q
تغيير عقلية القيادة ودورها في تنفيذ هذه الاولويات هو الفيصل في انجاز الحكم الرشيد عبر اصلاح اختلالات النظام السياسي ومجابهة شاملة للفساد وليست جزئية مع وضع استراتيجيات قابلة للتطبيق تقدم الامن والخدمات للمواطنين، هذه الاولويات والاستحقاقات الضرورية للمرحلة القادمة التي تقع على عاتق القيادات السياسية والحكومية للمرحلة القادمة...

تحديد الأولويات والاستحقاقات في عملية البناء والاصلاح لا يقتصر فقط على معالجة الإخفاقات السابقة، إنما يتعلق أيضاً بتحقيق الإنجازات للمرحلة القادمة، اولويات اي قيادة سياسية او حكومة هي: تعزيز الاقتصاد والأمن القومي والهوية الوطنية وإصلاح النسيج الاجتماعي، وتحسين الوضع الديموغرافي، وتحسين نوعية الحياة والضمان الاجتماعي، وتنفيذ الإصلاحات في التربية والتعليم والرعاية الصحية، سعيا وراء تحقيق مصالح مواطنيهم.

قدر تعلق الامر بالواقع العراقي بعد انتخابات ٢٠٢١، وتعثر مسارات تشكيل الحكومة القادمة وقبلها حصول تحولات وتصدعات في التفاهمات والتحالفات السياسية وطرق تشكيل الحكومة والرئاسات الثلاث ومع اختلاف الاوزان السياسية، فان كل ذلك يؤشر ان العراق سيدخل بشكل مؤكد منعطفات حرجة يكون فيها الاصلاح والتغيير والبناء في كثير من الأحيان مضغوطاً بشدة، لان الفترة التي يمر بها العراق تتميز بالسيولة وعدم اليقين والتدفق غير المؤسسي، لكن يمكن ان تؤدي القيادات السياسية النخبوية دورا اساسيا في مواجهة هذه الضغوطات والتحديات وتمثل طريقة اختيار الحكومة القادمة وتحديد اولوياتها دورا سببياً حاسماً في تحديد المسار الصحيح.

اذ ان المنعطفات الحرجة هي فترات استثنائية والفرص هي القاعدة، وبالتالي فإن استثمار هذه الفرص من قبل القيادات السياسية والفاعليين المحليين على نطاق واسع يعد أمراً ممكناً وأكثر إلحاحاً، اذ ستشكل السياسات والإجراءات المتخذة الآن بشكل متناسب المسارات المستقبلية لإصلاح وبناء الدولة.

ولكن يجب وضع الأولويات الملحة بشكل منظور وتحديد القضايا التي يمكن للقيادات السياسية والحكومية معالجتها على نطاق واسع، ومع وحدة المجتمع ككل للجهود المطلوبة لتحقيق نتائج حقيقية، تعالج الاخفاقات وتحقق الانجازات، وتتمثل هذه الاولويات والاستحقاقات بمسارين: الاول النظام السياسي، والثاني القيادة السياسية.

أ- النظام السياسي

يعد النظام السياسي المستودع والممر الاساس لعملية اصلاح وبناء الدولة، فكلما كان هذا النظام مصمماً بشكل يعكس استيعابه للدولة ومؤسساتها ومواطنيها، ككل وليس معبرا عن الخصوصيات الفردية والذاتية للجماعات والافراد، كلما كانت عملية البناء محفزة وفاعلة، اذ تتأثر كل المجالات والابعاد الاخرى المذكورة بطبيعة النظام السياسي، كالنمو الاقتصادي والاستجابة للمطالب والشفافية في الاداء.

لا يمكن ان تسير عملية بناء الدولة الفاعلة في العراق بشكل صحيح الا اذا سارت بشكل متوازي مع عملية تصحيح اختلالات وعقبات النظام السياسي حتى تستكمل مسارات التحول الديمقراطي بالمجالات كافة، لان صمود واستدامة مسارات البناء الاخرى ستكون موضع شك وتزداد فرص فشلها.

ولهذا على القوى والقيادات السياسية ايلاء مسألة اصلاح النظام السياسي وفق السياقات الدستورية والقانونية بما ينسجم مع الواقع العراقي ومتطلباته اولى الاولويات والاستحقاقات التي يجب ان تركز عليها هذه القوى، اما باستحداث نظام سياسي جديد يتفق عليه، يتجاوز اخفاقات النظام البرلماني الحالي، او تعديل هذا النظام وتقويمه ومعالجة الاستعصاءات الماثلة في تطبيقاته الدستورية والسياسية بما يعمل على موائمته للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ويختزل كل التناقضات والتقاطعات والحساسيات والانسدادات والتفسيرات الخاطئة لطبيعة هذا النظام، ويقتضي في هذا الحال اجراء تعديلات دستورية جوهرية.

وتتطلب عملية تصحيح الاختلالات وهو السيناريو الاقرب للواقع، من خلال مراجعة الدستور العراقي، فالدستور هو الورقة الاهم التي تحدد كل شيء في الدولة وتقود عملية البناء والاستقرار والاستدامة فيما بعد، فالدستور هو القانون الاعلى الذي يحدد القواعد الاساسية لشكل الدولة ونظام الحكم وشكل الحكومة وينظم السلطات العامة فيها، قدر تعلق الامر في العراق يجب ان يتم العمل اما على اجراء تعديلات جوهرية لكل الثغرات التي اختبرتها الممارسة السياسية مع تكيفات قانونية قادرة على مواكبة التحولات الاجتماعية والسياسية التي مر بها العراق بعد 16 عام من تغيير النظام السابق، وحسم العديد من المواد العالقة والقابلة للتأويل ومنها المادة 76 المتعلقة بتفسير الكتلة النيابية الأكثر عددا لجعلها منسجمة مع النظام الانتخابي الذي تم إقراره، والذي افضى إلى اعتماد آلية النظام الفردي لأعلى الأصوات ذو الدوائر المتعددة في المحافظة الواحدة لحسم إشكالات تشكيل الحكومة وقبلها تكليف رئيسها.

وأيضا حسم المادة 65 من الدستور المتعلقة بمجلس الاتحاد ليكون النظام برلماني فعلا، لا نيابي فقط، والنظر بمسألة الفيدرالية ومجالس المحافظات وقضية العلاقة بين الإقليم والسلطة الاتحادية والمحافظات وإعادة رسم هذه العلاقة بما ينسجم والواقع السياسي الحالي، ومنها المادة 140 والمواد 111 إلى 115، وكذلك إعادة النظر بالمادة 81 والمادة 61 و 64 المتعلقة بتوضيح آليات استقالة الحكومة، وسحب الثقة منها ودور رئيس الجمهورية والمدد الدستورية وماهية بدائل عدم الالتزام بتلك المدد وماذا يحصل، وأيضا تثبيت وضع حكومة تصريف الأعمال وتكييف وضعها الدستوري والقانوني، والأهم من ذلك كله رفع الفيتو الوارد في المادة 142 الخاصة بتعديل الدستور ورهنه بإرادة ثلثي ناخبي ثلاث محافظات وجعل التعديلات الدستورية بأغلبية النصف زائد واحد لجميع ناخبي محافظات العراق ليتحول الدستور العراق من دستور جامد إلى دستور مرن حيوي بالإمكان تعديله حسب المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

هذه التعديلات ضرورية لسحب بساط عجز الطبقة السياسية الحالية عن تطبيق الدستور كما هو، فهي تستغل الثغرات فيه من جهة، وتنتهكه من جهة أخرى، ولم تقدم تنازلات أو حلول، وفي حال الوصول الى حالة العجز في تعديل الدستور بسبب الفيتو الجغرافي او فيتو الثلث المعطل الذي يحتاج الى معالجة فيما يخص النصاب اللازم لانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية اضافة الى نصاب الثلثين اينما ورد في الدستور خاصة نصاب تشريع قانون المحكمة الاتحادية، فبالإمكان الاتفاق السياسي على انجاز ملحق اضافي للدستور يتضمن مجموعة من القواعد الدستورية وفقا لقواعد تعديل الدستور النافذ بموجب المادة ١٤٢ منه تراعي ما جاء في المادة ١٢٦، يعالج كل الارتباكات والغموض للمواد القابلة للتأويل ويعمل على اجتراح مرحلة سياسية جديدة تتضمن احتواء مطالب واحتياجات الشعب العراقي من حيث شكل النظام السياسي ومخرجاته بشكل كامل وعرض هذا الملحق على الاستفتاء، والعمل على تطبيق هذه التعديلات الوارد في هذا الملحق.

ب- القيادة السياسية

رغم ان النظام السياسي العراقي برلماني ودستوره من اكثر الدساتير تقدما في المنطقة من ناحية الحقوق والحريات ونوعية النظام السياسي ورغم احتياجه الى التعديلات المذكورة اعلاه، الا ان اخفاق الاداء الانجازي للحكومات المتعاقبة لم يكن سببها طبيعة ونوعية وشكل النظام السياسي والدستوري فحسب، انما ايضا بسبب اخفاق القيادات السياسية الحاكمة التي تختلق ازمات تحت مبررات ان النظام السياسي مأزوم، هذه القوى جعلت النظام السياسي قائم على أساس المحاصصة الطائفية والسياسية والتوافقية مستغلة الثغرات الدستورية والقانونية لتغطية العجز في إيجاد حلول ومعالجات للإحباطات السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية لتستأثر بالسلطة والمصالح عبر التشبث بالهويات والمذاهب والخوف من الآخر ووضع الهاجس الأمني شماعة لعدم تقديم أي شيء لتكون خانة ممارسة الفساد والسكوت عنه بديلا عن خانة الإنجاز والنجاح.

فالقيادة السياسية الفاعلة والوطنية هي الشرط السابق لعملية تصحيح ومعالجة اختلالات النظام السياسي، ولا يمكن ان تبنى الدول او اصلاح نظامها ومؤسساتها، دون وجود قيادة سياسية ناهضة وواعية وفاعلة، فالقيادة تعد مرتكز اساسي في بناء او اعادة بناء الدولة واصلاحها، بل الاهم من بين العوامل والمرتكزات، ولا يمكن مغادرة مراحل الاخفاق والتراجع والتحول الى حالة الاستقرار والنجاح مالم تكن هذه القيادة حاملة ومستوعبة ومؤمنة بالبناء والاصلاح والتغيير، خاصة في الدول الخارجة من الصراع والتي شهدت تحولات سياسية شاملة على مستوى النظام السياسي برمته، فهنا تنبع اهمية القيادة في اعادة البناء لمواجهة واقع انهيار وغياب المؤسسات وتغيير البنى السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية.

فعلى عاتق هذه القيادة التي يجب ان تتمتع بخصائص بنائية وظيفية، مسؤولية تحديد أولويات البيئة الاجتماعية (المجتمع) ومعرفة اهتماماتها، وكيفية استثمار وتوظيف موارد وعوائد الدولة بشكل ايجابي كما أنها تحدد الشكل الأنسب لنظام الحكم واسلوبه في المجتمع الذي تقوده، واهم المعوقات التي يجب ان تتلافاها القيادة في مجتمعات مابعد الصراع لضمان اعادة البناء: هو فهم القيم والايديولوجيات والممارسات الوجدانية للشعب الذي تحكمه، وليس استغلالها، ولهذا يجب ان يكون هنالك تفاعل وتواصل بين القيادة والمجتمع بمختلف شرائحه وان يكون هنالك فهما متبادلا للسياق العام والمشاكل المختلفة وكيفية مواجهتها ليصب بالنهاية في مصلحة بناء الدولة او اعادة بناءها واصلاحها، اذ ان نجاح هذه العملية البنائية في جوهرها ترتبط بوجود مثل هذا التفاعل المستمر بين توجهات القيادة وفهمها لأنماط الأيديولوجية السائدة في المجتمع، وليس العكس بما يعمل على بلورة توجهات متقاربة حول القضايا الجوهرية اللازمة لعملية البناء والاصلاح ويخدم اهتمامات الافراد ويترجم مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخصوصياتهم الثقافية ومراعاة سلوكياتهم التي ستعكس إلى حد ما مستوى تجاوب افراد ذلك المجتمع ازاء قادتهم الذين يمثلون العامل الاساس والمحفز لعملية البناء، وفقاً لهذا التفاعل والتجاوب.

ولهذا مستلزمات بناء الدولة واصلاح نظامها السياسي يرتكز على بعدين: الأول يتعلق بالقيادة الحاكمة وسماتها الايجابية وكيفية اداء وظائفها، والثاني يتعلق بالمجتمع الذي يجب ان لا يتجاوب ويخضع لتلك القيادة ويتسامح معها مالم تكن فاعلة وكفوءة وقادرة على أداء وظائفها، وبل ويكون هو الاداة الفاعلة في بروز قيادات سياسية جديدة قادرة على الاحلال بديلا عن القيادات التقليدية التي لم تقدم شيء يذكر سوى الاخفاق والتراجع.

ومع كل ذلك، تحتاج عملية البناء والاصلاح، الى ارادة والتزام سياسي قوي ومتواصل لوضع استراتيجية لتحديد الاولويات والمهام الاصلاحية القادمة بشكل مرن من خلال الاتفاق على معالجة الاختلالات والاخفاقات في الاداء السياسي والتصميم على ابتكار صيغ جديدة للحكم والادارة ومكافحة الفساد وتصميم اطار للمحاسبة والمساءلة للتنفيذ بشكل سريع من خلال النظام السياسي وفقا للمعطيات الدستورية والقانونية المطلوبة.

كما ان تغيير عقلية القيادة ودورها في تنفيذ هذه الاولويات هو الفيصل في انجاز الحكم الرشيد عبر اصلاح اختلالات النظام السياسي ومجابهة شاملة للفساد وليست جزئية مع وضع استراتيجيات قابلة للتطبيق تقدم الامن والخدمات للمواطنين، هذه الاولويات والاستحقاقات الضرورية للمرحلة القادمة التي تقع على عاتق القيادات السياسية والحكومية للمرحلة القادمة وهي بمثابة تشخيص للعوائق والامراض التي اصابت فاعلية النظام السياسي والمؤسسات الرسمية العراقية ومعالجات ملحة وعاجلة لاحتواء الاخفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية، التي سببتها القيادات السياسية الحاكمة، واختلالات النظام السياسي العراقي الذي استغلته هذه القيادات لتكريس الفشل والتدهور والانهيار.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/ 2001 – 2022 Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق