q
نحن أمام العدل الصارم الذي يمحو الظلم والجور ويسحق الاستعباد ويشيع الفضيلة والرحمة والمواساة ويبسط الإيثار والمودة بين الناس فلا ظل في حكمه لأي قوى تعبث بالحياة أو تعيث فسادا في الأرض. نحن أمام العدل المنتظر الذي هو هبة الله ونعمته الكبرى على الناس والذي يملأ قلوب البؤساء...

(1)

نحن أمام أمل الإنسانية المعذبة التي فتكت بها الحروب ودمرتها أطماع المستعمرين فهي تتطلع إلى منقذها العظيم ليقيم فيها حكم الله تعالى الذي لا غنى فيه لأحد ولا استغلال ولا تميز لقوم آخرين.

نحن أمام العدل الصارم الذي يمحو الظلم والجور ويسحق الاستعباد ويشيع الفضيلة والرحمة والمواساة ويبسط الإيثار والمودة بين الناس فلا ظل في حكمه لأي قوى تعبث بالحياة أو تعيث فسادا في الأرض.

نحن أمام العدل المنتظر الذي هو هبة الله ونعمته الكبرى على الناس والذي يملأ قلوب البؤساء والمحرومين رجاء ورحمة ويوزع عليهم خيرات الله.

نحن أمام قائم آل محمد عليه السلام الثاني عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام الذي أعده الله تعالى لإصلاح العالم وتغيير مناهج الأنظمة الفاسدة السائدة فيه والتي هبطت بالإنسان إلى مستوى سحيق ما له من قرار.

لقد أعد الله تعالى الإمام المهدي عليه السلام للقيام بأداء أعظم رسالة إصلاحية، فهو الذي يملأ الدنيا قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا.

لقد اختاره الله لهذه المهمة من بين أوليائه لأنه من أصفى الناس طبعا ومن أرقهم قلبا ومن أنفذهم بصيرة ومن أكثرهم نكرانا للذات فهو من أهل بيت زكاهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

(2)

أما الإمام المنتظر عليه السلام فهو من أبرز القضايا الإسلامية وضوحا ومن أكثرها جلاء فقد بشر به الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله - الذي لا ينطق عن الهوى - وكذلك بشر به أئمة الهدى عليهم السلام الذين هم خزنة علم الرسول وسدنة حكمته وليست أخبارهم به أخبار آحاد قابلة للطعن والتشكيك والتجريح في سند رواتها وإنما هي أخبار متواترة قد حازت الدرجة القطعية وصدقها أئمة الحديث وآمن بها الحفاظ مجمعين على تدوينها في السنن والصحاح حتى صار التشكيك فيها تشكيكا في ضروري من ضروريات الدين وقد نقل الرواة عن النبي أنه قال: "من أنكر خروج المهدي فقد كفر بما أنزل على محمد (ص)" (1).

(3)

إن العقل السليم يؤمن بصورة مطلقة بوجود الإمام المنتظر عليه السلام وبحتمية ظهوره فإنه أمر ممكن عقلا لم يقم أي دليل علمي على امتناعه واستحالته فإن جميع ما أثير حوله من شبه وأوهام لا تلبث أن تتلاشى أمام الفيض العارم من الأخبار الصحيحة التي أثرت عن نبي الإسلام وأوصيائه العظام وهي تعلن بوضوح وصراحة عن حتمية ظهوره على مسرح الحياة ليبدد الظلم والجور ويعيد للإسلام بهجته ونظارته وبالإضافة إلى تلك الأخبار فإن هناك إجماعا عالميا من الأديان السماوية والمذاهب الاجتماعية على ظهور مصلح اجتماعي يقيم الحق ويحكم بالعدل ولا يدع ظلا للغبن والظلم بين الناس وإن حكمه هو أسمى ما تحلم به البشرية من التطور والتقدم والازدهار في جميع أدوارها.

(4)

وإذا عرضنا قصة الإمام المهدي عليه السلام بجميع مفرداتها وشؤونها على ضوء البحوث الفلسفية لوجدناها ضرورية لا غنى عن الالتزام والإيمان بها لأن لله تعالى فيضا متصلا ومستمرا على عباده لا ينقطع ولا يتخلف فقد أفاض عليهم الوجود بعد العدم وخلقهم بأحسن تقويم وفضلهم على كثير من خلق تفضيلا وأمر ملائكته بالسجود لأبيهم آدم وسخر لهم الشمس والقمر وأمدهم بجميع ما يحتاجون إليه.

