q
أظهر فيروس كورونا مدى هشاشة النظام الاقتصادي العالمي وإجحافه، وزاد من تفاقمهما؛ فقد انكشف عجز بلدانٍ عدة عن تصنيع منتجاتٍ بسيطة مثل الكمامات، ناهيك بمنتجاتٍ أكثر تعقيدًا مثل أجهزة التنفس، كما تعطلت سلاسل التوريد المتعددة، مما تسبَّب في أزمةٍ من شأنها أن تُفرز حاجةً شبه حتمية إلى إنشاء المزيد...
بقلم جوزيف إي ستيجليتز

أظهر فيروس كورونا مدى هشاشة النظام الاقتصادي العالمي وإجحافه، وزاد من تفاقمهما؛ فقد انكشف عجز بلدانٍ عدة -منها الولايات المتحدة الأمريكية- عن تصنيع منتجاتٍ بسيطة مثل الكمامات، ناهيك بمنتجاتٍ أكثر تعقيدًا مثل أجهزة التنفس، كما تعطلت سلاسل التوريد المتعددة، مما تسبَّب في أزمةٍ من شأنها أن تُفرز حاجةً شبه حتمية إلى إنشاء المزيد من مرافق الإنتاج المحلية، وليس هناك من دلائل تشير إلى تراجُع النزعة القومية الكريهة التي اتسمت بها البلدان التي احتكرت اللقاحات وآثرت جني الأرباح على حساب الأرواح البشرية، على الرغم من العواقب المدمرة التي يمكن أن تعم العالم من جرَّاء تلك النزعة.

ستتمثل أبرز نتائج الجائحة في تفاقُم أزمة عدم المساواة داخل الولايات المتحدة الأمريكية وبين البلدان المتقدمة والنامية؛ فقد تضخمت ثروة المليارديرات عالميًّا بمقدار 4,4 تريليونات دولار أمريكي في الفترة ما بين عامي 2020 و2021، وفي الوقت ذاته شهد أكثر من 100 مليون شخص انخفاضًا في مستوى المعيشة إلى ما دون خط الفقر، ويعتمد مدى تفاقُم الوضع مستقبلًا على المدة التي سيظل فيها «كوفيد-19» مستشريًا، وعلى الخطوات التي سيتخذها واضعو السياسات في سبيل مكافحته والسيطرة على تبعاته.

شهدت الولايات المتحدة أعلى معدلات الوفاة الناجمة عن مرض «كوفيد-19»، ويعود السبب في ذلك جزئيًّا إلى دخلها العملاق وأزمة عدم المساواة التي تعانيها في توزيع الثروات؛ فقد لاحق فيروس «سارس-كوف-2» أولئك الذين يعانون ظروفًا صحيةً مرتبطةً بالفقر، والذين يعملون بوظائف لا يمكنهم إنجازها وهم منعزلون؛ فكثيرٌ من الأمريكيين الذين يكافحون من أجل الصمود حتى الحصول على الراتب من شهر إلى آخر، والذين لا يتمتعون بأبسط الحقوق الأساسية من رعاية صحية وإجازاتٍ مرضية مدفوعة الأجر، لم يستطيعوا الخضوع للفحوص الضرورية لمعرفة ما إذا كانوا مصابين بالفيروس أم لا، ومن ثم ذهبوا إلى أعمالهم ونشروا الفيروس، أو طلبوا المساعدة بعد فوات الأوان.

وكذلك ستعاني الطبقات الأكثر فقرًا أشد المعاناة من التداعيات الاقتصادية للجائحة، بسبب فقدان الوظائف على وجه التحديد، وهي مشكلةٌ تتركز بشكلٍ غير متسق في القطاعات الخدمية التي يحصل العاملون فيها على أجورٍ منخفضة، وما يثير القلق بالقدر نفسه أن الأطفال من الطبقات الفقيرة مرُّوا بعثراتٍ تعليمية شديدة نتيجة تحوُّل المدارس إلى التعليم عبر الإنترنت، وهو الأمر الذي يُنذر -على المدى البعيد- بتفاقمٍ محتمل لمشكلتي عدم المساواة والحرمان، ومع ذلك، أدت الاستجابة السياسية القوية في الولايات المتحدة إلى تقليص الركود الاقتصادي مقارنةً بالبلدان الأخرى؛ فقد حدَّت خطة الإنقاذ الأمريكية التي وضعها الرئيس الأمريكي جو بايدن من فقر الأطفال في عام 2021 بأكثر من الثلث، مما يدل على أن ارتفاع مستوى الفقر بالبلاد كان دومًا مسألة اختيار، بيْد أن الإجراءات التي اتُّخِذَت في هذا الصدد إلى الآن لم تكن سوى مسكِّنات ذات تأثيرٍ مؤقت، وقد صُمِّمَت خطة «البناء الجديد على نحو أفضل» Build Back Better لإبقاء هذه الإنجازات لمدة أطول وللحد من عدم المساواة على جميع الأصعدة، وفي حال عدم اعتماد هذه الخطة، يمكننا توقُّع حدوث زيادة مستمرة في معدلات الفقر، وستزداد الأمور سوءًا في حال استمرار الجائحة.

لقد حققنا انتصارًا علميًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا على الصعيد التنظيمي، إذ تمكَّنَّا من تطوير اللقاحات وإنتاج مليارات الجرعات منها وتوزيعها في مدةٍ قصيرة، لكننا أخفقنا إخفاقًا شديدًا في تحقيق الاستفادة العادلة من تلك النجاحات الهائلة؛ فبرغم امتلاكنا وسائل التكنولوجيا والموارد، لم ننجح في توريد كمياتٍ أكبر من اللقاحات وتوزيع ما يكفي من الجرعات في البلدان الفقيرة.

للأسواق قدرةٌ على حل أغلب المشكلات الاقتصادية، مثل نقص القوارير الزجاجية على سبيل المثال، ورغم ذلك لا يمكنها التغلب على العوائق القانونية المرتبطة بحقوق الملكية الفكرية التي منحت الشركات الحالية المنتجة للقاحات سلطةً احتكارية؛ فشركات الأدوية تلك لديها حق تقييد التصنيع، مما يتيح لها بيع اللقاحات بأسعارٍ تعدل أضعاف تكلفة تصنيعها، على الرغم من أن جهود البحث والتطوير الأصلية، بل وحتى قدرًا كبيرًا من الطاقة الإنتاجية الأولية، كانا بتمويلٍ حكومي.

إذًا فقد نجم الإخفاق في السيطرة على المرض وعدم التكافؤ في تحمل العبء المرضي -إلى حدٍّ كبير- عن فشل أنظمتنا الاقتصادية والسياسية، فلو أنه جرى تفعيل التنازل عن حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بتصنيع اللقاحات عندما طُرِحَت الفكرة للمرة الأولى قبل أكثر من عامٍ -وهو ما كان سيُتيح لأي شركة في العالم إنتاج اللقاحات مقابل إعطاء الشركة الأصلية المطوِّرة للقاح مبلغًا عادلًا- لأصبح لدينا اليوم بلا شك مخزونٌ أكبر من اللقاحات، ربما تجلَّى الأمل في صورة اللقاح «كوربيفاكس» CORBEVAX الذي لا تُقيده أي قيودٍ ذات صلة ببراءات الاختراع، إضافةً إلى سهولة تصنيعه، ليُفلت من أنانية تغليب المصالح القومية ومن جشع الشركات، وفي حال ثبَت أمان استخدامه، فمن الممكن أن يساعد في تلقيح العالم، مما سيحد من احتمالات ظهور متحوِّرات أكثر فتكًا وأشد مقاومةً للقاحات وأكثر قدرةً على نقل العدوى.

إن مظاهر عدم المساواة في توزيع اللقاحات على مستوى العالم توازيها صورٌ صارخة من عدم المساواة في سبل الاستجابة للركود الاقتصادي، فبينما أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية ربع قيمة إجمالي الناتج المحلي لدعم الحراك الاقتصادي، لم تستطع الدول الفقيرة إنفاق أكثر من جزءٍ ضئيلٍ من هذه القيمة؛ فقد شهد بعض البلدان انخفاضًا بنسبة 10% أو أكثر في إجمالي الناتج المحلي الخاص بها، مع تأثُّر الطبقات الأكثر فقرًا على وجه الخصوص بتبعات ذلك، وفي حين تستطيع الولايات المتحدة إيجاد حلول للتعامل مع الارتفاع الشديد في ديونها، ستواجه البلدان الفقيرة صعوبةً في ذلك.

ومع الأسف، سوف تستمر على الأرجح الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الجائحة من جرَّاء ذلك، وأكثر مَن سيعانون تبعات هذه الأزمة لسنواتٍ من الآن هم الذين في القاع، أي المعدمون من الأمريكيين وأغلب الناس في البلدان الفقيرة، إن عدم بذل ما بوسعنا للسيطرة على المرض والتعامل مع التبعات الاقتصادية للجائحة في كل مكان هو بمنزلة قصر نظر؛ فالتردد والتباطؤ من شأنهما أن يمكِّنا «كوفيد-19» من مواصلة الفتك بالبشر، كما سيؤديان إلى استمرار تعطل سلاسل التوريد، وهذا سينعكس في نقصٍ للإمدادات، وتأجيلٍ للتعافي الحقيقي للعالم، وترسيخٍ لمستوياتٍ من عدم المساواة لا يقبلها ضمير.

اضف تعليق