q
من معالم تيار المتظاهرين الجديد أنه "أعمى" ولا أقصد المعنى الشائع للعمى، بل إنه صاحب حاجة أعمى لا يرى غير قضائها، فهو لديه هدف محدد وواضح ولا يعرف بأي شكل سوف ينفذ وما تأثيره على مستقبل الاقتصاد العراقي وهل ستكون له انعكاسات سلبية على الأجيال اللاحقة؟...

هل انتبهنا لماذا تتعامل السلطة بقوة هائلة ضد المطالب السياسية، لكنها تسمح بالتظاهرات المطالبة بالخدمات وفرص العمل رغم أن كلاهما ينبع من حق في التظاهر والمطالبة بشيء معين؟ وهل انتبهنا لماذا تعالج المطالب المحقة بقرارات خاطئة؟ بمعنى تعالج المشكلة بفتح مشكلة جديدة؟

في العراق تولد الأشياء والظواهر بدون إعلان رسمي، فالبلاد أرض صالحة لزراعة كل شيء، كما هي أراضي قاتلة لكثير من النبتات المفيدة، إنها أرض بلا فلاح، ينبت فيها تيار سياسي أو اجتماعي جديد، ويموت آخر بفعل التدافع غير الطبيعي بين مكونات الشعب ومقدار القوة والضعف، ومن مميزات التدافع اعتماده على القوة بمختلف أشكالها.

ومن الظواهر الجديرة بالملاحظة رسوخ قناعة جديدة لدى أوساط الشعب العراقي بأن الحق يؤخذ بالتظاهر ونصب الخيم أمام مقرات الوزارات والمؤسسات الحكومية لمدة من الزمن، والضغط على السلطة بمختلف الوسائل السلمية لإجبارها على اتخاذ قرار معين لصالح المتظاهرين.

نتحدث هنا عن التظاهرات ذات المطالب المحددة بأهداف شخصية للمتظاهرين، مثل المطالبة بالتوظيف في قطاعات الدولة، وإنصاف الخريجين وإعادة المفصولين وغيرها من هذه التظاهرات التي أصبحت شائعة طوال الوقت.

من معالم تيار المتظاهرين الجديد أنه "أعمى" ولا أقصد المعنى الشائع للعمى، بل إنه صاحب حاجة أعمى لا يرى غير قضائها، فهو لديه هدف محدد وواضح ولا يعرف بأي شكل سوف ينفذ وما تأثيره على مستقبل الاقتصاد العراقي وهل ستكون له انعكاسات سلبية على الأجيال اللاحقة؟ حتى وإن كانت السفينة مثقوبة فهي أفضل من البقاء في شاطئ قاحل وقاتل.

التيار التظاهراتي يقول بأن المنظومة السلطوية الحاكمة استولت على كل شيء، ومن الظلم تحميلي أخطاء هذه المنظومة، اسمحوا لي بالركوب في سفينة السلطة، ودعوني اضمن لقمة عيشي، وبعدها تحدثوا عن فلسفاتكم الاقتصادية وتحليلاتكم الاستراتيجية.

باختصار، يقول كل من خرج بتظاهرات تطالب بالتوظيف وغيره من المطالب الحقة، الدولة لم توفر لي الظروف المناسبة للعيش، ومن واجبها إعالتي بوظيفة أو زيادة راتب.

لماذا ولد تيار المتظاهرين؟

أهم أسباب نشوء تيار المتظاهرين يمكن إيجازها في ثلاثة أسباب:

السبب الأول: فشل منظومة السلطة الحاكمة في إرساء قواعد عادلة للتعاطي مع فرص العمل والخدمات المقدمة للمواطنين، إذ لم يعد القانون هو معيار الفصل بين المواطنين ومختلف الفئات والشرائح، بل القوة والقرب أو البعد عن مراكز القرار، ومن ثم فإن من يريد الحصول على خدمة أو فرصة عمل، عليه ان يتدافع مع غيره من المتزاحمين عليها.

السبب الثاني: ضعف منظومة السلطة الحاكمة بشكل عام، وخوفها من أي تيار جديد لا سيما إذا كان نابعاً من شعور بالظلم والإجحاف، فكانت السلطة تحاول إسكات كل من يتظاهر عبر إعطائه ما يريد، والنتيجة أن الشعب بدأ يعرف بنقطة الضعف هذه، فكانت الخيمة التي تنصب في بوابة وزارة معينة تعني فرصة كبيرة لتحقيق مطلب صاحبها ليس لأنه صاحب حق فقط، إذ إن السلطة تعرف بحقه منذ سنوات، بل لأنه أصبح تهديداً لاستقرار النظام وأفضل طريقة للتخلص من صاحب الخيمة هو إعطائه ما يريد.

السبب الثالث: عدم وجود استراتيجية وطنية شاملة لحل المشكلات العالقة، فكل المشاريع والقرارات تتخذ على أساس المبادرات لا السياسات المبنية على استراتيجية بمدد زمنية محددة، والقوة الحاكمة لا تهتم بتأثير قرارات اليوم على ما يحدث مستقبلاً لذلك تجدها تلغي قرارات من سبقها، وتعيد السلطة الجديدة البناء مرة أخرى من جديد ولا تكمل ما بدأته سابقاتها.

متى يحل حزب المتظاهرين نفسه؟

يتشكل حزب أو تيار المتظاهرين ويحل نفسه بحسب الظرف السياسي، وغالباً ما يبدأ تشكيل تيار مطلبي تظاهراتي جديد بشعور لفئة اجتماعية معينة بالظلم من جهة، وبتضخم الفوائد لفئة أخرى من جهة ثانية.

قبل سنتين تقريباً ولد تيار جديد اسمه "حملة الشهادات العليا والخريجين الأوائل"، وتسبب بصداع كبير للسلطة، إلى أن أجبرت على تحقيق مطالبه بالتوظيف على وزارات الدولة خلال الشهور الماضية، ففرغت الساحات والشوارع من هؤلاء الخريجين.

وقبل ما يقرب من أربع سنوات ظهر تيار المحاضرين المجانيين في وزارة التربية، وإلى جوارهم أصحاب العقود في وزارات الدولة، وكادوا أن يخنقوا السلطة الحاكمة، وقد حلت مشكلتهم أيضاً مع حملة الشهادات والخريجين الأوائل.

قبل شهور انتهى كل النشاط الاحتجاجي لهذه الفئات وفتحت الشوارع ورفعت الخيم وهدأت مواقع التواصل الاجتماعي واندمجوا في كيان الموظفين الحكوميين المتضخم، واعتقدت السلطة أنها استقرت وأنهت كل شيء.

إلا أن استجابتها عجلت بولادة تيار جديد وهذه المرة من داخل كتلة الموظفين نفسها، وانطلاقته كانت في الأول من آيار الجاري، تظاهرات كبرى شملت عدة مدن عراقية من بينها العاصمة بغداد تطالب بإقرار سلم جديد لرواتب الموظفين لوجود شعور بالغبن وسوء توزيع الرواتب بين الموظفين.

وتزايدت المطالبات عبر مواقع التواصل الاجتماعي مساندة لإقرار سلم الرواتب الجديد، ونواب في البرلمان يتحدثون عن ظلم وإجحاف للموظفين، ووسائل إعلام رفعت راية الدفاع عن الموظفين المغبونين.

وحسب التجربة فلا يتوقع أن يعود المطالبين بسلم الرواتب الجديد إلا بعدما يحصلون على غايتهم، وفي ذلك الوقت سوف يضاف عبء جديد على كاهل الموازنة العامة للدولة، لأننا نعود لنفس المشكلة، هناك مطلب حق، إلا أن المعالجات خاطئة.

التيار يكبر بسرعة، والسلطة ضعيفة وستنحني للعاصفة كما انحنت سابقاً، ونخشى أنها سوف تحني ظهر الدولة معها هذه المرة لأن كثرة الانحناء قد تتسبب بالانكسار وتدمير جسد الاقتصاد العراقي.

اضف تعليق