q
مع وتيرة الأحداث السريعة التي دفعتْ العالم دفعًا نحو الوقوع بين براثن جائحة في مطلع عام 2020، أخذ جيسي بلوم، اختصاصي علم البيولوجيا التطوّرية، يُمعن التفكير في المستقبل الذي ينتظر فيروس «سارس-كوف-2». وعلى غرار كثير من المتخصصين في مجال الفيروسات في ذلك الوقت...
بقلم: إوين كالاواي

مع وتيرة الأحداث السريعة التي دفعتْ العالم دفعًا نحو الوقوع بين براثن جائحة في مطلع عام 2020، أخذ جيسي بلوم، اختصاصي علم البيولوجيا التطوّرية، يُمعن التفكير في المستقبل الذي ينتظر فيروس «سارس-كوف-2». وعلى غرار كثير من المتخصصين في مجال الفيروسات في ذلك الوقت، توقَّع بلوم أن شأفة هذا المُمْرِض الجديد لن تُستَأصل، بل سوف يصبح متوطِّنًا، ليصير بذلك خامس فيروسات كورونا التي يترسَّخ انتشارها بصفة دائمة بين البشر، جنبًا إلى جنب مع أربعة من فيروسات كورونا "الموسمية" التي تسبب نزلات برد خفيفة نسبيًا، ولا تزال تنتشر بين بني البشر منذ عدة عقود أو أكثر.

كان بلوم، الذي يعمل بمركز فريد هاتشينسون لأبحاث السرطان في مدينة سياتل بولاية واشنطن الأمريكية، يرى أن فيروسات كورونا الموسمية قد تُرشدنا إلى المسار الذي يُمكن أن يسلكه تطوُّر فيروس «سارس-كوف-2»، وإلى مستقبل الجائحة. إلا أن الباحثين لا يملكون كثيرًا من المعلومات عن آلية استمرار ازدهار أعداد تلك الفيروسات الموسمية. ولعل أحد أفضل الأمثلة على ما خضع للدراسة من هذه الفيروسات، فيروس موسمي من عائلة فيروسات كورونا يُسمَّى ««229E، وهو فيروس يصيب البشر بصورة متكررة على مدار حيواتهم. بيد أنه ليس من الواضح ما إذا كانت حالات تجدّد الإصابة بعدوى ذلك الفيروس ناتجة عن تلاشي الاستجابات المناعية ضده لدى مُضيفيه من البشر، أم ما إذا كانت التغيّرات التي تطرأ على الفيروس تساعده على الإفلات من الاستجابات المناعية. ولمعرفة إجابة هذا اللغز، حصل بلوم على عيِّنات دم تعود إلى عقود مضت، جُمِعت من أشخاص يُحتَمل أنَّهم تعرَّضوا للإصابة بالفيروس ««229E. وفحص بلوم تلك العينات بحثًا عن أجسام مضادة لنسخ مختلفة من الفيروس، تعود إلى عقد الثمانينيات من القرن الماضي.

وكانت النتائج مذهلة1، إذ احتوت عينات الدم تلك على مستويات عالية من الأجسام المضادة المثبطة لعدوى نسخة من الفيروس «229E» تعود إلى عام 1984، بيد أن قدرة تلك الأجسام المضادة كانت أضعف كثيرًا في ما يخص تحييد نسخة من الفيروس تعود إلى عقد التسعينيات. كذلك كانت تلك الأجسام المضادة أقل فاعلية في التصدي للسلالات المتحورة من فيروس «229E» التي عادت أصولها إلى العقدين الأول والثاني من القرن الحاليّ. وينطبق هذا أيضًا على عينات دم جُمعت في تسعينيات القرن الماضي. إذ تمتَّع الأشخاص باستجابات مناعية ضد نسخ الفيروس التي تعود إلى ماضيهم القريب، لكن لم تتكوَّن لديهم الاستجابات المناعية نفسها في مواجهة نسخ الفيروس اللاحقة. وهو ما يشير إلى أن الفيروس ظلَّ يتطوَّر للإفلات من الاستجابات المناعية.

بخصوص ذلك، يقول بلوم: "أما وقد سنح لنا لعامين أن نرى كيف يتطوَّر فيروس «سارس-كوف-2»، أعتقد أن ثمة أوجه تشابه واضحة بينه وبين فيروس «229E»". فالسلالات المتحورة مثل «أوميكرون» و«دلتا» تحمل طفرات تُضعِف من فاعلية الأجسام المضادة التي تصدَّت للنسخ السابقة من فيروس «سارس-كوف-2». ومن المُرجَّح أن يزداد التأثير المحفَّز لهذا "التغيُّر المستضدي"، عندما يكتسب معظم الكوكب مناعة ضد الفيروس من خلال الإصابة به أو تلقي تطعيم ضده أو عبر كلا الطريقتين. ويسابق الباحثون حاليًا الوقت لوضع توصيف لسلالة «أوميكرون» المتحوِّرة الجديدة، بيد أن سرعة انتشارها في دولة جنوب إفريقيا تشير إلى أن الفيروس قد وجد بالفعل طريقة للإفلات من الاستجابات المناعية البشرية.

وسوف تُحدد الكيفية التي سيتطوَّر بها فيروس «سارس-كوف-2» على مدار عدد من الأشهر والسنوات ملامح النهاية التي ستؤول إليها هذه الأزمة العالمية، وتحديدًا ما إذا كان الفيروس سيتحوَّل إلى فيروس آخر من الفيروسات المُسببة لنزلات البرد الشائعة، أم إلى مُمْرِض أكثر خطورة مثل فيروسات الإنفلونزا، أم إلى ما هو أسوأ. وفي الوقت الراهن تسعى حملة تطعيم عالمية، وفَّرت ما يقرب من ثمانية مليارات جرعة من اللقاحات، إلى تغيير المشهد في ما يخص عملية تطوّر الفيروس، وليس من الواضح كيف سيواجه الفيروس هذا التحدّي. في الوقت ذاته، بينما يرفع بعض البلدان القيودَ المفروضة للسيطرة على انتشار الفيروس، تزداد فرص «سارس-كوف-2» في تحقيق قفزات تطورية كبيرة.

ويبحث العلماء حاليًا عن وسائل للتنبؤ بالخطوة التالية للفيروس، إذ تتجه أنظارهم إلى عوامل مُمْرِضة أخرى بحثًا عن مؤشرات في ذلك الصدد. ويتتبَّعون تأثيرات الطفرات التي طرأت على السلالات المتحورة التي نشأت حتى الآن، بينما يراقبون الوضع تحسبًا لظهور أي سلالات متحورة جديدة. ويتوقّع العلماء أن يتطوَّر فيروس «سارس-كوف-2» في نهاية المطاف على نحو يمكن بدرجة أكبر التنبؤ به، وأن يغدو مثل فيروسات الجهاز التنفسي الأخرى، لكن ليس واضحًا لهم متى سيحدث ذلك التحوّل، ولا أي عدوى ستكون الأقرب له في نوع الأعراض التي تسببها.

تعقيبًا على ذلك، يقول أندرو رامباوت، اختصاصي علم البيولوجيا التطورية من جامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة، إن الباحثين يظلون يجمعون المعارف في هذا الشأن طوال مسيرتهم المهنية، ويضيف: "لم يكن لدينا الكثير للمضي قدمًا في وضع توقعاتنا".

منحنى ثابت في بداية مسار الوباء

يفتّش العلماء الذين يتتبَّعون تطوّر فيروس «سارس-كوف-2» عن فئتين واسعتي النطاق من التغيرات التي تطرأ على الفيروس. الفئة الأولى من تلك التغيرات تجعل الفيروس أكثر قدرة على الإصابة بالعدوى أو الانتشار، على سبيل المثال عن طريق التنسخ بسرعة أكبر، لينتشر بمزيد من السهولة عبر السعال والعطس ورذاذ التنفس. أما الفئة الثانية من التغيرات، فتُمكِّن الفيروس من التغلب على الاستجابات المناعية للمضيف. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المزايا التي يمكن للفيروس اكتسابها من خلال الإفلات من الاستجابات المناعية تكون ضئيلة عندما يبدأ الانتشار لأول مرة لدى مضيف جديد، لم تتكون لديه مناعة سابقة ضد الفيروس. لذا، فأهم وأكبر ما يحققه الفيروس الجديد من مكاسب يتأتَّى عادةً من خلال إدخال تحسينات بخصوص قدرته على الإصابة بالعدوى أو الانتشار.

وفي ذلك الصدد، تقول ويندي باركلي، اختصاصية علم الفيروسات من كلية إمبريال كوليدج لندن: "لم يساورني شك في أن هذا الفيروس الجديد من عائلة فيروسات كورونا سيتكيَّف مع أجساد البشر على نحو يجلب عليه النفع، وهذا يعني على الأرجح زيادة قدرته على الانتشار".

وقد أظهرت فحوص تعيين التسلسل الجينومي للفيروس التي أُجريت في وقت مبكر من وقوع الجائحة أن الفيروس بدأ يأخذ أشكالًا متنوعة، وأنه يطوِّر نحو طفرتين في قواعد نيكوليوتيدية مفردة به كل شهر. ومعدل التطفُر هذا يضاهي تقريبًا نصف معدل تطفُر فيروس الإنفلونزا وربع المعدل نفسه في حال فيروس نقص المناعة البشرية، بفضل إنزيم لتصحيح الأخطاء تمتلكه فيروسات كورونا، لكنه نادر الوجود بين الفيروسات الأخرى من فئة فيروسات الحمض النووي الريبي. ويبدو أن قلة قليلة فقط من تلك الطفرات المبكرة ذات تأثير يُذكَر على سلوك فيروس «سارس-كوف-2»، أو تظهر ما يدل على تمتعها بالأفضلية في عملية الانتخاب الطبيعي.

وقد بدا أن طفرة طرأت مبكرًا على الفيروس تُسمَّى D614G، داخل الجين الذي يُرمِّز البروتين الشوكي للفيروس، وهو البروتين المسؤول عن التعرف على الخلايا المضيفة واختراقها، تتسبب في زيادة طفيفة في قدرة الفيروس على الانتشار2. إلا أن هذه الزيادة على صعيد القدرة على الانتشار، حسبما تقول سارة أوتو، اختصاصية علم البيولوجيا التطورية من جامعة كولومبيا البريطانية في مدينة فانكوفر بكندا، لا تُذكَر، مقارنة بالطفرات الهائلة في القدرة على الانتشار التي تمكن الباحثون من رصدها في وقت لاحق لدى السلالتين المتحورتين «دلتا» و«ألفا».

وترى أوتو أن مشهد تطور الفيروس يُشبه مشهدًا طبيعيًا، يُعادل فيها ارتفاع أحد المرتفعات، زيادة في قدرة الفيروس على الانتشار. ووفقًا لأوتو، فعندما بدأ فيروس «سارس-كوف-2» الانتشار بين البشر، بدا أن "قدرته على البقاء كانت تأخذ شكل منحنى ثابت" بين عديد من المنحنيات التطورية المحتملة. ففي أي إصابة به، يرجّح أن توجد آلاف من الجسيمات الفيروسية التي يحمل كل منها طفرات فريدة على مستوى القواعد النيوكليوتيدية المفردة. غير أنه، بحسب اعتقاد أوتو، فإن عددًا ضئيلًا، من تلك الطفرات، إن وُجد بالأساس، قد جعل الفيروس أكثر قدرة على الانتشار؛ أي إن معظم الطفرات ربما يكون قد حدّ من قدرة الفيروس تلك.

وتقول أوتو: "إذا دخل الفيروس الجسم عند نقطة ترتفع فيها قدرته على الانتشار، فإن حدوث أي طفرة من خطوة واحدة سيهبط تمامًا بمستوى هذا الانتشار". أما بلوغ مستويات أعلى لهذا الانتشار، فيتطلب الجمع بين عدة طفرات معًا لتحقيق مكاسب ملموسة أكثر على صعيد قدرة الفيروس على الانتشار.

آفاق جديدة

مع نهاية عام 2020 ومطلع عام 2021، ظهرت علامات ومؤشرات تدل على أن فيروس «سارس-كوف-2» قد بلغ مدى انتشاره بعض مستويات الذروة القصوى. واكتشف باحثون في المملكة المتحدة سلالة متحورة تُعرف باسم «B.1.1.7»، تحتوي على عديد من الطفرات في البروتين الشوكي بها. تعقيبًا على ذلك، يقول فرانسوا بالو، اختصاصي علم البيولوجيا الحاسوبية من كلية لندن الجامعية: "كانت هذه السلالة غريبة نوعًا ما، إذ بدا أنها قد خرجت علينا من حيث لا ندري".

كانت سرعة انتشار هذه السلالة المتحورة -التي تغيَّر اسمها منذ ذلك الحين إلى الاسم «ألفا» Alpha- تزيد بنسبة 50% على الأقل عن سابقاتها من سلالات الفيروس المنتشرة. وقد عزا بعض مسؤولي الصحة العامة في المملكة المتحدة الارتفاعَ الغامضَ في عدد حالات الإصابة بالفيروس جنوب شرق إنجلترا، خلال فرض تدابير الإغلاق على مستوى البلد في نوفمبر من عام 2020، إلى هذه السلالة. وفي الوقت ذاته تقريبًا، عزا متتبعو انتشار الفيروس في جنوب إفريقيا حدوثَ موجة ثانية من الإصابات به في البلد إلى ظهور سلالة متحوِّرة أخرى مُحمَّلة بالطفرات تحمل اسم «B.1.351»، وتُعرَف اليوم باسم «بيتا» Beta. وبعد فترة ليست طويلة، رصد الباحثون سلالة متحورة شديدة الانتشار، تحمل الآن اسم «جاما» Gamma، في ولاية أمازوناس البرازيلية.

وتشترك هذه "السلالات المتحورة الثلاث المثيرة للقلق" في بعض الطفرات، لا سيِّما في مناطق رئيسية من البروتين الشوكي الذي يُسهم في التعرف على مستقبِلات «الإنزيم المحول للأنجيوتنسين من النوع 2» (ACE2) الموجودة على سطح الخلايا المضيفة، والتي يستخدمها الفيروس لدخول الخلايا. كذلك حملت تلك السلالات المتحورة طفرات مشابهة أو مطابقة لتلك التي رُصدت في حالات الإصابة بفيروس «سارس-كوف-2» بين الأشخاص المصابين بضعف الجهاز المناعي، والذين استمرت إصابتهم بالعدوى أشهرَ. ودفع هذا الباحثين إلى التكهّن بأن الإصابات طويلة الأمد ربما تتيح للفيروس تجربة استخدام مجموعات مختلفة من الطفرات للعثور على الناجح منها. أما الإصابات المعتادة بالعدوى التي تستمر أيامًا قلائل فتتيح فرصًا أقل للتطفُر. كذلك فإن أحداث الانتشار الفائق للفيروس، التي تنتج عنها إصابة أعداد كبيرة من الأشخاص بالعدوى، قد تفسر الأسباب التي تجعل بعض السلالات المتحورة تزدهر بينما يتلاشى بعضها الآخر ويندثر.

وبغضّ النظر عن أصول تلك السلالات المتحورة الثلاث، فقد بدا أنها أكثر قدرة على نقل العدوى مما حلت محله من سلالات. كما أن سلالتي «بيتا» و«جاما» احتوتا أيضًا على طفرات أضعفت فاعلية الأجسام المضادة المانعة للعدوى أو "المحيِّدة" لها، والتي يطلقها الجسم بفضل تعرّضه لإصابة سابقة بالعدوى أو عند تلقيه تطعيمًا ضدها. وقد أثار هذا الاكتشاف احتمال أن الفيروس كان بصدد بدء التصرف بالطريقة نفسها التي تنبأت بها دراسات بلوم للفيروس ««229E.

انتشرت السلالات المتحورة الثلاث في جميع أنحاء العالم، لا سيِّما سلالة «ألفا»، التي أطلقت موجات جديدة من «كوفيد-19»، مع سيطرتها على أوروبا وأمريكا الشمالية والشرق الأوسط ومناطق أخرى (انظر الشكل: "موجات السلالات المتحورة"). وقد توقَّع كثير من الباحثين أن تكتسب فيروسات سليلة لسلالة «ألفا» -بدا أنها الأقدر على نقل العدوى من بين السلالات المتحورة- طفرات إضافية، مثل تلك التي تمكنها من الإفلات من الاستجابات المناعية، ليُكلل انتشارها بمزيد من النجاح. بخصوص ذلك، يقول بول بيناش، عالم الفيروسات من جامعة روكفلر في مدينة نيويورك: "اتضح لنا أن الحال لم يكن كذلك إطلاقًا؛ فقد ظهرت سلالة «دلتا» من حيث لا ندري".

معضلة سلالة «دلتا»

اكتُشفت السلالة المتحورة «دلتا» في ولاية ماهاراشترا بالهند خلال موجة شرسة من «كوفيد-19»، ضربت البلد في ربيع عام 2021. ولا يزال الباحثون يقيِّمون عواقبها في ما يتعلق بانتشار الجائحة. وقد انتشرت سلالة «دلتا» سريعًا بمجرد وصولها إلى المملكة المتحدة، وأثبت علماء الوبائيات أن قدرتها على الانتشار كانت أكبر بنحو 60% من قدرة السلالة المتحورة «ألفا». وهو ما يجعل قدرتها على الإصابة بالعدوى أكبر بعدّة أضعاف من السلالات الأولى المنتشرة من فيروس «سارس-كوف-2». في ذلك الصدد، تقول باركلي: "تعد سلالة «دلتا» نوعًا خارقًا من سلالة «ألفا». وأعتقد أن الفيروس لا يزال يبحث عن حلول للتكيّف مع مضيفيه من البشر".

وتشير الدراسات الواردة من مختبر باركلي وباحثين آخرين إلى أن السلالة المتحورة «دلتا» حقَّقت مكاسب كبيرة على صعيد صلاحيتها للبقاء، من خلال تحسين قدرتها على إصابة الخلايا البشرية والانتشار بين البشر4،3. وبالمقارنة مع السلالات المتحورة الأخرى، بما في ذلك سلالة «ألفا»، نجد أن أعداد فيروسات سلالة «دلتا» تتضاعف على نحو أسرع وإلى مستويات أعلى في المجاري التنفسية لدى المصابين بها، إلى حد قد يفوق سرعة الاستجابات المناعية الأولية التي يُطلقها الجسم ضد الفيروس.

ومع ذلك، يتوقع الباحثون أن يتواصل انخفاض حجم هذه القدرات المكتسبة. إذ يقيس العلماء القدرة الكامنة للفيروس على الانتشار في مجموعة سكانية غير سابقة التعرض له (أي بين أفراد لم يتلقوا تطعيمًا ضده أو يُصابوا به) من خلال رقم يُسمَّى "عدد التكاثر الأساسي" (R0)، وهو رقم يشير إلى متوسط عدد الأشخاص الذين تنتقل إليهم العدوى من شخص مصاب. ومنذ بداية الجائحة، قفز هذا الرقم بمقدار ثلاثة أضعاف. وبخصوص ذلك، يقول بلوم: "أتوقع أنه في مرحلة معينة سيتوقف تزايُد هذه القدرة على الانتشار؛ بمعنى أن الفيروس لن يصبح قادرًا على الانتشار بلا حدود". في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن عدد التكاثر الأساسي للفيروس بين أوساط المصابين بالسلالة المتحورة «دلتا» يزيد على مثيله بين المصابين بفيروسات كورونا والإنفلونزا الموسمية، لكنه لا يزال أقل من مثيله بين المصابين بفيروس شلل الأطفال أو فيروس الحصبة.

جدير بالذكر أنه لم تُحقِّق أي فيروسات أخرى ثبت أنها تصيب البشر القفزات الطفرية نفسها التي حققها فيروس «سارس-كوف-2» في القدرة على الإصابة بالعدوى على مدار العامين الماضيين، ويتوقَّع بلوم وعلماء آخرون أن يسلك الفيروس مسلكَ هذه الفيروسات في نهاية المطاف. فيقول تريفور بيدفورد، اختصاصي علم البيولوجيا التطورية من مركز فريد هاتشينسون، إن الفيروس يحتاج إلى أن يوازن بين قدرته على التنسُّخ بمستويات مرتفعة في المجاري التنفسية لدى المصابين به وحاجته إلى الإبقاء على هؤلاء الأفراد بصحة جيدة بما يكفي لإصابة مضيفين جدد. فيقول تريفورد: "لا يسعى الفيروس إلى أن يجعل المصابين به طريحي الفراش ومرضى إلى حد يمنعهم من مقابلة أشخاص آخرين". أما رامباوت، فيقول إنه من بين الطرق التي يستخدمها الفيروس للموازنة بين هذين الخيارين، أن يتطوَّر لينتشر بمستويات أقل في المجاري التنفسية لدى الأشخاص، مع مدّ الإصابة به فترة زمنية أطول، وهو ما يؤدّي إلى زيادة عدد المضيفين الجدد المُعرَّضين للفيروس. ويضيف: "في النهاية ستنشأ مفاضلة بين كم الفيروسات التي يمكن أن ينتجها الفيروس في الجسم ومدى سرعة استثارته للجهاز المناعي". بعبارة أخرى، يمكن لفيروس «سارس-كوف-2»، من خلال كمون انتشاره، أن يضمن استمراريته في الانتشار.

