q
النظام البرلماني إذا أريد له التطبيق الصحيح في الدساتير الجمهورية لابد من انتخاب رئيس الجمهورية من قبل هيئة خاصة، لأن انتخابه من قبل البرلمان قد يجعله خاضعاً لأحد المجلسين أو لكليهما، وانتخابه من قبل الشعب على درجة واحدة أو درجتين قد يجعله مستقلاً تماماً عن البرلمان...

لقد كان من أحد الأسباب الرئيسية لحالة الاستعصاء الثقيلة التي نعيشها في الوقت الحاضر هو الاجتهاد في طريقة انتخاب رئيس الجمهورية وهي المفتاح لتشكيل الوزارة حيث رئيس الجمهورية هو المعني بتكليف مرشح الكتلة الأكثر عددا لتشكيل مجلس الوزراء.

ولأجل توضيح طريقة انتخاب رئيس الجمهورية في عدد من النظم الجمهورية البرلمانية الفيدرالية ومنها العراق او غيرها، تم اعداد هذه المادة للتعرف على تجارب بعض الدول من حيث تحديد الجهة المختصة بالانتخاب وعدد جولات الاقتراع والنسبة المطلوبة لكل منها للفوز بالمنصب، وما هي الإجراءات المتبعة إذا أخفق البرلمان في انتخاب رئيس الجمهورية.

في الفقه الدستوري والقانون المقارن

يرى بعض فقهاء القانون الدستوري إلى أن النظام البرلماني إذا أريد له التطبيق الصحيح في الدساتير الجمهورية لابد من انتخاب رئيس الجمهورية من قبل هيئة خاصة، لأن انتخابه من قبل البرلمان قد يجعله خاضعاً لأحد المجلسين أو لكليهما، وانتخابه من قبل الشعب على درجة واحدة أو درجتين قد يجعله مستقلاً تماماً عن البرلمان، وقد يدفع الى الاستبداد والطغيان، ومن هنا يكون انتخاب الرئيس من قبل هيئة خاصة مستقلة أمراً لابد منه لنجاح هذا النظام في الدول الجمهورية.

ففي الدول ذات النظم الفيدرالية والتي تتشكل السلطة التشريعية من مجلسين، تتشكل منهما هيئة خاصة تسمى (الجمعية العامة) وهي المعنية بانتخاب رئيس الجمهورية، وتضم هذه الهيئة: المجلس المنتخب من قبل الشعب وهو مجلس النواب والمجلس الثاني: يتكون من ممثلي مجالس الأقاليم (الولايات) والمحافظات وبعض ممثلي المنظمات المهنية والاجتماعية، وعلى أساس التمثيل النسبي، ان هذه الطريقة توسع من رقعة المشاركة، وأيضاً تساهم في تحرير رئيس الجمهورية من سلطة مجلس النواب حتى لا يكون تحت سلطته الدائمة.

فقد أخذ بطريقة الجمعية العامة الدستور الاسباني لسنة 1936 المادة 68، وكذلك الدستور الإيطالي لسنة 1946 المادة 83، والدستور الفرنسي لسنة 1946، وإلى حد قريب القانون الأساسي الألماني لسنة 1949، وكذلك الدستور الهندي لسنة 1949 المادة 54 / أ، ب.

ألمانيا:

رسمت المادة 54 من القانون الأساس الألماني لسنة 1949 طريقة لانتخاب الرئيس عن طريق تشكيل جمعية عامة لهذا الغرض فقط، نصفهم من مجموع عدد أعضاء مجلس النواب الألماني والنصف الآخر من ممثلي الولايات الفيدرالية التي يبلغ عددها ستة عشر ولاية، وتجري الانتخابات على ثلاث جولات في الأولى والثانية يتطلب الفائز الحصول على الأغلبية المطلقة، أما الجولة الثالثة تشترط الحصول على اعلى الأصوات بين المتنافسين.

وعلى هذا الأساس فاز فرانك فالتر ستاينمار الرئيس الحالي للاتحاد الألماني للمرة الثانية وفي الجولة الأولى بالأغلبية المطلقة حيث عقدت الجمعية العامة التي عدد أعضائها 1472 نصفهم من مجلس النواب الاتحادي والنصف الآخر من ممثلي الأقاليم (الولايات) حيث حصل على 1045 والتي تمثل 73% من الأصوات.

إيطاليا

نظم الدستور الإيطالي عملية انتخاب رئيس الجمهورية من خلال تحديده الهيئة التي تنتخبه والنسبة المطلوبة للفوز بالموقع وكذلك عدد الجولات. وبالنسبة للهيئة المختصة التي تنتخب الرئيس، يتشكل مجلس انتخابي يجتمع في مقر مجلس النواب يتكون من أعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ وممثلي الأقاليم التي عددها عشرين إقليم، وقد اشترط الدستور الحصول على ثلثي أصوات المجلس الانتخابي في الجولات الثلاث الأولى للفوز موقع الرئيس، اما الجلسات الأخرى الحصول على الأغلبية المطلقة.

مع العلم فاز الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا الحالي للمرة الثانية بمنصبه بعد ثمان جولات من الاقتراع ابتدأت بتاريخ 24 كانون الثاني 2022 وانتهت بتاريخ 29 من نفس الشهر، حيث لم يحصل أي من المرشحين على اغلبية الثلثين من الجولات الثلاث الأولى من الاقتراع وكذلك لم يحصل على الأغلبية المطلقة في الجولات الأربعة التي بعدها، ونال منصب الرئيس في الجولة الثامنة بعد حصوله على 729 صوت من مجموع عدد أعضاء المجلس الانتخابي البالغ عددهم 1009 عضوا.

اليونان

حدد الدستور اليوناني النافذ، انتخاب الرئيس اليوناني من قبل مجلس النواب تحديدا في جلسة خاصة قبل شهر واحد من ترك الرئيس، وتٌمدد فترة الرئيس عند حالات الحرب أو عند عدم اكتمال التصويت على الرئيس في الموعد المحدد.

وتجرى عملية انتخاب الرئيس على مرحلتين الأولى بثلاث جولات والثانية أيضا بثلاث جولات ووفق النسب التالية:

المرحلة الأولى:

الاقتراع الأول يتطلب الحصول على ثلثي أصوات مجلس النواب.

الاقتراع الثاني: إذا لم يتم الحصول على نسبة الثلثين، تجرى عملية الاقتراع بعد خمسة أيام، للفوز بالمنصب يتطلب الحصول على ثلثي أصوات.

الاقتراع الثالث: إذا لم يتم الحصول على نسبة الثلثين، وتجرى عملية الاقتراع الثالثة بعد خمسة أيام وهذه المرة يتطلب حصول المرشح على ثلاث أخماس أعضاء مجلس النواب.

وإذا لم ينل أحد المرشحين هذه النسبة يعتبر مجلس النواب بحكم المنحل خلال عشرة ايام، كإجراء جزائي من قبل المشرع الدستوري تجاه البرلمان لتنصله عن أداء اختصاصه. وبعد انتخاب برلمان جديد تبدأ مرحلة جديدة.

المرحلة الثانية:

الاقتراع الأول: يتطلب الحصول على ثلاث أخماس أعضاء مجلس النواب.

الاقتراع الثاني: إذا لم يحصل أي مرشح على نسبة الثلاث اخماس، تُجرى عملية التصويت بعد خمسة أيام، ويفوز المرشح الحاصل على الأغلبية المطلقة أي 50 زائد واحد.

الاقتراع الثالث: إذا لم يفوز أي من المرشحين في الجولة السابقة، تجرى عملية التصويت بعد خمسة ايام، ويكون التنافس بين أعلى مرشحين إثنين للحصول على أعلى عدد من الأصوات. الفائز الذي يحصل على الأغلبية.

ومن الجدير بالذكر فقد فازت القاضية إيكاتيريني ساكيلارويولو كأول امرأة لمنصب رئيس الجمهورية في الوقت الحالي، عندما صوت لها البرلمان وفي الجولة الأولى بأغلبية ثلثي الأصوات، حيث حصلت على 261 صوت من 300 صوت وهو مجموع عدد أعضاء مجلس النواب اليوناني.

العراق

لقد نظم الدستور العراقي لسنة 2005 طريقة انتخاب رئيس الجمهورية من خلال تحديد الجهة المختصة لانتخابه، وهو مجلس النواب. أما طريقة الانتخاب تجري لجولتين وفي نفس اليوم وفق الآتي:

الجولة الأولى: ينتخب مجلس النواب من بين المرشحين رئيساً للجمهورية بأغلبية ثلثي عدد أعضائه (المادة 70/ اولاً)

الجولة الثانية: وإذا لم يحصل أي من المرشحين على الأغلبية المطلوبة يتم التنافس بين المرشحين الحاصلين على أعلى الأصوات ويعلن رئيساً من يحصل على أكثرية الأصوات في الاقتراع الثاني (المادة 70 / ثانياً)

ووفق هذه الالية أجريت أربع دورات انتخابية لانتخاب رئيس الجمهورية بعد التصويت على الدستور النافذ، حيث أوجب الدستور في الدورة الأولى تشكيل مجلس رئاسة من ثلاثة أشخاص للحلول محل رئيس الجمهورية لدورة واحدة فقط، وبعد انتخاب الدورة الثانية، فاز السيد جلال الطالباني في المرة الثانية كرئيس للجمهورية، وقد أجريت الانتخابات على جولتين، حيث لم يستطيع السيد جلال الطالباني أن يحرز ثلثي الأصوات المطلوبة في الجولة الأولى، وحصل على 163 مقابل حصول منافسه على (12) صوت فقط، ومن الجدير بالذكر استغرقت الفترة الزمنية منذ انتخاب مجلس النواب في 7/3/2010 وحتى يوم انتخاب رئيس الجمهورية الذي تم في 11/11/2010 ما يقارب 245 يوماً، وذلك لعدم اتفاق الكتل السياسية على توزيع المناصب الوزارية، مما أدى إلى وقوع انتهاكات لنصوص الدستور.

