q
ثقافة وإعلام - ثقافية-اعلامية

مراحل القراءة

في مسألة القراءة، استطيع القول، ان علاقة المثقف بالكتاب تكون على مراحل، تبدأ اولا شبيهة بعلاقة الجنسين ببعضهما في المرحلة الشبابية، ثم يتجاوز مرحلة الدهشة تدريجيا، ويشعر بشيء من الإشباع الذي يخفف عنده لذة الاكتشاف الاولى، والمتعة التي كان عليها في ايام مراهقته حين كان يقرأ بمتعة كبيرة...

في تسعينيات القرن الماضي، كنت جالسا مع الصديق الدكتور والاديب المعروف ريكان ابراهيم بمعية اصدقاء آخرين في مقهى حسن عجمي، ومن بين تفاصيل حديثنا ورد كلام عابر عن العلاقة بين الرجل والمرأة... قال الدكتور ريكان بوصفه مختصا بالطب النفسي والباراسايكولوجي، رأيا بهذا الصدد، بقي في ذاكرتي على الرغم من مرور اكثر من ربع قرن عليه .. قال؛ ان علاقة الرجل بالمرأة بعد الاربعين تختلف عما هي عليه في العشرينيات، لأنه يبدأ يفهمها ..!! وكان يقصد، ان اقبال الشاب على المرأة في تلك المرحلة العمرية المبكرة ينطوي على لذة الاكتشاف، ومع مرور الزمن يستهلك هذا الاكتشاف ويصبح الرجل اكثر فهما للمرأة واقل دهشة بها، وهنا يكمن الاختلاف في العلاقة بين المرحلتين.

لاشك ان هذه القاعدة تنطبق على الكثير من ممارساتنا الحياتية الاخرى، وهي نسبية بالتأكيد، فإذا ما تعلّقنا بشيء ما في اي مرحلة من العمر، تأخذ العلاقة معه تخف تدريجيا مع الزمن، ولذلك يميل الانسان الى التغيير والتمرد الدائم على تفاصيل كثيرة حين يشعر تجاهها بالملل... في مسألة القراءة، استطيع القول، ان علاقة المثقف بالكتاب تكون على مراحل، تبدأ اولا شبيهة بعلاقة الجنسين ببعضهما في المرحلة الشبابية، ثم يتجاوز مرحلة الدهشة تدريجيا، ويشعر بشيء من الإشباع الذي يخفف عنده لذة الاكتشاف الاولى، والمتعة التي كان عليها في ايام مراهقته حين كان يقرأ بمتعة كبيرة، كونه لم يمتلك، حينذاك، المصدّات العلمية التي يحاكم من خلالها النص الذي يقرأه، بالإضافة الى شعوره في البدايات ان معارفه اخذت تتسع مع القراءة، فيشعر بالنشوة ويندفع للحصول على المزيد، حتى اذا ما وصل الى مرحلة متقدمة في القراءة، اصبح يفقد تدريجيا تلك الحماسة، ليس للكتاب، بل لما يقرأه فيه مهما كان غنيا، لأنه بات ندا للكاتب، لاسيما اذا اصبح القارئ كاتبا وصار له منجز يشار اليه!

كنت اتحدث الى صديقي من قريتي في المجر الكبير بهذا الصدد، وبات الان مسؤولا تربويا كبيرا، وقد استذكرنا ايامنا في القرية قبل اكثر من اربعين عاما، وكيف كنا مهووسين بالقراءة، نجلب الاكياس المملوءة بالكتب ونلتهمها بلذة هائلة، لأنها كانت تأخذنا لعوالم جديدة تحفّز وعينا وتعرّفنا على تفاصيل مختلفة لم نألفها من قبل، فكانت ايضا بمثابة سياحة عقلية.

اليوم لم يعد الامر كذلك، والسبب هو اننا في رحلتنا القرائية الطويلة ارتشفنا الكثير من المعلومات او الافكار المبثوثة في كتب متعددة، وكثيرا ما نجدها او قريبا منها في كتب اخرى، ولو بصيغ او اشكال اخرى، ليصبح هذا التراكم الكمي والنوعي الذي يزدحم به الرأس بمثابة حائط صدّ امام اي كتاب، ما لم تكن مضامينه قادرة فعلا على اختراق هذا الحائط من خلال جديد ومؤثر يحتويه، وهذا ما يجعل القراءة مراحل، حيث تصبح قراءة المثقف او الكاتب مع تقدم العمر انتقائية، وعلاقته بالكتاب اشبه بعلاقة الزوجين ببعضهما في مرحلة عمرية متقدمة، كونهما استهلكا الكثير من التفاصيل التي لم تعد تدهشهما بعد رحلتهما الطويلة.

كثيرون من الادباء الشباب، يحرصون على اهداء كتبهم للأدباء الكبار او اصحاب التجارب المهمة، وينتظرون منهم رأيا بها، يحاكي دهشتهم بالكتابة او القراءة، وهو ما كنا جميعا نفعله في مرحلة الشباب، ويعتقدون ان الكبار سيقرأونها باللّذة والعاطفة التي يعيشونها هم في مرحلتهم الراهنة، لكنهم سيدركون لاحقا او بعد ان يصلوا لاعمار هؤلاء، ان القراءة تخضع لنظام المراحل ولاستحقاقات الزمن والوعي... بالتأكيد!

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق