q
في العراق نعيش دولة المكونات الصغيرة غير المتجانسة بالشكل الكافي الذي يجعلها غير قابلة لتطبيق المعايير الديمقراطية المتمثلة بحكم الأغلبية، التوافق صار دستوراً عرفياً موازياً للدستور المكتوب، ولا نبالغ إذا قلنا أن مخالفة الدستور العرفي هذا يعد جريمة أشد من مخالفة الدستور المكتوب نفسه...

أخفق البرلمان العراقي للمرة الثانية على التوالي في تحقيق النصاب القانوني لعقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، لعدم قدرة أي تحالف سياسي في توفير العدد اللازم من النواب الذي يؤهله لاختيار الرئيس الجديد.

مشكلة النصاب الراهنة نتيجة طبيعية للنظام الانتخابي الذي تسبب بتناثر أصوات الناخبين وعدم حصول أي قائمة انتخابية على مقاعد تستطيع من خلالها بناء قاعدة رصينة لحكومة قوية.

المقاعد التي حصلت عليها القوائم الانتخابية متقاربة بحيث يصعب معها القول بتفوق طرف على حساب آخر، وحتى التيار الصدري الذي يعتبر نفسه الكتلة الفائزة بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية يشعر الآن بخيبة أمل، فقد كانت حساباته جيدة بالنسبة لحصد هذا العدد من المقاعد الذي وصل إلى 74 مقعداً، بينما فشل في فهم معادلات ما بعد الانتخابات وطريقة حياكة التحالفات على ضوء الواقع السياسي المتشظي.

في العراق نعيش دولة المكونات الصغيرة غير المتجانسة بالشكل الكافي الذي يجعلها غير قابلة لتطبيق المعايير الديمقراطية المتمثلة بحكم الأغلبية، التوافق صار دستوراً عرفياً موازياً للدستور المكتوب، ولا نبالغ إذا قلنا أن مخالفة الدستور العرفي هذا يعد جريمة أشد من مخالفة الدستور المكتوب نفسه.

تستطيع الكتل السياسية مخالفة بنود الدستور الرسمي للبلاد، وتمضي بالعادة بدون أثر على علاقاتها السياسية، لكن يصعب كسر عرف معمول به منذ سنوات، لأننا شعب يلتزم بالعرف أكثر من التزامه بالنصوص.

فلا غرابة من حصول انتفاضة كبيرة للكتل السياسي لقيام حزب ما بكسر أحد الأعراف، ومنها العرف السائد بتقسيم المناصب السيادية بين المكونات الثلاثة، الشيعة، والسنة، والكرد. رئاسة الوزراء للمكون الشيعي الأكبر، ورئاسة مجلس النواب للمكون السني، ورئاسة الجمهورية للمكون الكردي.

رئيس الوزراء يتم اختياره بين أطراف المكون الشيعي أولاً، بعدها يطرح على المكونين السني والكردي وتجري نقاشات داخل الغرف المغلقة، الخطوة الأخيرة التصويت على رئيس الحكومة من قبل مجلس النواب، وتكاد تكون هذه الخطوة بروتوكولية ومجرد إضفاء الصفة الرسمية على الاتفاقات الخفية.

وبالعادة تبدأ صفقة اختيار رئيس الوزراء بخطوتين قبلها، أي أن الاتفاقات تبدأ من مرحلة اختيار رئيس مجلس النواب مروراً برئيس الجمهورية ثم رئيس مجلس النواب، وما ينطبق على اختيار رئيس الوزراء بعده استحقاقاً شيعياً وفق العرف السياسي، يسري على آلية ترشيح رئيسي مجلس النواب والجمهورية، بعد اتفاق كل مكون على المنصب المخصص له، وعلى هذا الأساس جرى الاتفاق على انتخاب رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي الذي كان نتيجة اتفاق ثلاثي بين تحالفي عزم وتقدم السنيين، والحزب الديمقراطي الكردستاني الكردي والكتلة الصدرية الشيعية.

الاتفاق تضمن اختيار رئيس مجلس النواب من قبل السنة وبموافقة نواب الديمقراطي الكردستاني ونواب الكتلة الصدرية، ومن ثم ترشيح رئيس الجمهورية من الحزب الديمقراطي وموافقة الكتلة الصدرية وتحالفي عزم وتقدم السنيين، والخطوة الثالثة ترشيح رئيس الوزراء من قبل الكتلة الصدرية وموافقة التحالف الكردستاني والنواب السنة.

تلك كانت خلطة توزيع المناصب السيادية في العراق بعد انتخابات تشرين، إلا أن المشكلة الأساسية في الاتفاق هو كسره لعرف سياسي مترسخ منذ 2003 وحتى ما قبل الانتخابات الأخيرة، فلا يصح وفق هذا العرف اختيار رئيس لإحدى الرئاسات بدون أن يكون مرشحاً من قبل مكون كامل، وليس من قبل حزب يمثل جزءاً من المكون.

زعيم التغيير هذا هو السيد مقتدى الصدر الذي رفع رايته عالياً، وهو يريد تحقيق هدفين:

الأول: كسر العرف السياسي السائد بشأن اختيار رؤساء المناصب السيادية الثلاثة، بدلاً من التوافق تشكل حكومة الأغلبية.

الثاني: احتكار منصب رئيس الوزراء المخصص للمكون الشيعي لصالح التيار الصدري والذي وصفه بالصدري "القح"، أي أنه يسير وفق الايدلوجيا الصدرية أن صحت العبارة.

ماذا يعني هذا التغيير؟

يعني اقصاء جميع الأحزاب الشيعية من الحصول على المناصب المخصصة للشيعة وذهابها للتيار الصدري.

ليس هذا فحسب، بل يريد التيار الصدري تدمير أسس وجود الأحزاب والتيارات الشيعية من خلال تهديده بحلها وشن الحرب ضدها.

قد تكون تحركات التيار الصدري غير مدروسة لو تحدثنا وفق الواقعية السياسية، لأن الأحزاب والفصائل الشيعية ليس بالضعف الذي يدفعها للاستسلام بسهولة لمجرد أن التيار الصدري قد حصل على 74 مقعداً برلمانياً، كما أن هذه الأحزاب مقتنعة بأنها قد تعرضت للظلم في الانتخابات الأخيرة لأسباب تتحدث عنها طويلاً في وسائل الإعلام، ابرزها التزوير وإجراء الانتخابات في ذروة الحملات الإعلامية الشرسة ضدهم.

المشكلة بالنسبة للتيار الصدري أنه أغلق المنافذ أمام القوى الشيعية الأخرى، صحيح أنه يدعوهم للحوار والتفاهم، لكنه يريد منه أن يأتون بصفتهم خاسرين في الانتخابات ويخضعون للشروط الصدري، لدرجة أن تغريدة واحدة من السيد الصدر قد تهدم كل الاتفاقات وتغير موزين القوة لصالح الصدر.

لكن لماذا لم تذهب القوى الشيعية وتتفاوض مع الكرد والسنة وتنهي مسألة النصاب في مجلس النواب؟

المعادلة السياسية الحالية لم تفرز أي فائز حقيقي في البرلمان، كل طرف يحتاج إلى الآخر، ومن منطق الواقعية السياسية فإن الوضع الحالي بحاجة إلى التوافق أكثر من حاجته لحكومة أغلبية سياسية، ففي بلد تكون القوة موزعة بين جميع الأطراف فإن أي محاولة أحادية للتوفق على الآخرين تبوء بالفشل.

التوافقية السياسية تعرقل عمل الحكومة وتشلها تماماً، بينما الأغلبية السياسية غير ممكنة لأنه من الصعب الانتقال من عرف سياسي راسخ إلى أسلوب جديد بالحكم، ففي وقت التغيير الجميع يشعر بالخطر ويقفون بالضد منه.

السؤال الجوهري الذي يجب أن يطرحه كل زعيم سياسي هل يمكن تحقيق النصاب الوطني على مستوى العراق من شماله إلى جنوبه؟ فهل جاءت مقاعد القوائم الانتخابية في جميع المحافظات أم أنها مقسمة طائفياً؟

لو أن كل حزب استطاع التنافس في جميع المناطق أولاً، وإلغاء المعادلات الطائفية والقومية ثانياً يمكنه الحديث عن أغلبية سياسية.

التوافقية أثبتت فشلها في حكم العراق، لكن الأغلبية بالطريقة المطروحة الآن فاشلة أيضاً.

اضف تعليق