وإن من عظيم عنايته وألطافه تعالى على عباده انتشالهم من الضلالة والضياع فقد بعث إليهم أنبياءه العظام كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم في وقت كانت البشرية غارقة في الآثام والموبقات يقول الله تعالى (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) (2) ووصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الظروف العصيبة التي رافقت بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وآله بقوله: "أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم. وانتقاض من المبرم، وانتشار من الأمور وتلظ من الحروب والدنيا كاسفة النور ظاهرة الغرور على حين اصفرار من ورقها واياس من ثمرها..." (3).

وكذلك يكون خروج الإمام قائم آل محمد عليه السلام في الظروف العصيبة التي تجتازها الإنسانية وهي مروعة بالويلات والكوارث فينقذها الله بالمصلح العظيم الذي يشيع في أرجائها الأمن والرخاء وينشر العدل والمساواة وغيرها من القيم الكريمة التي تتطلع إليها الإنسانية.

(5)

وموضوع الإمام المنتظر عليه السلام بجميع شؤونه ولادة واختفاء وظهورا يشبه أنبياء الله العظام دعاة الإصلاح الاجتماعي في الأرض فهو يشبه نبي الله موسى بن عمران عليه السلام في خفاء حمله وولادته فقد وضع الطاغية فرعون الرقباء من النساء على كل مولود يولد في مملكته فإن كان ذكرا أمر بقتله وإن كان أنثى عفا عنها لأن الكهنة قد أخبروه بزوال ملكه على يد فتى يولد في ذلك العصر وكذلك الإمام المنتظر عليه السلام فقد أخفى الله حمله وولادته خوفا عليه من طغاة بني العباس فقد أحاطوا دار أبيه الإمام العسكري عليه السلام بقوى مكثفة من الأمن نساء ورجالا للتعرف على ولادة وليده الإمام المنتظر الذي بشر به النبي (ص) بأنه آخر خلفائه فقد أيقن العباسيون بزوال ملكهم على يده فحالوا جاهدين إلقاء القبض عليه وقتله كما قتلوا آباءه من قبل.

وكذلك شابه الإمام المنتظر عليه السلام السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام في نطقه بعد ولادته فقد أشارت إليه السيدة أمه أن يكلم القوم الذين أحاطوا بها بعد ولادته، فأنطقه الله قائلا (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) (4) وكذلك الإمام المنتظر بعد ولادته تلا الآية الكريمة (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (5).

وكما شابههم في هذه الظواهر الكريمة فقد شابههم فيما هو أهم منها وهي قيامه بتغيير الأوضاع الاجتماعية وبلورة الفكر الإنساني وتدميره للظلم والطغيان إنه يقوم بالدور نفسه الذي قام به أنبياء الله عليهم السلام ويحطم الجور ويقضي على الظلم ويبسط العدل والحق والإخاء بين الناس.

(6)

لا أعتقد أن بحثا من البحوث الإسلامية قد نال اهتمام العلماء كموضوع الإمام المنتظر عليه السلام فقد بحث من جميع جوانبه ووجهاته على ضوء الكتاب والسنة وقد انبرى جمع حاشد من العلماء إلى التأليف في شؤونه وعلامات ظهوره ومن الجدير بالذكر أن الذين ألفوا فيه من علماء السنة أكثر من علماء الشيعة وسنذكر في مضان هذا الكتاب قائمة بأسماء بعض تلك الكتب التي تزيد على خمسين كتابا حتى صار التشكيك في أمره شكا في البديهيات التي لا يقر التشكيك فيها العقل ولا العرف.

وعلى أية حال فإن من سخف القول وضحالة الفكر إنكار الإمام المهدي عليه السلام وأما جحود (ابن خلدون) و (المجوسي الكسروي)، و (أحمد أمين المصري)، فإنما هو لعدائهم الآثم وحقدهم البالغ لأئمة أهل البيت عليهم السلام فقد تحاملوا عليهم في جميع ما كتبوه عنهم وقد استخف بهم القراء ولم يعد لما كتبوه عنهم أي وزن علمي بها.

(7)

واتهمت الشيعة في غير إنصاف وألصقت بها أكاذيب سخيفة في شأن عقيدتها بالإمام المنتظر عليه السلام فقد قالوا: "إنها تعتقد أن الإمام غاب في السرداب الكائن في بيته في (سامراء) وأنهم يتوقعون خروجه منه ". وقالوا:

أيضا: " إنهم يأتون إلى سرداب خاص في بابل يترقبون خروجه منه إلى غير ذلك في سخف القول وأباطيله.

إن عقيدة الشيعة في الإمام المنتظر عليه السلام بل وفي غيره من مجالاتها العقائدية نقية مشرقة كالشمس مشتقة من صميم الإسلام ومأخوذة من أئمة الهدى الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ولم تؤخذ والحمد لله - من كذاب ووضاع ومنحرف عن دينه وليس في جميع بنودها شذوذ ولا انحراف ولا خروج من سنن الكون ونواميس الطبيعة وهي تواكب المنطق والفطرة وتساير المجتمعات الإنسانية في جميع عصورها.

إن الشيعة تعتقد بأن الإمام سلام الله عليه قد غاب عن أبصار السلطة التي كانت تراقبه كأشد ما تكون المراقبة لتصفيته جسديا، فغيابه عن الظالمين كغياب جده رسول الله صلى الله على وآله عن أبصار قريش حينما أحاطت بداره لقتله، فخرج من بين أيديهم إلى يثرب، وأناب مكانه في فراشه وصيه وباب مدينة علمه، الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، والقوم لا يشعرون.

وتعتقد الشيعة اعتقادا صريحا بأن الإمام المنتظر عليه السلام لا يظهر من السرداب، الذي في (سامراء) ولا غاب فيه، وإنما يظهر في وضح النهار في (مكة المكرمة) وفي الكعبة المشرفة، كما ظهر من تلك البقعة المقدسة جده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، وسنتحدث عن هذه الجهة في غضون هذا الكتاب.

(8)

وتسأل الناس عن الحكمة من غياب الإمام المنتظر عليه السلام الغيبة الكبرى وحجبه عن الالتقاء بشيعته وغيرهم، وعدم اشتراكه بأي عمل إيجابي في مجريات الأحداث العالمية وغيرها، وفيما أحسب أن العلة الحقيقية في ذلك قد أخفاها الله على عباده كما أخفى ليلة القدر، ويوم القيامة، والساعة التي يستجاب فيها الدعاء في يوم الجمعة، وماهية الروح وحقيقتها، وحمل نبيه موسى بن عمران وولادته، وغيابه عليه السلام من هذا القبيل، وكذلك ظهوره... ومن المؤكد أن الإنسان أقصر ذهنيا من أن يحيط بحكم الخالق العظيم في تصرفاته وشؤونه، فهو الذي أبدع تكوين الأشياء، ووضع لها ما يدبرها من الأنظمة والقوانين التي نجهلها، ولله تعالى في خلقه حكم بالغة، يفهمها الناس حينا، ويقصرون عن فهمها في كثير من الأحيان.

(9)

لا أكاد أعرف أمرا اهتم به الكثيرون من الناس كاهتمامهم بمعرفة علامات ظهور الإسلام المنتظر عليه السلام، وترقب خروجه، وفيما أحسب أن اهتمامهم البالغ بذلك يعود إلى سأمهم وتذمرهم من الأنظمة الوضعية التي يعيشونها فقد جرت عليهم المآسي والويلات، وأغرقت العالم بالفتن والخطوب، فهم يتشوقون إلى حكم الله الذي يحقق لهم العدل السياسي، والعدل الاجتماعي وينقذهم من جور الظالمين، وبطش المستبدين.

لقد ألقت الأخبار التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وآله، وعن أئمة الهدى عليهم السلام، الأضواء على كثير من علامات ظهوره عليه السلام، والتي منها: انهيار الأخلاق، وانعدام الروابط الاجتماعية، وفقدان التماسك بين أفراد الأسرة الواحدة، وتخلى الناس عن تعاليم أديانهم، بحيث يصير المجتمع في سلوكه قريبا من المجتمع الجاهلي، فلا أمر بمعروف، ولا نهى عن منكر، ولا تواصل ولا توادد، ويصير المسلمون بأقصى مكان من الذل والهوان، تتكالب عليهم الأمم تغصب ثرواتهم، وتتحكم في قضاياهم ومصيرهم، ويكونون كأعصاب خالية من الروح والإحساس، ويعرض هذا الكتاب إلى إعطاء صورة متميزة عن علامات ظهوره عليه السلام حسب ما نطقت به الأخبار.

(10)

ومن بحوث هذا الكتاب إعطاء لمحة من صفات الإمام المهدي عليه السلام، وبعض عناصره النفسية، التي هي - من دون شك - امتداد لذاتيات آبائه وأجداده العظام الذين هم مصدر خير ورحمة وفيض على الناس على اختلاف قومياتهم وأجناسهم، ومن أبرز صفاتهم أنهم كانوا قوة ضاربة وقاهرة للطغاة والظالمين، يقول سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "القوي عندي ضعيف، حتى آخذ منه الحق، والضعيف عندي قوى حتى آخذ له الحق... " وهذه النزعة الكريمة ماثلة بأسمى صورها عند حفيده الإمام المنتظر عليه السلام، فإنه - حسبما تواترت به الأخبار إذا أشرقت الدنيا بظهوره يقوم ببسط العدل، وتدمير الظلم، ويبنى مراكز للمساواة والإنصاف بين الناس، ويطيح بعروش الطغاة الذين أقاموا عروشهم على الظلم والطغيان.

(11)

ويعرض هذا الكتاب إلى ما لاقاه السادة العلويون وشيعتهم من صنوف التنكيل والاضطهاد من حكام عصورهم، فقد قابلوهم بمنتهى القسوة والبطش، فقد وضع العباسيون العلويين وهم أحياء في جدران البيوت، وأقاموا عليهم البناء، كما ألقوا أطفالهم في حوضي (دجلة) و (الفرات) وكان وزراؤهم يتقربون إليهم في أيام الأعياد بتقديم رؤوس العلويين هدايا لهم أما ما لاقته شيعتهم ومحبوهم من العناء والقهر والظلم فلا يوصف لمرارته وقسوته.

وفيما أحسب أن ما عاناه العلويون من الجور أيام الحكم العباسي هو من أهم الأسباب في اختفاء الإمام المنتظر عليه السلام في أيام حياة أبيه الحسن العسكري عليه السلام وبعد وفاته فقد بذلت السلطة العباسية قصارى جهودها للبحث عنه لاعتقاله وتصفيته جسديا معتقدين أن زوال ملكهم على يده وسنعرض صورة في ذلك.

(12)

ومن بحوث هذا الكتاب تحديد الزمان الذي يظهر فيه الإمام المنتظر عليه السلام حسبما دلت عليه الروايات وكذلك تحديد المكان الذي ينطلق منه صوت الحق وهو (مكة المكرمة) وفي البيت الحرام الذي فرض الله تعالى حجه على العباد.

بيان سياسة الإمام عليه السلام ومنهج حكمه إذا ظهر فإنه يشيع الأمن والرخاء والاستقرار بين الناس ويريهم من صنوف العدل ما لم يشاهدوه في جميع فترات التاريخ.

البحث عن أصحابه، وما يتمتعون به من القابليات الفذة التي تجعلهم في طليعة المجاهدين والعظماء الذين يستعين بهم الإمام عليه السلام على ما يتبناه من نشر المبادئ الكريمة التي تسمو بالحياة الإنسانية هذه بعض مواد بحث الكتاب وقد ألمحنا لها بإيجاز.

* مقتبس من مقدمة (حياة الإمام محمد المهدي عليه السلام دراسة وتحليل) تأليف باقر شريف القرشي

.................................
(١) عقد الدرر (ص. ٢٣) فرائد السمطين أعيان الشيعة ٤ / 431.
(2) سورة آل عمران آية 103.
(3) نهج البلاغة.
(4) سورة مريم آية 30 - 31.
(5) سورة القصص: آية 5.

اضف تعليق