q
هذا يقود الى مناقشة الظاهرة الأكبر التي يُشتق منها العنف الأسري الذي أشرنا اليه الا وهي تنامي السلوك العنيف وتبريره بين العراقيين. ومثلما يصعب أنكار تنامي ظاهرة العنف ضد الأطفال والنساء في مجتمعنا حيث الكثير من الحوادث العنيفة تم نشرها وتداولها عبر مختلف وسائل التواصل...

في المقالات السابقة من هذه السلسلة التي تتبع تغيير القيم في المجتمع العراقي خلال العقدين الماضيين، تناولت موضوعين اجتماعيين يرتبطان بالعنف الاسري وهما ضرب الأبناء وضرب الزوجات. وأزحت الغطاء عن تزايد معدلات العنف بل وتزايد السلوك التبريري للعنف ضد الأطفال والمرأة في مجتمعنا.

هذا يقود الى مناقشة الظاهرة الأكبر التي يُشتق منها العنف الأسري الذي أشرنا اليه الا وهي تنامي السلوك العنيف وتبريره بين العراقيين. ومثلما يصعب أنكار تنامي ظاهرة العنف ضد الأطفال والنساء في مجتمعنا حيث الكثير من الحوادث العنيفة تم نشرها وتداولها عبر مختلف وسائل التواصل، فأنه يصعب على أي فرد عدم ملاحظة تنامي السلوك العنيف داخل المجتمع. مع ذلك فأن الملاحظة وحدها لا تكفي لتشخيص الظاهرة ومعرفة مدى انتشارها، ولا بد من الاستعانة بلغة الارقام في هذا الخصوص.

سيتم التركيز هنا على قيمتين من قيَم العنف حسبما وردتا في مشروع مسح القيم الدولي الذي شمل بحدود 60 دولة. هاتان القيمتان هما العنف ضد الآخرين بشكل عام والعنف السياسي.

تم سؤال العينات الوطنية الممثلة لكل شرائح المجتمع في تلك الدول (ومن ضمنها العراق) عن مدى تبريرهم للعنف ضد الآخرين عموماً، وكذلك تبريرهم لاستخدام العنف السياسي. في كلا المؤشرين هناك نسبة أكبر من العراقيين ممن يبررون العنف مقارنةً بمعظم دول العالم التي تم مسحها مما يؤكد وجود خلل قيمي ينعكس على سلوكيات العنف في المجتمع العراقي.

لقد قفزت نسبة من يبررون بشدة أو الى حد ما، استخدام العنف ضد الآخرين في العراق من 8% فقط في عام 2004 لتصبح 20% عام 2019. أي أن واحد من كل 5 عراقيين يبرر استخدام العنف ضد الآخر لمختلف الأسباب.

قد تبدو هذه النسبة مقبولة للبعض لكن كون هذا السؤال من أسئلة المرغوبية الاجتماعية social desirability وهي كما قلت من قبل انها الأسئلة التي يود المجيب عنها الظهور بمظهر الشخص الجيد مما يدفعه الى التخفيف من سلبية اتجاهاته الفكرية والسلوكية (مثل تأييد الارهاب أو التطرف أو العنف…الخ) فأن من المتوقع جداً ان تكون نسبة المبررين للعنف ضد الآخر بين العراقيين أعلى من ذلك.

من جانب آخر فعند مقارنة نسبة تبرير العنف في العراق مع بقية دول العالم التي شملها المسح (بحدود 60 دولة) فأن العراق جاء كثامن أعلى شعب يبرر العنف ضد الآخر. ففي الوقت الذي لم يبرر فيه سوى أقل من 2% العنف ضد الآخر في تونس، و3% في الاردن، و12% في أيران، و7% في النمسا كان 20% من العراقيين يبررون هذا السلوك!! كما ان القفزة الكبيرة في تبرير السلوك خلال 10 أعوام فقط تثير القلق عن الاتجاه الذي يسير فيه المجتمع العراقي.

أما بخصوص تبرير العنف السياسي فقد كانت الأرقام أسوأ وبما يؤكد أن العنف بات ثقافةً مبررةً يتم تبنيها بشكل متنامي في المجتمع. فقد أشار مسح القيم الشامل في العراق عام 2019 ان 22% من العراقيين يجدون العنف السياسي مبرر تماماً أو الى حد ما. هذه النسبة هي سابع أعلى نسبة عالمياً من بين كل الدول التي تم مسحها (86 دولة).

هنا يبدو الفشل الذريع للنظام (الديموقراطي) الذي تم تأسيسه بعد 2003 والذي ينبغي ان تكون أحدى أهم أهدافه هي التداول السلمي للسلطة ومنع استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية. هذه الارقام عن تبرير العنف السياسي تتآزر وتتعاضد مع نتائج محرار الرأي العام العراقي الأخيرة IOT التي أطلقتها المجموعة المستقلة للأبحاث في الصيف الماضي، والتي أظهرت أن ثلثي العراقيين تقريباً يتفقون ان الانتخابات لا تتيح لهم صوتاً مسموعاً في أدارة شؤون بلدهم!

كما أظهرت نتائج استطلاعات أخرى أجرتها نفس المجموعة أن نسبة العراقيين الذين يؤمنون ان بأماكنهم أحداث تغيير سياسي عن طريق الانتخابات أقل من 20% وأنها تتدنى أكثر لتصل الى 11% فقط في مناطق جنوب العراق.

بمعنى ان الميل للعنف السياسي كسلوك مقبول مجتمعياً صار ظاهرة ملموسة، الامر الذي سيؤدي غالباً الى صعود حركات شعبوية أو عنيفة مما يعني ان النظام الديموقراطي (ان وجد) يواجه تحدياً خطيراً وان احتمالات الدكتاتورية والطغيان أقرب من أي وقت مضى.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق