q
منهج التذكير والتحفيز على استعادة المكامن الحسنة والطيبة في النفس البشرية وتغليبها على المكامن السيئة على أن الانسان ليس سيئاً وبائساً تكوينياً، كما هو ليس ملاكاً معصوماً عن الخطأ، إنما معرضٌ طوال حياته الى اختبار القوة والإرادة في اختيار الحَسن والصالح من الافكار لتتحول فيما بعد الى مواقف وأحكام تتبع جذورها الحَسنة...

انتابني شعورين لدى سماع نبأ القرار القضائي بملاحقة اصحاب المحتويات التافهة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ الاول: سرعة الانسحاب والتخاذل من صنّاع محتوى كانوا يعدّون أنفسهم المنقذ الوحيد لضحايا الكآبة والملل والفراغ، أما الشعور الثاني: فهي اضطرار تدخل القوة لمواجهة مجموعة من عشاق الظهور والبحث عن دور خلف أجهزة الحاسوب، فأحكام السجن التي صدرت بشكل سريع هي التي تجعلهم يندمون على افعالهم، مما حيّر جمهور المتفاعلين بحقيقة متبنيات أولئك "الفاشينيستية"، وصدق نواياهم، فلم يتجرأ واحدٌ منهم بالدفاع عن محتوياته على أنها –مثلاً- خير ملاذ للشباب المحاصر بالفشل والحرمان، وأنهم يقومون بدور تهدئة النفوس وإشغالهم لعدم التفكير بردود فعل سيئة على الاوضاع الراهنة!

بغض النظر عن توقيت هذه الحملة القضائية، سقوط غول التفاهات بهذه الصورة يذكرنا من جديد بغياب المحتويات الراقية من الساحة الثقافية، فقبل ظهور هؤلاء، كانت ثمة مؤسسات ثقافية، ورجالات العلم والأدب موجودين في الساحة بأفكارهم المنسابة على صفحات المواقع الالكترونية بعد أن كانت على صفحات المجلات والصحف، الى جانب ندواتهم وملتقياتهم، بيد أن السؤال الحائر حول كل هذا الضخ المستمر؛ لماذا لم يتحول هذا الخطاب "الراقي" الى ملاذ للشباب وسائر المتابعين على مواقع التواصل كما حقق الخطاب "التافه" الشيء نفسه؟

ربما تقف اسباب عديدة وراء هذا الاخفاق، بيد أننا نرصد سببين:

الاول: صعوبة مخاطبة العقول

وهي مهمة كلفت الانبياء والعلماء والحكماء جهوداً جبارة ومضنية طيلة قرون من الزمن، دفعوا خلالها ثمن حياتهم لإثارة دفائن العقول، وإرشاد الناس الى الطريقة الصحيحة في الحياة، فكان منهج الدعوة والتبليغ يقتضي لترويض وتقويم النفس البشرية ليكون دورها ايجابي في مساعدة العقل على التفكّر والتأمّل، ومن ثمّ الايمان.

بالمقابل نلاحظ سهولة إثارة الشهوات والرغبات لأنها جاهزة وحاضرة على طول الخط لتلبية الحاجات اليومية للانسان، فالميول نحو الطعام والجنس والشهرة والتملك لا يحتاج الى كثير عناء لإثارته في النفوس، فهي لا تحتاج الى تفكير، حتى ولو لحظة واحدة، وفي الثقافة الدينية تُسمى هذه الميول بـ "الهوى"، فهي قوة في النفس جاهزة للعمل مع أي إشارة أو إثارة.

وأقرب مثال؛ صعوبة الحثّ على الصمت وقلّة الكلام، في مقابل سهولة فتح سيول من الاحاديث المتشعبة والهذر من الكلام القاتل للوقت بدعوى إضفاء المصداقية على هذه القضية او تلك الشخصية الرمز، وهكذا سائر الحالات النفسية المتأرجحة بين أن يدّسها صاحبها في التفاهات، او أن يزكيها ويرفعها عالياً.

السبب الثاني: الضياع في متاهات السياسية

المناخ السياسي المشحون بالاسقاطات والاخفاقات دفع شريحة واسعة من المثقفين من حملة لواء التغيير والإصلاح لأن يوجهوا البوصلة نحو ملفات مثل الفساد، والمحاصصة، والتبعية السياسية، وبما أن الحديث عن هذه الامور ربما يهدد في بعض الاحيان مصالح هذا الشخص، او تلك الجماعة، فمن الطبيعي أن تتهدد ايضاً حرية التعبير في وسائل الاعلام بشكل عام، وبدلاً من أن تكون هذه الحرية وسيلة وجسراً بينهم وبين المواطن لحمل همومه وتطلعاته، تحولت الى غاية أساس تعبّر عن هموم المثقف وتطلعاته الشخصية، وبدلاً من صناعة الوعي الجماهيري، نكون امام صناعة الازمات والصراعات مع السياسيين دون أن تترك الفضائح والنصائح أثراً على فاسد أسكرته ملايين الدولارات.

متاهات السياسة في بلد معقّد بالاساس مثل العراق، ومشاعر الخوف من السياسيين دفع بالخطاب الاعلامي الى حالة الدفاع عن النفس، وربما استحسن البعض هذا المآل كونه يخلق الشخصية البطولية والنجومية بما يوفر الوقت والجهد للوصول الى قلوب الرأي العام.

والأدهى من هذا؛ ظهور حالة من الخوف الغريب من انتقاد الخطاب الآخر (التافه)، على مواقع التواصل او حتى بعض القنوات الفضائية، بعد أن تحول على حين غفلة منهم الى الوسيلة الوحيدة لشريحة كبيرة من الناس لتفريج الهمّ وتسكين الخاطر، والتخلص من كآبة الاوضاع المزرية رغم ما يكبده هذا المحتوى التافة من خسائر معنوية جسيمة للمخاطبين كما بيناه في مقال سابق –هنا- تحت عنوان: "هل يتورط الاعلام الساخر في قتل العقل؟".

الهواجس والمحاذير ألقت بغشاوة سوداء فصلت المثقفين عن خزين فكري وأخلاقي يغبطه علينا أرباب المذاهب والأديان كونه يعود الى رموز عظيمة خبرت الحالات الانسانية لدى البشر فصاغت مناهجاً متكاملة للتغيير الحقيقي منها؛ منهج التذكير والتحفيز على استعادة المكامن الحسنة والطيبة في النفس البشرية وتغليبها على المكامن السيئة على أن الانسان ليس سيئاً وبائساً تكوينياً، كما هو ليس ملاكاً معصوماً عن الخطأ، إنما معرضٌ طوال حياته الى اختبار القوة والإرادة في اختيار الحَسن والصالح من الافكار لتتحول فيما بعد الى مواقف وأحكام تتبع جذورها الحَسنة، وهذا كان طموح الانبياء والأوصياء والعلماء حتى اليوم لأن يرتقوا بالناس الى هذا المستوى الراقي من الفكر والثقافة، وهي مهمة ليست بالسهلة قطعاً؛ إنما يستحق الأمر العناء والتضحية لصياغة شخصية انسان نتمناه ان يكون مبدعاً ومنتجاً، وأحد ابرز عوامل الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ايضاً.

اضف تعليق