q
إسلاميات - عقائد

هل النظم من نسج الخيال البشري؟

اسئلة حول برهان النظم(3)

النظم هو عبارة عن الترابط والتناسق والتعاون بين أجزاء مجموعة واحدة لتحقيق هدف معين بحيث لو ارتفع أحد تلك الاجزاء لاختلت المجموعة وفقدت الاثر المترتب عليها. فالساعة وغيرها من المصنوعات التي يتسم تركيبها بالترابط والاتساق والتعاون بين أجزائها على النحو المذكور، هي من مظاهر النظام بالمعنى...
بقلم: الشيخ جعفر الهادي

الإشكال

ليس في الكون أي واقع للنظام الذي يدعيه الناس فان ما يسميه الانسان منظماً، انما هو من نسج تخيله، أي انه بتخيله يضفي على الكون وما فيه «نظماً» كما يفعل ذلك مثلا في ليلة مقمرة عندما تقع عيناه على قطع متناثرة من الغيوم فيتخيل احداها على هيئة أسد، والأخرى على هيئة بعير، في حين نعلم أنه ليس هناك أية أنظمة بحسب الواقع، بل هي أشباح وصور وأشكال خيالية نشأت من تخيل ذلك الانسان المتطلع في السماء، ولو صح اطلاق النظام عليه لما كان له مبدأ الا حركة الريح غير الشاعرة بفعلها فليكن هذا النظام المتصور في العالم مثل هذه الأشباح والصور، أي أن النظام المدعي في الكون اما انه أمر خيالي من نسيج الخيال، أو انه على فرض وجوده ـ نظير السحب التي أوجدتها التصادفات.

ويشبه هذا ما اذا ملأ أحد بندقية صيد بكمية من الصبغ الاسود ـ مثلا ـ ثم اطلق ذلك الصبغ بإطلاقة من بندقيته على ستار أبيض، فانتشر الصبغ في ذلك الستار وبرزت من ذلك صور بديعة تكاد تشبه حيواناً أو زهرة، في حين نعلم أن كل ذلك لم يتحقق عن شعور وقصد فالنظام الحاصل في الستار من رش الصبغ وليد التصادف.

الجواب:

ان هذا الاشكال ناشئ من خطأ المعترض في تفسيره للنظم، وتحديده لمفهومه.

وبعبارة أخرى أن صاحب هذا الاعتراض استخدم وصف النظم في ما لم يكن من مصادیق النظم واليك بيان ذلك:

أن النظم ـ كما سبق تعريفه ـ هو عبارة عن «الترابط والتناسق والتعاون بين أجزاء مجموعة واحدة لتحقيق هدف معين بحيث لو ارتفع أحد تلك الاجزاء لاختلت المجموعة وفقدت الاثر المترتب عليها».

فالساعة وغيرها من المصنوعات التي يتسم تركيبها بالترابط والاتساق والتعاون بين أجزائها على النحو المذكور، هي من مظاهر النظام بالمعنى الذي عرفت للنظم.

فاذا كان هذا هو حقيقة النظام فلندرس معاً المثالين الذين ضربهما المعترض لنرى هل هما من مصادیق النظام أم لا؟

ان النظر في ذينك المثالين يقودنا إلى الحقائق التالية، أو انه يتطلب طرح الامور التالية:

أولا: هل قطع السحب المتناثرة التي يتخيلها الناظر في السماء على هيئات وصور حيوانية معينة تخضع لمثل هذه الترابط والتعاون والتناسق الذي تترتب عليه غاية معينة حتى يصلح للتمثل به في المقام أم لا؟

لا شك انه لا يوجد مثل هذه المواصفات في تلك القطع المتناثرة من السحب، فأي اتصال يحكم على أجزائها؟ وأي تعاون يقوم بينها وبين بقية القطع؟ وأي هدف ينشد من أشكالها التي تخيلها الرائي؟

فهل يكون مجرد انضمام بعضها إلى بعض على وجه الاتفاق اتصالا وتعاوناً على الوجه الذي يحقق غاية خاصة؟

ان أقصى ما يمكن أن يدعيه الانسان في هذه السحب هو أنها اتخذت لنفسها أشكالا بديعة وهيئات جميلة تستحسنها الطباع.

وهكذا الحال في الصبغ المرشوش من البندقية بهدف اللعب على الستار الأبيض الذي تتكون منه هيئات جميلة واشكال بديعة.

ولكن هذا الجمال الخيالي شيء، والنظام الملحوظ في الكون بالمعنى الذي ذكرناه للنظام شيء آخر.

والشاهد على أن ذلك الجمال الذي ربما يدركه الانسان المرهف الذوق من السحب المتبددة في الجو، أو الصبغ المرشوش على الستار هو غير النظم، اختلاف الناس في درك هذا الجمال بل واعتباره.

فليس هذا الجمال مما تدركه جميع الاذواق بشكل واحد فقد يستحسنه بعض، ويصفه بالجمالية وقد لا يستحسنه آخرون ولا يصفونه بذلك، في حين لا يختلف في النظام السائد في الساعة أحد، كما لا يرتبط تقييمه باختلاف الأذواق والسلائق، وهذا هو الفرق الواضح بين المقامين وهذا هو المصحح لان ينسب أحدهما الى انه من قبيل نسج الذهن دون الأخر.

فان كل من التقت الى الساعة اعترف فوراً بوجود نظام سائد على اجزائها دون اختلاف، وهذا بخلاف السحب المتناثرة أو الصبغ المرشوش فان كل واحد من الناظرين اليها يصفها حسب ما يؤدي اليه تخيله الذي يختلف عن تخيل غيره.

فقانون الجاذبية العامة، وانكسار النور وقوانين الزهرة مما لا يختلف في فهمها الشرقي والغربي، مهما اختلفت سلائقهما واذواقهما اذ ليست للسلائق والاذواق أي دخالة أو مجال في تقييمها لكونها اموراً واقعية وذات معايير ثابتة في معزل عن ذوق الانسان وتخيلاته وتصوراته.

وثانیاً: ان النظام انما يكون بحيث يمكن أن يصل الانسان بالسير على نهجه، واتباعه إلى نتائج معلومة وقطعية، كما نشاهد ذلك في الحياة البشرية.

فالانسان يبني أكثر نشاطاته التكنولوجية ومخترعاته العلمية على اساس النظم والنواميس والقوانين الطبيعية التي اكتشفها من الكون المحيط به.

ولهذا استطاع أن يطلق الاقمار الصناعية إلى الفضاء، وينزلها على القمر في الوقت المحدد وبالسرعة المعينة، وفي المكان المطلوب لها. ولولا وجود هذه النظم لما استطاع أن يتوصل الى معرفة النتائج سلفاً، ولما استطاع أن يتنبأ بموعد الهبوط على وجه التحديد، ومكان النزول بشكل معلوم ومطلوب، وبالتالي لما استطاع أن يصل الى هذه الغايات من دون ان تخطأ حساباته.

في حين لا يمكن بناء هذه الاعمال التي تستلزم المحاسبة والنظام، على الصور والهيئات المتخيلة والتي يتصورها المعترض انها من مصادیق النظام.

ثالثاً: أن النظم والمنظّم قابلان للتكرار اذا روعيت نفس المحاسبات والنسق فيمكن مثلا ایجاد آلاف الساعات من نوع الساعة المعينة بينما لا تكون الصور المتخيلة في المثالين السابقين قابلة للتكرار، فقد لا تكرر نفس المناظر التي حدثت من أول اطلاقة للأصباغ بالبندقية، وان تكرر الاطلاق والرش بذات البندقية عدة مرات.

* مقتبس من كتاب الله خالق الكون

اضف تعليق