q

لايمكن حصر الخلفية الإجتماعية لعملية الاحتجاجات والغضب الجماهيري بسبب واحد، إنما هي عملية تراكمية تصاعدية تكاملية، نذكر أهمها:

أولاً، شعور المواطن البسيط الضعيف وإحساسه بإنعدام العدل والمساواة في القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وأن هناك تمييزاً وفوارق شاسعة، بين حياته وبين حياة الحكام والمسؤولين أو غيرهم من أصحاب النفوذ، في الحقوق والواجبات والامتيازات. كل ذلك قد عمل على إقامة ضرب من التعارض بين مصلحة المسؤولين والمتنفذين وبين مصلحة المجتمع، فأصبحت الأخلاق الاجتماعية غير ذات أهمية. ولا شك أن تفشي الأنانية وروح المصلحة الذاتية، إنما هي أحد مظاهر إحساس هذا المواطن بانعدام شتى الأواصر بينه وبين مجتمعه. لهذا فهو يغضب ويحتج ويتظاهر.

ثانياً، التباعد الشديد بين الحكام والمسؤولين وبين عامة الناس. حين لا يجد المواطن أي اهتمام أو متابعة لمشاكله ومعاناته في حياته اليومية، فلا أحد يستمع إليه ولا أحد ينظر في أموره. وبمقابل ذلك نلاحظ لا مبالاة وعدم اكتراث واستخفاف واستصغار لمشاكله من جانب الحكام والمسؤولين. لذلك يبدو كأن السلطة قد أعمت قلوبهم والمال قد خدرهم، فلم يعودوا يرون من البشر غير أولادهم وأحفادهم، ولم يعودوا يشعرون إلا بأنفسهم وبمن حولهم، ولسان حالهم يقول، كما ذكر أحد الحكماء: " أي شيء لأصدقائي، أما غيرهم فهناك القانون". وضمن ما يعني ذلك أن العقاب لا ينطبق على المسؤولين، لكنه ينطبق على عامة الناس وفقرائهم فحسب.

إن هذا التباعد الذي ذكرناه كان يشمل شريحة واسعة من المستضعفين والمحرومين والفقراء والمظلومين الذي يثير الغضب، لكن هناك شريحة أخرى، الإبتعاد عنها يثير الإحتجاج أيضاً، هي شريحة المفكرين والعلماء والباحثين. فلا أحد يأخذ بما يكتبه هؤلاء وما يطرحونه من آراء وحلول لمشاكل المجتمع.

ثالثاً، إعطاء مثال سيئ عن معيشة الحكام والمسؤولين. إن التأثير الأخلاقي المتمثل بأثير قوة المثال الشخصي الذي يضربه الحكام والمسؤولين بسلوكهم ومسيرتهم وسعة سكنهم ومعيشتهم ورفاهيتهم، هو مثال سيء، نتيجة الإختلاف الكبير بين أقوالهم وأفعالهم. ولنا في إمام المتقين، الإمام علي بن طالب، قدوة حسنة، نذكر على سبيل المثال كيف وبّخ واليه على البصرة، عثمان بن حنيف، على حضوره وليمة، فيها ما لذ وطاب، بسبب وجود أغنياء القوم فقط، دون حضور فقرائهم. كما انتقد الإمام أيضاً، أحد أنصاره في البصرة، هو العلاء بن زياد الحارثي، لسعة داره، مع ذلك فإن الإمام لم يمنعه من امتلاك مثل هذه الدار، لكن بشرط أن يوظفها للآخرة.

رابعاً، استغلال المسؤولين لمناصبهم ووظائفهم التي يعتبرونها عملاً تجارياً يسعون من خلاله تحقيق أقصى ما يمكن من دخل وامتيازات، حتى أصبحت المؤسسات كأنها ملكاً لهم، تجلب لهم المغانم الكثيرة، نتيجة ممارستهم التحايل والفساد المالي والإداري، واستغلال الموارد العامة من أجل المنافع الخاصة الأنانية.

خامساً، عدم الجمع بين الكفاءة والنزاهة. إن من الأركان التي ينبغي توفرها عند اختيار المسؤول هما ركنين أساسيين: الكفاءة والنزاهة. لكن الذي نلاحظه أن تطبيق هذه المعادلة في الواقع، هي عملية قليلة نسبياً، لأن الغالب الآن هو أن الميزان يميل لصالح أحد الركنين الذي ذكرناهما. فإذا توفرت الكفاءة، في أحدهم، فقد لا تتوفر فيه النزاهة كثيراً. وإذا توفرت النزاهة في المسؤول فقد تكون كفاءته الإدارية ضعيفة، فيدب الفساد في مؤسسته. ومن الغريب أن يحدث في كثير من الأحوال أن فرداً نزيهاً مخلصاً أميناً، لكنه حين يستلم منصباً مهماً، نجده يفقد توازنه نتيجة حلاوة السلطة ومغرياتها والتعلق الشديد بنعم الحياة، فيستغل منصبه لمصالحه ومصالح مجموعته.

سادساً، فشل إداري. تتضح صور الفشل الإداري في تخلف الخدمات للناس، وتعقد الاجراءات، وتجمد القوانين والسياسات، كما تظهر في قرارات متناقضة متعارضة أو خطط غير مدروسة ولا واضحة. والصورة العامة للإدارة الضعيفة المتخلفة هي مزيج من الإسراف في تبديد الثروات والعجز عن تحقيق الأهداف المقررة.

إن سوء الإدارة يرجع إلى نقص في الإدراك الصحيح لمفاهيم وأساليب الإدارة العلمية الحديثة واستخدام التكنولوجيا والمعلوماتية المتطورة. كما ترجع أيضاً إلى ضعف الضمير المهني، فلا نجد إحساساً بالواجب ولا شعوراً بالمسؤولية ولا رغبة في خدمة الجمهور عند المسؤولين، فضلاً عن تعاليهم وجلوسهم في بروج عاجية بعيدة كل البعد عن هذا الجمهور. ويمكن أن يرجع الفشل الإداري إلى القصور العقلي عند بعض المسؤولين، الذي يتمثل في المعالجة السطحية للمعلومات وعبادة نصوص القوانين، التي ليس له الرغبة في المطالبة بتغيير بعض منها، بخاصة التي تعرقل عملية التطوير والتنمية.

كما يرجع الفشل أيضاً إلى الافتقار إلى آليات الابداع والابتكار وتوليد الأفكار، وإلى عدم القدرة على إيجاد بدائل ممكنة لحل المشكلات المختلفة. أضف إلى ذلك أن المسؤول غير قادر على الوصول إلى استنتاجات دقيقة، بسبب اعتماده على أسلوب التخمين عوضاً عن التفكير المنطقي. لذلك فهو يكتفي باقتناعه بصحة تخمينه ويبني على ذلك الحلول والأعمال ثم يتبين فيما بعد أن تخمينه كان خاطئاً، ولكن بعد أن أهدر كثير من الوقت والمال. وقد وصف أحد الحكماء هؤلاء الفاشلين بقوله: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما لا يعلمون.

سابعاً، نسق سياسي متخلف. إن النسق السياسي المتخلف كثيراً ما يظهر بصور عديدة منها: تمركز السلطات والاستبداد في القرارات والتفرد بالرأي، والطابع العائلي للنظام السياسي، والتنافس والتناحر بين المجموعات السياسية والتهالك على السلطة والزعامة وجمع الثروة، وحب مظاهر الفخفخة والأبهة والمجد الباطل والمقامات والوجاهات. ومن مظاهر التخلف السياسي، الاعتماد على آليات تبرير غير منطقية لكل فشل وإخفاق وهزيمة وانكسار. كذلك التماس الأعذار لمن لا عذر له. فيجد المسؤول الفاسد أو المتخلف عذراً للفساد والخمول والتكاسل. وفي كثير من الأحيان يتخلى مثل هؤلاء المسؤولين عن واجباتهم بإلقاء اللوم في فشلهم على الآخرين من خلال قابلية المراوغة وخداع الذات وتبرير الأخطاء. يمكننا تلخيص التخلف السياسي وتلك الخطايا التي حذر منها المهاتما غاندي، هي: سياسة بلا مبادئ، وتجارة بلا أخلاق، وثروة بلا عمل، وتعليم بلا تربية، وعلم بلا ضمير، وعبادة بلا تضحية. نضيف لها: حقوق بلا مسؤوليات.

في الختام إن من وسائل التخفيف من الاحتجاجات والغضب الشعبي هي التضحية بمصلحة الحكام والمسؤولين الذاتية الأنانية الضيقة، في سبيل مصلحة المجتمع، والاستماع من الناس والنظر في أمورهم، ورحمة الضعفاء.

* باحث وأكاديمي عراقي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق