أن هذه الدعوة ترتبط بشكل مباشر وتام بممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وبالتالي فإنه لا يمكن اتهام المنادين بها بأنهم موالون، أو مؤيدون للفلسطينيين والعرب، لأن المتهم والمدان هي الممارسات والسلوكيات الإسرائيلية، التي نفد صبر العالم حيالها.

هكذا تتقدم مشاريع مقاومة الاحتلال الاسرائيلي سلمياً في الغرب، أما على المستوى العربي، فللأسف أن الكثير من الدول العربية مشغولة اليوم بأشياء كثيرة لا علاقة لها إلا بتصفية الحقوق العربية وفي مقدمتها الحقوق الوطنية الفلسطينية. فورقة المقاطعة العربية لإسرائيل كانت السلاح الفعال الذي أوجعها لعقود طويلة، لكنها اليوم تحولت بفضل سياسات بعض الأعراب إلى سلاح لصالح الكيان العنصري من خلال فتح قنوات التطبيع معه بدلاً من مقاطعته.‏ والمفارقة المثيرة أن يحمل هذه الراية اليوم ويشهر هذا السلاح النشطاء الغربيون استجابة لنداءات اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل، ويبذلون الجهود لفضح الممارسات العنصرية الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة. ويتضح أن الأنظمة العربية لا تستطيع مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني، بسبب هيمنة اللوبي اليهودي على صانع القرار في البيت الأبيض، التي تفرض رأيها على العديد من الأنظمة في المنطقة، ولذلك فإن المقاومة الشعبية للتطبيع هي الخيار الأبقى والممكن والذي ثبت نجاحه في الغرب، والحقيقة أن مقاومة التطبيع باقية في ضمير الشعب العربي.

إن من أبرز وأدنى أساليب مقاومة العدو المحتلّ للأرض الفلسطينية والعربية، والمغتصب لإرادة البشر تحت الاحتلال، مقاومته وعدم التطبيع معه من الأمة العربية بكاملها، فقد حاولت إسرائيل التطبيع مع الشعب المصري... لكنه بوعيه أفشل التطبيع. إسرائيل حاولت وما تزال وبكل الوسائل اختراق كل شعوبنا العربية... لكن وعي أمتنا أفشل مخططاتها. وإن من الأهمية بمكان التركيز على خطوتين مهمتين من المفترض أن تنتبه إليهما السلطة الفلسطينية وعموم الفلسطينيين والعرب وكافة المنظمات والهيئات المعنية بذلك: الأولى: إن ظاهرة المقاطعة يتوجب أن تتكامل مع تعزيز النداءات والنشاطات المحلية لتعزيز المقاطعة فلسطينيًّا وعربيًّا ودوليًّا. وهنا فإن باستطاعة السلطة الفلسطينية أن تعزز هذا المجرى الذي يصب في نهج مقاطعة إسرائيل من خلال التركيز على المقاطعة، لا أن تنادي بعكس ما تقتضيه المقاطعة ( مثلما يحصل الآن).

الخطوة الثانية: إن نهج المفاوضات لا يتواءم مع الدعوة للمقاطعة، فمن الصعب بل من المستحيل أن يكون العالم ملكيًّا أكثر من الملك، السلطة تدعو إلى مقاطعة المستوطنات ومنتجاتها، لكنها في نهاية المطاف تتجاوب مع الدعوات لاستئناف المفاوضات رغم التجربة الطويلة من الفشل على مدى 21 عاماً. المطلوب هو الإعلان الرسمي الفلسطيني عن قطع المفاوضات نهائيا مع الكيان الصهيوني حتى اعترافه الكامل بالحقوق الوطنية الفلسطينية وفقاً لقرارات الشرعية الدولية، والدعوة لمؤتمر دولي على خلفية قرارات الأمم المتحدة حول الحقوق الفلسطينية. إن مثل هذا التناقض في القول والممارسة يلحق أفدح الأضرار بالدعوات للمقاطعة. لابد من الاستمرار بمزيد من التمسك بالمقاطعة العربية والإسلامية لإسرائيل، وقد بدأت هذه المقاطعة تخف تدريجياً للأسف، وبدأت بعض الدول العربية في التهرب تدريجياً من القرارات العربية، وهذا ما يلحق أفدح الضرر بالحملة الدولية للمقاطعة. وليكن الشعار العمل من أجل تعزيز المقاطعة، التي بدأت فعلياً تضايق الكيان وتؤثر عملياً عليه.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق