q

يعد الشيخ محمد بن محمد بن النعمان شخصية استثنائية في تاريخ الفقه الشيعي – الامامي واليه تنسب الكثير من الاصول الكلامية والفقهية عند الشيعة – الامامية، حتى نظر اليه من قبل بعض الباحثين المخالفين للشيعة –الامامية بأنه مؤسس مذهب الامامية في الكلام والفقه.. لاسيما وأن مرجعيته الدينية والفقهية جاءت في البدايات الاولى لعصر الغيبة الكبرى التي بدأت في نهاية النصف الاول من القرن الرابع الهجري في العام 339 هـ.

وكان الاتجاه السائد لدى الشيعة الامامية ومحدثيهم وفقهاءهم، هو العمل بمضمون الرسالة الاخيرة التي حملها آخر السفراء الخواص وهو محمد بن علي السمري من الامام الغائب المهدي المنتظر والتي نصت على ان (الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة احاديثنا فأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم) واذا فهم النص في اول الغيبة الكبرى على أنه يعني مجرد رواية احاديث اهل البيت واستنباط الحكم الشرعي فيها مباشرة، فأنها في فترة لاحقة فهمت عند الفقهاء على انها تأسيسات اولى في الاجتهاد مع الفقيه الامامي الحسن بن علي بن ابي عقيل الحذاء ت 369 هـ وإبن الجنيد الاسكافي ت 381ه وثم الشيخ محمد بن محمد النعمان تـ 413 هـ، واذا كان الفقيهين الاولين العماني والاسكافي قد عاصرا كبار الفقهاء المحدثين مثل الشيخ الكليني والشيخ الصدوق وأن غلبة الحديث ورواية الخبر هي الغالبة على الوسط الفقهي – الامامي، فأن تأثيرهما في ترويج الاجتهاد والعمل به بناء على مستنداتهما الفقهية قد بدأت في عصر لاحق وتكون بدايته التاريخية تحديداً مع عصر الشيخ المفيد ومدرسته الفقهية في بغداد والتي نحت منحى فقهياً اجتهادياً تأسيسياً واضحاً.

وقد عرفت باسم مدينة مدرسة بغداد في تاريخ الفقه الامامي في قبال مدرسة قم، مدرسة المحدثين والاخباريين، وكان الجدل الفقهي بينهما قائماً بالمحاججات الروائية والعقلية. وقد أسهمت مناخات بغداد الفكرية والثقافية في توسيع آفاق النظر الكلامي والفقهي عند الشيخ المفيد فقد كانت بغداد في عصر الشيخ المفيد في القرن الرابع تزخر بالمدارس الفكرية – الدينية من معتزلة الى اشعرية الى صوفية، بينما كان يغيب فيها الاثر الامامي في هذا الجدل الفكري والديني، حتى قالوا في فقهاء الامامية انهم يفتقرون الى التفريع في المسائل الاصولية والفقهية، وقد نقل هذا الكلام الشيخ الطوسي في توصيف المذهب الامامي في هذا العصر من الفقهاء الاخرين من المذاهب الاسلامية الاخرى، وذلك لان المحدثين وفقهاء الخبر والنقل كانت لهم هيمنة بادية على الوسط الفقهائي الامامي، وكان الجدل والكلام ينظرون اليهما بارتياب من جانبهم.

وقد أكسب هذا الجدل الفكري والتطور الكلامي في بغداد في القرن – الرابع الهجري، الذي وصف بأنه قرن العقل الاسلامي او القرن الحضاري الاسلامي، اكسب الشيخ المفيد ذلك التنوع في المعرفة الدينية، وإطلاعه على كل مدارس الفكر الاسلامي، وآراء علم الكلام في المذاهب الاسلامية، لاسيما وأنه درس على شيوخ من المعتزلة والاشاعرة والامامية. وقد تمكن من خلال ذلك على الدخول باسم الفكر والكلام الامامي الى هذا الجدل البغدادي والاسلامي، يخوض مناظراته مع المخالفين لمذهبه من المعتزلة والاشعرية، بل وحتى من الامامية، ويفاجئون بغزارة علمه وقوة حجته، حتى أقروا له بالفضل العلمي مبكراً، ويقال ان لقبه المفيد قد أطلقه عليه أستاذه المعتزلي ابي علي الرماني.

لقد سعى الشيخ المفيد ومن خلال وسائله التي سنعرض لها، الى تثبيت موطأ قدم راسخ للمذهب في بغداد بل وفي ميادين السياسة، وهي على الاقل ضمانة لقوة ونفوذ المذهب في زحمة صراعه التاريخي مع الاتجاهات الفكرية المذهبية والسياسية التي سادت المجتمع الاسلامي.

لقد كانت وسائل الشيخ المفيد متعددة بتعدد مواهبه وقدرته العلمية وشخصيته ذات الطبيعة القيادية، حتى انتهت إليه الرئاسة الدينية للمذهب وأتباعه، واستفاض ذكره على كل من سواه في عصره من الفقهاء والعلماء من الامامية وغيرهم بشهادة مؤرخي عصره.

