q
فاز ثلاثة من علماء فيزياء الكم بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2022، عن تجاربهم حول حالات التشابك الكمي الفوتوني، التي يترابط فيها اثنان من جسيمات الضوء على نحو يستعصي فك تعقيده. وكانت هذه التجارب بمثابة الركيزة التي استند إليها ابتكار مجموعة من التقنيات الكمية، من أمثلتها الحاسوبات الكمية ونظم الاتصالات الكمية...
بقلم: دافيديه كاستلفيكي وإليزابيث جيبني

فاز ثلاثة من علماء فيزياء الكم بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2022، عن تجاربهم حول حالات التشابك الكمي الفوتوني، التي يترابط فيها اثنان من جسيمات الضوء على نحو يستعصي فك تعقيده. وكانت هذه التجارب بمثابة الركيزة التي استند إليها ابتكار مجموعة من التقنيات الكمية، من أمثلتها الحاسوبات الكمية ونظم الاتصالات الكمية.

ومن المتوقع أن يتشارك العلماء الثلاثة - وهم آلييه أسبيه، وجون كلاوسر، وأنطون سايلينجر - قيمة الجائزة البالغة 10 ملايين كرونة سويدية (915 ألف دولار أمريكي)، بالتساوي فيما بينهم.

تعقيبًا على هذا النبأ، قال سايلينجر، اختصاصي علم الفيزياء من جامعة فيينا، في تصريح أدلى به إلى المؤتمر الصحفي الذي أعلن عن الجائزة: "صُدمت حقًا لتلقيّ مكالمة كهذه". وأضاف: "ما كنت لأحصل على هذه الجائزة لولا جهود أكثر من 100 شاب عملت معهم على مر سنوات أبحاثي".

أما أسبيه، وهو عالم فيزياء من جامعة باريس-ساكلي، فقد تلقى المكالمة الهاتفية التي زفت إليه نبأ فوزه بالجائزة خلال اجتماع إحدى اللجان التي كان مشاركًا فيها. وعن تلك اللحظة، يقول سيرج هاروش، وهو عالم فيزياء تجريبية من جامعة كوليدج دو فرانس، تقاسم الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2012 عن أبحاثه في فيزياء الكم: "تصادف جلوسي إلى جانب أسبيه صباح تلقيه تلك المكالمة"، وأضاف أنه عندما غادر أسبيه الغرفة، أصاب زملاؤه توقع ورود المكالمة من ستوكهولم.

أثبتت تجارب العلماء الثلاثة أن العلاقة بين الجسيمين الكميين سالفي الذكر لا تنبني على "متغيرات خفية"، أي عوامل مجهولة تربط على نحو خفي بين النتيجتين المحتملتين لهذه التجارب. وإنما تُعزى إلى ترابط حقيقي، يؤثر فيه التلاعب بأحد الجسيمات الكمية على الآخر. وهي ظاهرة وصفها عالم الفيزياء الألماني ألبرت آينشتاين بأنها "تأثير فيزيائي غامض يتمثل عن بعد"، وتعُرف اليوم بالتشابك الكمي.

وتجدر الإشارة إلى أن العلماء الثلاثة الفائزون بالجائزة جميعهم من رواد حقلي المعلومات الكمية والاتصالات الكمية، على حد تعبير بان جيانوي، وهو عالم فيزياء من جامعة العلوم والتكنولوجيا الصينية، شارك في التسعينيات إبان دراساته العليا في بعض تجارب سايلينجر التي مثلت علامة فارقة في هذين المجالين. ويقول تعقيبًا على فوز سايلينجر إن هذا التكريم تأخر كثيرًا. وأضاف: "ننتظر هذه اللحظة منذ وقت طويل جدًا".

وتتبنى الرأي نفسه كيارا مارليتو، وهي عالمة فيزياء من جامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة، وصفت إعلان الفائزين بالجائزة بأنه "نبأ رائع". وتعلل لذلك موضحة أن النماذج الحديثة من التجارب الرائدة التي أجراها العلماء الثلاثة قد تلعب دورًا محوريًا في الوصول إلى حل أحد أكبر ألغاز الفيزياء القائمة إلى اليوم، وهو: كيف يمكن التوفيق بين ميكانيكا الكم ونظرية النسبية العامة لآينشتاين؟

أزواج من الجسيمات

إن تقدير خصائص كل جسيم في زوج من الجسيمات المتشابكة يؤثر مباشرة في تقدير خصائص الجسيم الآخر، وهو ما يُعزى إلى تأثير ظاهرة التشابك الكمي. وهذا التأثير هو ما تقوم عليه فكرة الحاسوبات الكمية. وهي حاسوبات تعمل على تسخير قدرة الجسيمات الكمية على شغل أكثر من حالة في الوقت نفسه، لإجراء عمليات حسابية مستعصية، يُعد إجراؤها ضرب من المستحيل للحاسوبات التقليدية. ويعتمد علماء الفيزياء اليوم على حالات التشابك الكمي لتطوير شفرات كمية، ومنظومات إنترنت كمية، يؤمل أن تفتح الباب أمام إجراء اتصالات فائقة الأمان، وابتكار أنواع جديدة من أجهزة الاستشعار، والتلسكوبات.

غير أن وجود هذا الترابط الجوهري بين جسيمين في أزواج الجسيمات المتشابكة، بحيث يُستدل منه على أن عمليات القياس لتقدير خصائص أحدهما تؤثر في خصائص الآخر وتحسمها، عوضًا عن الاستدلال على وجود الجسيمين في حالة فيزيائية محددة سلفًا، هو احتمال أثار الجدل بين علماء الفيزياء، منذ إرساء قواعد علم ميكانيكا الكم في العشرينيات من القرن الماضي.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه في ستينيات القرن الماضي، طرح عالم الفيزياء جون بِل فكرة إجراء مجموعة من الاختبارات الرياضياتية، فيما بات يُعرف باسم «متباينات بِل»، للفصل بين الاحتمالين. وبينت الاختبارات أن النتائج التجريبية التي يبدو أنها تتجاوز قيمة معينة في ترابطها لا يُمكن تفسيرها إلا بتشابك كمي، ولا تُعزى إلى وجود متغيرات خفية ما. بعبارة أخرى، تتنبأ ميكانيكا الكم بوجود درجة أكبر من الترابط بين الجسيمات، يستعصي تحققها بموجب قوانين الفيزياء الكلاسيكية، وفيزياء ما قبل نظريات الكم.

وبالبناء على هذه الأفكار، في عام 1972، عمد جون كلاوسر، وهو عالم فيزياء يعمل حاليًا في شركة جيه إف كلاوسر وشركاه في مدينة والنوت كريك بولاية كاليفورنيا الأمريكية، إلى تصميم تجربة عملية أثبتت إمكانية خرق «متباينات بِل»، لتدعم بذلك نظريات ميكانيكا الكم.

وويروي ديفيد كايسر، وهو عالم متخصص في فيزياء الكم، ومؤرخ للعلوم، من معهد ماساتشوستس للتكولوجيا في مدينة كامبريدج الأمريكية، أن كلاوسر وقع على أبحاث جون بِل بسبيل المصادفة، في أثناء تنقيبه بين الأطروحات في مكتبة جامعة كاليفورنيا في مدينة بيركلي الأمريكية، حيث كان آنذاك باحثًا في مرحلة ما بعد الدكتوراة. وقد أسرت أبحاث بِل كلاوسر، الذي كاتب بعد ذلك بِل ليسأله عما إذا كان أحد قد سعى إلى إجراء اختبارات تجريبية للتحقق من متبايناته. فأجاب بِل بالنفي، وحثه على النهوض بذلك. غير أن سائر المجتمع العلمي لم يستقبل الفكرة بالحفاوة ذاتها. ويوضح كايسر ذلك قائلًا: "أمكن أن يصف البعض في كتاباته هذا المبحث بأنه لا يُمت بصلة لأبحاث الفيزياء الجادة، وبأنه ليس جديرًا بعناء استكشافه".

محطة بارزة أخرى: سد الثغرات النظرية والانتقال الكمي الآني

رغم نجاح كلاوسر، ظلت التجارب في هذا الصدد تشوبها ثغرات، أفسحت مجالًا لاحتمالية وجود متغيرات خفية تخلق الإيحاء بحالات التشابك الكمي. وقد سعى أسبيه إلى سد هذه الثغرات في الثمانينيات من القرن الماضي. إذ استخدم في تجاربه منظومة متغيرة، تحول دون الزعم بتسبب القرارات المتخذة في التجربة في حسم نتائجها سلفًا.

بعد ذلك، في عام 1997، أنطون سايلينجر، وهو عالم فيزياء من جامعة فيينا، سعى مع فريقه البحثي إلى الاستعانة بظاهرة التشابك الكمي للبرهنة على إمكان تحقيق انتقال كمي آني، تنتقل فيه الحالات الكمية من موقع إلى آخر. وبموجب هذه التجارب، لا يمكن رصد المنظومات الكمية وإعادة نسخها في مكان آخر، إذ إن خصائصها الكمية الدقيقة تتداعى بأخذ قياساتها. غير أن الحالات الكمية يمكن أن تنتقل بين جسيمين متباعدين، إن جمع بين كل منهما تشابك كمي مع جسيم واحد في زوج من الجسيمات المتشابكة كميًا سلفًا.

ويتيح الانتقال الكمي الآني نظم اتصالات فائقة الأمان، لأن تعرضها لأي عمليات تنصت من شأنه أن يتسبب في إفقاد الجسيمات لحالاتها الكمية الهشة. كما أنه يُعد من الآليات التي قد تستخدمها الحواسيب الكمية المستقبلية في نقل المعلومات. ومنذ أن أجرى سايلينجر تجاربه الأولى، نجح علماء الفيزياء في تحقيق انتقال آني للحالات الكمية بين الإلكترونات والذرات والدارات فائقة التوصيل.

كذلك سعى زايلينجر في تجارب أحدث بالتعاوُن مع كايسر وباحثين آخرين إلى سد أوجه قصور وثغرات أخرى في متباينات بِل، من خلال الاعتماد على خصائص الضوء المنبعث من النجوم قبل عدة قرون لبناء ظروف التجربة.

ورغم أن هذا المبحث الفيزيائي تقوم عليه اليوم صناعة ناشئة، فهذه الأنواع من التجارب من شأنها كذلك أن تستمر في إتاحة رؤى متعمقة لنا في حقل الفيزياء الأساسية. وتوضح مارليتو ذلك بقولها إن الأمل يحدو علماء الفيزياء في البرهنة على قدرة جسيمين على الدخول في حالة تشابك كمي من خلال أحد تفاعلات الجاذبية. وبالنظر إلى وجود تعارض – على ما يبدو - بين نظرية النسبية العامة وميكانيكا الكم، فقد ترشدنا هذه التجارب إلى وضع نظرية كمية للجاذبية تحل محل نظرية النسبية العامة. وأضافت قائلة: "إشكاليات الجاذبية هي المعضلة الأكبر في هذا الصدد".

ويشيد كايسر بالعزم والمثابرة وروح الابتكار التي تحلى بها العلماء الثلاثة الفائزين بالجائزة في سعيهم لسبر أغوار ظاهرة تبدو "ضربًا من الوهم"، وفي تناوُل هذه الاحتمالية لآلية سير عالمنا.

حول ذلك، يقول هاروش: "بدا آنذاك أن هذا المبحث من شطحات الخيال، وأنه بلا تطبيقات عملية. وهذا مثال رائع على العلاقة بين العلوم النظرية والتطبيقية، فهو يبرهن على جدوى المعارف التي تبدو عديمة الجدوى".

اضف تعليق