q
دول الخليج العربية لم تعد لها تلك الأهمية، الآن تركز الولايات المتحدة فقط على أمن إسرائيل. نلمس ذلك من خلال توجهات السياسة الاوروبية أو الامريكية، آخرها زيارة الرئيس بايدن للمنطقة من اهم اهدافها أمن اسرائيل. ولهذا دراسة وتقييم السياسة الأمريكية في الشرق الاوسط مرة ومرات عدة لا يلغي...

يعد الشرق الأوسط من أكثر المناطق صعوبة بالنسبة للحكومة الأمريكية. بعد الحرب العالمية الأولى، كان لدى الولايات المتحدة خطط كبيرة للشرق الأوسط. حددها الرئيس ويلسون في أربعة عشر نقطة لتحقيق طموحاته السياسية بعد الحرب. وتم تخصيص إحداها لأراضي الإمبراطورية العثمانية السابقة في الشرق الأوسط، على أساس تقرير المصير والديمقراطية.

رحبت شعوب المنطقة بالمشاركة الأمريكية، طمعاً بشعارات [حق تقرير المصير وتوسيع الليبرالية والديمقراطية]. في مؤتمر باريس للسلام عام 1919، رعت الولايات المتحدة لجنة كينغ كرين المكلفة بكشف وجهات نظر الشعبين السوري والفلسطيني حول مستقبل بلدهم، لسوء الحظ، ولدت العملية برمتها ميتة.

السبب، قبل الحرب العالمية الأولى، اتفقت بريطانيا وفرنسا سرًا على تقسيم الشرق الأوسط بينهما، وسيطرتا على المنطقة لمدة عقدين. عندما غادروا بعد الحرب العالمية الثانية، حلت محلهم الولايات المتحدة. أصبح الشرق الأوسط ذا أهمية خاصة للأميركيين ويصعب مغادرته، لذلك وسع الأمريكان أعمالهم في تشكيل سياسات المنطقة باستخدام أدواتهم العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والناعمة في الشرق الأوسط - وقد استجاب الشرق الأوسط، أصبحوا القوة الأجنبية المهيمنة في المنطقة. بعد الحرب العالمية الثانية انزلقت الولايات المتحدة في الحرب الباردة وكانت أولويتها هي مواجهة النفوذ السوفيتي أينما ظهر.

مع زيادة إنتاج النفط، أصبح الشرق الأوسط ساحة معركة حاسمة في المنافسة العالمية. لهذا السبب أدرك رؤساء الولايات المتحدة من كلا الحزبين أن أمن الدول العربية في الخليج له أهمية قصوى بالنسبة للولايات المتحدة. نتيجة لذلك، حددت الولايات المتحدة دورها في حماية صادرات النفط الخليجي. حينها كانت المخاطر الجيوسياسية على أمن النفط عالية خلال الحرب الباردة.

وكانت أمريكا تعتمد بشكل رئيسي على واردات الخليج من النفط. لهذا السبب قال جيمي كارتر في خطابه عن حالة الاتحاد عام 1980: إن الاتحاد السوفييتي يحاول الآن إنشاء موقع استراتيجي، وبالتالي، يشكل تهديدًا خطيرًا لحرية حركة النفط في الشرق الأوسط. ليكن موقفنا واضحًا تمامًا: أي محاولة من قبل أي قوة خارجية للسيطرة على الخليج الفارسي ستُعتبر تهديدًا للمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية وسيتم صد مثل هذا الهجوم بأي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية.

بعد إعلان كارتر "عقيدة كارتر"، بدأت عجلات البيروقراطية تدور وتغيرت أولويات البنتاغون. بمجرد الإعلان عن مبدأ كارتر، بدأ إنشاء القواعد العسكرية، وبدأت التدريبات، وتم التفاوض على الحقوق والالتزامات الأساسية، وتم التخطيط لتدخل عسكري أمريكي واسع النطاق لم يكن موجودًا من قبل. ثم في عهد خليفته، الرئيس ريغان، أنشأ البنتاغون القيادة المركزية للولايات المتحدة (CENTCOM). وكلفها بمهمة الإشراف على عمليات الشرق الأوسط، وتمركز الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية في البحرين لحماية دول الخليج.

مع انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات ونهاية الحرب الباردة. تغير المشهد الجيوسياسي وانخفضت المخاطر الجيوسياسية، وفي نفس الوقت انخفضت واردات الولايات المتحدة من نفط الشرق الأوسط. ونتيجة لذلك، انخفضت الأهمية الجيوسياسية لدول الخليج العربي. صحيح أن واردات النفط لم تكن السبب الوحيد للتحالف بين الولايات المتحدة والسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الاخرى قبل انهيار الاتحاد السوفيتي أومن اجل الحفاظ على وجود عسكري كبير في الشرق الأوسط. لكن السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى كانوا ايضاً حلفاء ماليين وأيديولوجيين مهمين في الحرب الباردة للولايات المتحدة ضد السوفييت.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بدأت الولايات المتحدة في اعادة تقييم أهمية عقيدة كارتر، خاصة في السنوات الأخيرة، ارتفعت الأصوات التي تشكك في أهمية المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة. في الوقت نفسه أصبح صانعو السياسة في الإدارات الأمريكية ينظرون إلى أمن الطاقة باعتباره مصدر قلق استراتيجي وليس اقتصاديًا. بالتالي ضعفت "عقيدة كارتر" واستقر الرأي بأن "دول الخليج العربية لم تعد لها تلك الأهمية". الآن تركز الولايات المتحدة فقط على أمن إسرائيل.

معظم القرن العشرين، كانت الجغرافيا السياسية هي القوة الدافعة وراء السياسة الخارجية الأمريكية. حاول الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون منع أي دولة من الهيمنة على مراكز القوة الإستراتيجية في أوروبا وآسيا. ولهذه الغاية، خاضت الولايات المتحدة حربين عالميتين وأربعة عقود من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. مع انهيار الإمبراطورية السوفيتية، تحقق الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية. لكن عصرًا جديدًا ظهر: عصر السياسة العالمية، والذي وضع العديد من التحديات الكبرى لصانعي السياسة الأمريكيين.

كان غزو صدام حسين للكويت أول تحد للنظام العالمي بعد الحرب الباردة منذ سقوط جدار برلين عام 1989. ثم، اتخذت السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط منعطفًا جديدًا. لم يتبلور بعد، منذ عام 1990 حتى أعلن دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني عام 2018. واتسمت هذه الفترة بالتدخل الأمريكي المفرط في الشرق الأوسط، مما أضعف موقفها الإقليمي في نهاية المطاف. منها حرب استعادة السيادة الكويتية، لم يكن للولايات المتحدة مصلحة في خوضها. انقسم الكونجرس 52-47 حول استخدام القوة ضد العراق، ورأى الرئيس جورج بوش الأب الفرصة لتأسيس "نظام عالمي جديد"، والالتزام بالمعايير العالمية والعمل بموافقة الأمم المتحدة. حتى لا يكون قرار تحرير الكويت تدخلاً أميركياً بحتاً.

في 29 نوفمبر 1990، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 678 الذي أعطى صدام حسين "الفرصة الأخيرة" للانسحاب من الكويت. إذا لم ينسحب، فإن القرار "يأذن للدول الأعضاء... باستخدام جميع الوسائل الضرورية للإكراه عليه. بدأت عملية عاصفة الصحراء في 17 يناير 1991. انضمت جميع دول العالم تقريبًا إلى التحالف باستثناء اليمن الذي دعم العراق، وظل الأردن على الحياد. لم يقدم حلف وارسو الدعم لكنه لم يتدخل. توصف هزيمة صدام حسين بأنها ذروة القوة الأمريكية والنفوذ العالمي. ولهذا قرر بوش استخدام المكانة الرفيعة للولايات المتحدة وشعبيته الشخصية في ذلك الوقت لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.

لكن الأمور لم تسر بهذه السهولة، عندما يتعلق الأمر بالتغييرات في النظام الإقليمي لبلدان ومجتمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يجب أن يؤخذ في الاعتبار دور ومكانة أوروبا كجهة فاعلة في المنطقة لأسباب مختلفة:

أولاً، من المرجح أن تصل زعزعة الاستقرار في المنطقة إلى أوروبا. ثانيًا، تعد أوروبا أيضًا طرفاً مهمًا عندما يتعلق الأمر بأي مناقشة للتغييرات في النظام الإقليمي بسبب الروابط التاريخية القوية والعلاقات بين الشعبين. وفي العقود الأخيرة حددت أوروبا رؤيتها لمنطقة البحر الأبيض المتوسط ثم جنوب اوروبا المجاور وسعت إلى تعزيز التعاون معها كوسيلة لمنع الصراعات من التأثير عليها. علاوة على ذلك، ان المخاوف الأمنية المجتمعية في أوروبا ليس لها علاقة بدول الخليج العربي بقدر ما لها علاقة بجنوب البحر الأبيض المتوسط الأقرب جغرافياً. بعد الانتفاضات العربية 2011، ركز الاتحاد الأوروبي نشاطه على تحديد دوره في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لقد حان الوقت لأوروبا لمراجعة سياساتها القديمة، وتوسيع نفوذها الإقليمي أو اتباع نهج مختلف اتجاه الصراع والتعاون في المنطقة.

تقليديًا، الاتحاد الأوروبي حدد القطبية الإقليمية في خمس دول: السعودية ومصر وإسرائيل وإيران وتركيا. برز طموح متزايد من دويلات خليجية صغيرة، أبرزها قطر والإمارات العربية المتحدة. ظهرت هذه الدويلات بسبب غياب قوة إقليمية مهيمنة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هذه الحقيقة، إلى جانب طموح القوى العالمية للتسلل إلى المنطقة، ولّدت أشكالًا مختلفة من انعدام الأمن. ظهرت أحداث ذات تأثير كبير فرضت تغير في نهج أوروبا تجاه هذه المنطقة منها الانتفاضات العربية في عام 2011 والغزو الأمريكي للعراق في عام 2003. لكن لم تحدث هذه الأحداث تغيير يذكر في الخطوط الرئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط.

عندما بدأت انتفاضة الربيع العربي في عام 2011، كان على الإدارة الأمريكية مساعدة تلك الحركات، لكن الذي فعلته فقط قدمت إشارة متواضعة إلى ضرورة الإصلاح السياسي والاجتماعي. لهذا ولد الربيع العربي لعام 2011 ميتًا. على الرغم من المظالم الاقتصادية والسياسية الكامنة وراء الانتفاضات، فقد فشلت الانتفاضات في الإطاحة بالأنظمة القائمة والمفلسة أيديولوجيًا وأخلاقيًا والفاسدة سياسياً، والتي أدت إلى استمرار عدم المساواة الإقليمية والاجتماعية الداخلية.

ولسوء الحظ، اعتمدت الانتفاضات الشعبية على ردود فعل الجيش والقوى الأمنية. لكن الدرس المستفاد من الانتفاضات الشعبية هو أن هناك ترابطاً واعتمادًا متبادلًا بين شعوب المنطقة وكيف يمكن لطرف أن يتأثر بآخر سواء كان جارًا أو منطقة بعيدة. وهذا يؤكد ايضاً أمرا مهما حول ضرورة وحدة الساحات بيروت والقدس وصنعاء وبغداد وغيرها. من النتائج السلبية للربيع العربي 2011 انهيار النظام القديم "النظام العربي" وكان هذا العنصر الأهم الذي سهل صعود قوى غير عربية وخلق الظروف لتوازن جديد تكون فيه دول الخليج الغنية مركز الثقل في المنطقة.

بعد الربيع العربي، برز حدثان مهمان أزعجا الجغرافيا السياسية الإقليمية. الأولى هي المواجهة بين إيران والسعودية، والتي تتجاوز بكثير الصدام الطائفي السني الشيعي الافتراضي. الذي هو في الحقيقة صدام بين وجهتي نظر متعارضتين للنظام الإقليمي. الثاني هو المواجهة بين دول متناغمة نوعًا ما مع جماعة الإخوان المسلمين -قطر تلعب دورًا مهمًا في هذا المعسكر- وآخرون يرون هذه الحركة على أنها حركة تشكل تهديداً محلياً واقليمياً على سبيل المثال الإمارات العربية المتحدة، التي شاركت في قمع مظاهرات في البحرين عام 2011، شاركت في العدوان على اليمن عام 2015 وساهمت في أزمة مجلس التعاون الخليجي في عام 2017، ولديهم نفوذ على المستوى الإقليمي ويمارسون ضغوطًا على اللاعبين الخارجيين للانحياز إلى أحد الجانبين.

إن مركزية الخليج الجديدة في الجغرافيا السياسية الإقليمية تتحدى أيضًا تصميم سياسات وأدوات الاتحاد الأوروبي. تقليديا، كان هناك تمييز واضح بين بلدان جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط من جهة، وبقية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك الخليج، من جهة أخرى. علاوة على ذلك، تمت هيكلة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي حول برنامج التعاون متعدد الأطراف بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي.

الا إن الخلاف بين دول مجلس التعاون الخليجي، أثار قلق اوروبي من سياسات دول مجلس التعاون الخليجي، الشكوك حول المبادئ الأساسية التي تأسست عليها المنظمة وأثار جدلاً حول مخاطر تفككه أو تحوله في أحسن الأحوال قشرة فارغة.

لذا دول الخليج العربية لم تعد لها تلك الأهمية، الآن تركز الولايات المتحدة فقط على أمن إسرائيل. نلمس ذلك من خلال توجهات السياسة الاوروبية أو الامريكية، آخرها زيارة الرئيس بايدن للمنطقة من اهم اهدافها أمن اسرائيل. ولهذا دراسة وتقييم السياسة الأمريكية في الشرق الاوسط مرة ومرات عدة لا يلغي جدواها وأحداث التاريخ تبقى محط تحليل تتجدد في غاياته وادواته. ونتائجها تعيننا على فهم ماضينا وحاضرنا وتساعدنا على اختيار الطريق الصحيح لمستقبلنا وهذا يستحق الاهتمام.

* كاتب ومحلل سياسي يمني

اضف تعليق