أما أهم وسائله في نشر مذهبه وتأسيس قيادته الدينية وبسلطة معرفية ظاهرة فهي:

أولا- ما يروى عن مناظراته كل أهل عقيدة، واهتمامه بحضور كافة العلماء ومن كل الطوائف والمذاهب في مجلسه في داره بدرب رباح في بغداد. وهو مجلس وصف بإنه مجلس نظر أو مايعرف في عصرنا هذا بصالون أدبي، لكنه كان أكثر من صالون، وقد زاره إبن النديم صاحب الفهرست وأعجب بمجلسه وشخصه وقال عنه : "شاهدته فرأيته بارعا وبلغ من شدة حرصه على تعليم الناس أصول مذهبه أنه كان يدور في حوانيت الحاكة والمكاتب فيلمح الصبي الفطن فيستأجره من أبويه" ولعله إكتسب تلك الخبرة في تحديد الفطن من الصبيان من أبيه الذي كان معلما للصبيان ولذلك كان يقال له إبن المعلم.

وبعد أن يتبنى الصبي تربويا يتعهد بتعليمه وتربيته حتى يستقيم على أصول عقيدته، ويكون متعلما أو عالما، وهو ماكان يسعى اليه المفيد. وقد أنتج فكرا فقهيا وأصوليا وكلاميا-أماميا عرف من خلال طلابه ومريديه، وهم أقطاب المذهب ورؤوسه ومؤسسي كثيرا من أصوله ومنهم الشيخ الطوسي الذي أطلق عليه لقب شيخ الطائفة وهو اسم يحمل دلالة على ذلك التميز الذي حظيت به مدرسة بغداد- مدرسة الشيخ المفيد- وأثرها العلمي الكبير على الطائفة الامامية، حتى عد تلميذه ومريده شيخا لها، وإنتهت الامامية الى تقليده على مدى قرن من الزمان. وقد عرف هذا العصر باسم عصر المقلدة أي المقلدين للشيخ الطوسي في تاريخ الفقه الامامي أو بمعنى اخر تقليد إمامي عام لمدرسة بغداد مدرسة الشيخ المفيد.

ثانيا- عمد الى تشكيل تنظيم –إداري للمذهب يؤكد زعامته الدينية وتفهمه لطبيعة رئاسته المذهبية-الامامية، وكان يسعى بواسطة هذا التنظيم الى تأسيس سلطة معرفية تتكفل بالاجابة على كل تساؤلات عصره، وما يطرح من إشكالات الخصم أو المخالف المذهبي، ومحاججة الفرق المخالفة للامامية في الاصول والفروع ، وكانت تصل إليه جملة من المسائل والاسئلة يخرجها على شكل كتاب أو رسالة تتضمن إجاباته وبعض منها من أمراء وملوك الاطراف، وهو إسم يطلق على ملوك الدول الناشئة في أطراف الدولة الإسلامية وكانوا شبه مستقلين عنها.

إضافة الى ذلك مد شبكة من الوكلاء والنواب له في أرجاء الدولة في المناطق التي يتواجد بها الشيعة الامامية وكجزء من نظامه الاداري الديني، وهي حالة لم يعهدها المذهب من قبله بين فقهاء وعلماء الامامية، بل هو استعاد نظاما معمولا به في زمن الائمة (عليهم السلام) فقد كان هناك في زمن الحضور وكلاء ونواب للائمة يتواصلون من خلالهم مع أتباعهم في أرجاء العالم الإسلامي، وكانت تصل الى الشيخ المفيد المسائل والاسئلة الفقهية، إضافة الى الحقوق الشرعية التي أوجد نظامها عبر هذه الشبكة من الوكلاء والنواب مثلما كانت الامور تجري في عصر الحضور في زمن الائمة (عليهم السلام) وهذا يعود الى تأصيله الفقهي لنظرية التفويض التي إبتكرها الشيخ المفيد، وهي تنص على تفويض الائمة (عليهم السلام) للفقهاء العدول إقامة الحدود دون الدماء، وقد توسع فيها فاستلم الحقوق الشرعية بالوكالة المنجزة له عن الائمة وفق نظرية التفويض هذه.

ولم يكن تأثيره يقتصر على المذهب في أتباعه وعلمائه بل إمتد الى الامراء وملوك الاطراف وأصبحت حظوته لديهم عالية، وقد تحدث عنها المؤرخون لاسيما إبن الجوزي، وهي تشير الى قوة سلطته المعرفية والدينية كعالم جمع صنوف الحكمة وأقسام العلم الديني، وقد تأثر به المجتمع الشيعي – الامامي حتى بلغ أعلى مستوياته في التأثير في الملوك والامراء، وهنا يتضح أثره الاجتماعي –الديني في الطائفة الامامية، وقد بلغ من تأثيره الاجتماعي والديني هذا أن انتشر التشيع في زمنه بين الناس والملوك وغلب الرفض على الزمان وعلى ملوك الاطراف "ابن الجوزي".

اضف تعليق