وفي الدورة الثالثة فاز الدكتور فؤاد معصوم رئيساً للجمهورية، بعد أن خاض جولتين من الاقتراع، حيث لم ينل أي من المرشحين في الجولة الأولى على نسبة الثلثين المطلوبة، ونال لقبه بعد حصوله على 211 صوتا في الجولة الثانية.

اما في الدورة الرابعة فقد أصبح الدكتور برهم صالح رئيس للجمهورية بعد ان خاض جولتين من الاقتراع، ففي الأولى لم يحصل على النسبة المطلوبة وهي الثلثين وفي الجولة الثانية حصل على الاكثري والتي كانت 219 صوتا.

الخلاصة

لقد تم تنظيم طريقة انتخاب رئيس الجمهورية في النظم البرلمانية بطرق متباينة حسب طبيعة كل نظام، فإذا كان النظام فيدرالي تتشكل جمعية عامة تجتمع لغرض انتخاب رئيس الجمهورية تضم ممثلي الشعب وهم أعضاء مجلس النواب وممثلي الأقاليم او الولايات لضمان المشاركة الواسعة (النموذج الألماني والهندي)، اما في النظم البسيطة او الموحدة فيكون الانتخاب عبر مشاركة مجلسي السلطة التشريعية وهما مجلس النواب ومجلس الشيوخ (النموذج الإيطالي)، او يكون انتخاب رئيس الجمهورية من خلال مجلس النواب فقط مع تحديد ضوابط مشددة (النموذج اليوناني).

وحددت عدد من الدساتير النسب المطلوبة للحصول عليها عند انتخاب رئيس الجمهورية وهي بثلثي الأصوات، وإذا لم تتحقق هذه النسبة تجرى جولات أخرى من التصويت حتى تصل الى الفائز من يحصل على أعلى الأصوات.

وقد استبق الدستور اليوناني مجلس النواب بوضع نص على حله، إذا أخفق في انتخاب رئيس الجمهورية وفق نسبة التصويتات المطلوبة، ويعتبر هذا إجراء رادع يجبر الأحزاب على القيام بعقد التحالفات فيما بينها لانتخاب رئيس الجمهورية.

أما في العراق فقد تم اعتماد انتخاب رئيس الجمهورية من قبل مجلس النواب فقط بجولتين: الأولى تتطلب الحصول على الثلثين والثانية الحصول على اعلى الأصوات، وعلى هذا الأساس تم القيام بأربعة انتخابات لرئيس جمهورية، دون أي إشكاليات تُذكر من ناحية الجهة المختصة، او عدد الجولات والنسب المطلوبة للحصول عليها في كل منها.

وإن من أسباب حالة الانغلاق والاستعصاء الذي شهدناها في تشكيل الحكومة في هذه الدورة، هو اجتهاد المحكمة الاتحادية العليا التي اشترطت ان يكون نصاب عقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية بحضور ثلثي أعضاء مجلس النواب، مما خلق ما يسمى بالثلث المعطل، وقد جاء هذا الاجتهاد بناء على طلب تقدم به رئيس الجمهورية للمحكمة، وهذه سابقة لم يتم اشتراطها في الدورات الأربعة التي مرت، مع العلم ان المادة 59 أولا من الدستور نصت: يتحقق نصاب انعقاد جلسات مجلس النواب بحضور الأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، وهذا نص مطلق غير قابل للتأويل.

وقد اشترط المشرع الدستوري العراقي ان يتم انتخاب جديد للجمهورية خلال ثلاثين يوما من تاريخ اول انعقاد للمجلس (المادة 72، أولا، ب) مع العلم كان أول انعقاد لجلسة مجلس النواب تمت بتاريخ 9 كانون الثاني 2022، وأن عدم انتخاب مجلس النواب لرئيس الجمهورية قد أعاق مسار عمل المؤسسات الدستورية للدولة، وأن ذلك يمثل اختلال بوضع السلطة التشريعية لتخليها عن اختصاصها التشريعي مما يتطلب من المحكمة الاتحادية العليا منع أي مخالفة للدستور سواء كانت عمدا او بدونه او عن اهمال.

ان غياب بعض النصوص الدستورية المنظمة لعمل المؤسسات الدستورية وفي ظل صعوبة القيام بالتعديلات الدستورية، يتطلب من المحكمة الاتحادية العليا التصدي لهذه النواقص والثغرات من خلال اصدار القرارات التي تجعل من تسيير عمل مؤسسات الدولة بشكل منتظم ومضطرد وتيسر استمرار مصالح المواطنين.

اضف تعليق