ولو تطوَّر الفيروس على هذا النحو، فلربما يصبح أقلَّ حدة، غير أن هذه النتيجة ليست مؤكدة. يقول بالو: "ثمة فرضية مفادها أن الفيروس الأقدر على الانتشار يصبح أقل ضراوة. ولا أعتقد أننا يجب أن نتبنى هذا الطرح". على سبيل المثال، عزا باحثون ارتفاعَ معدلات دخول المستشفيات والوفاة إلى سلالات متحورة من بينها «ألفا» و«بيتا» و«دلتا»؛ ربما لأن تلك السلالات تنتشر لتصل إلى مستويات مرتفعة في المجاري التنفسية للأشخاص. من هنا، يقول رامباوت إن الجزم بأن الفيروسات تتطوّر لتصبح أخف ضررًا "ضرب من الخرافة؛ فالمسألة على أرض الواقع أكثر تعقيدًا بكثير".

ظهور أوميكرون

تُعزى إلى السلالة المتحوّرة «دلتا» والفيروسات المنحدرة منها، الغالبية العظمى من حالات الإصابة بـ«كوفيد-19» في جميع أنحاء العالم. وقد توقّع معظم الباحثين أن يُشكِّل هذا الفرع السلالي في نهاية المطاف الورقة الرابحة للفيروس، بيد أن ظهور سلالة «أوميكرون» قوَّض تلك التنبؤات. فيقول أريس كاتزوراكيس، المتخصص في تطور الفيروسات من جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة: "توقع عدد كبير من الباحثين أن تنحدر السلالة المتحورة الغريبة التالية من سلالة «دلتا»، وما حدث كان مفاجئًا للتوقعات". إذ اكتشفت فِرق بحثية في بوتسوانا وجنوب إفريقيا السلالة المتحورة «أوميكرون» أواخر نوفمبر الماضي، ورأى الباحثون أنه من غير المرجّح أن تكون هذه السلالة قد نشأت في أيٍ من هذين البلدين. وعزا مسؤولو الصحة في البلدين إلى هذه السلالة المتحورة الجديدة فاشية سريعة الانتشار تركّزت في مقاطعة جوتنج بجنوب إفريقيا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه السلالة المتحورة تنطوي على قرابة ثلاثين طفرة في البروتين الشوكي، وتشترك مع السلالات المتحورة الأخرى المثيرة للقلق في عديد من تلك الطفرات. من هنا، يسعى العلماء في جميع أنحاء العالم إلى تقييم مدى الخطر والتهديد الذي تمثله.

في هذا الإطار، يقول توم فنسليرز، اختصاصي علم البيولوجيا التطورية، وخبير علم الإحصاء الحيوي من جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا، إن الارتفاع السريع في عدد حالات الإصابة بالسلالة المتحورة «أوميكرون» في جنوب إفريقيا يدلّ على أن هذه السلالة الجديدة تتمتّع بمزية على صعيد صلاحية البقاء تجعلها تتفوق على السلالة «دلتا». كذلك تحمل سلالة «أوميكرون» بعضَ الطفرات المرتبطة بالقدرة العالية جدًا على الإصابة بالعدوى التي تُميّز سلالة «دلتا». بيد أنه لو كان السبب الوحيد لانتشار سلالة «أوميكرون» السريع هو تمتُعها بقدرة أكبر من سلالة «دلتا» على الإصابة بالعدوى، فإن ذلك يعني أن عدد التكاثر الأساسي بين المصابين بها سيكون في نطاق الثلاثينات، على حد قول فنسليرز، الذي يضيف: "هذا غير منطقي تمامًا".

العلماء في حالة استنفار بسبب سلالة «أوميكرون» المتحورة الجديدة

على النقيض، يرى فنسليرز وباحثون آخرون أن انتشار سلالة «أوميكرون» قد يرجع بدرجة كبيرة إلى قدرتها على نقل العدوى إلى أشخاص شكَّلوا مناعة ضد سلالة «دلتا»، سواء من خلال التطعيم أو الإصابة بعدوى فيروس «سارس-كوف-2» سابقًا.

ولا تزال الفكرة التي كوَّنها العلماء عن السلالة المتحورة «أوميكرون» يشوبها بعض مناطق الغموض، ولن يمكنهم تقييم خصائص تلك السلالة تقييمًا شاملًا إلا بعد مضي أسابيع عدة. لكن إذا كان انتشار تلك السلالة حاليًا يُعزى، في جانب منه، إلى قدرتها على الإفلات من الاستجابات المناعية، كما تقول سارة كوبي، اختصاصية علم البيولوجيا التطورية من جامعة شيكاجو في ولاية إلينوي الأمريكية، فإن ذلك التصور يتوافق مع التنبؤات النظرية بشأن الكيفية التي يمكن أن يتطور بها فيروس «سارس-كوف-2».

فتقول كوبي إنه مع بدء تباطؤ فيروس «سارس-كوف-2» في إحراز مكاسب على صعيد القدرة على الإصابة بالعدوى، سيتعين عليه الحفاظ على صلاحيته للبقاء من خلال التغلب على الاستجابات المناعية. على سبيل المثال، إذا أدت طفرة أو مجموعة من الطفرات إلى خفض قدرة اللقاحات على منع انتشار عدوى الفيروس بمقدار النصف، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة كبيرة في عدد المضيفين المحتملين للفيروس في أي مجموعة سكانية بشرية، لكن تضيف كوبي أنه يصعب تخيُل إمكان تحقيق هذه الزيادة في ضوء أي مكاسب مستقبلية على صعيد القدرة على الانتشار.

ويقول آدم كوتشارسكي، اختصاصي النمذجة الرياضية لانتشار الأوبئة في كلية لندن للصحة وطب المناطق الاستوائية الحارة، إن هذا المسار التطوري للفيروس، الذي يستهدف الإفلات من الاستجابات المناعية وتلافي تحقيق مكاسب في ما يخص قدرته على الإصابة بالعدوى، شائع بين فيروسات الجهاز التنفسي المعروفة مثل الإنفلونزا. ويضيف كوتشارسكي: "أسهل طريقة يتسبّب بها الفيروس في اندلاع أوبئة جديدة هي الإفلات من الاستجابات المناعية بمرور الوقت، وهذا يشبه ما نراه مع فيروسات كورونا الموسمية".

وقد نجحت تجارب مختبرية إلى جانب فحوص تعيين التسلسل الجينومي التي أُجريت على السلالات المتحورة المنتشرة من الفيروس، في اكتشاف مجموعة متنوعة من الطفرات في البروتين الشوكي به، لديها القدرة على إضعاف فاعلية الأجسام المضادة المُحيِّدة للعدوى، وهي أجسام يجري تحفيز إنتاجها عن طريق الإصابة بعدوى الفيروس أو تلقّي تطعيم ضده. وقد تمكّنت السلالات المتحورة التي تحمل تلك الطفرات، مثل سلالة «بيتا»، من خفض فاعلية اللقاحات. لكنها لم تقضِ تمامًا على الحماية التي توفّرها جرعات هذه اللقاحات، لا سيِّما في مواجهة الأعراض الشديدة للمرض.

وإذا قُورنت سلالة «أوميكرون» بغيرها من السلالات المتحورة، لوجدنا أنها تنطوي على عدد أكبر بكثير من تلك الطفرات، لا سيِّما في منطقة البروتين الشوكي التي تتعرف على خلايا المضيف. ويشير تحليل مبدئي قدَّمه بلوم إلى أن تلك الطفرات قد تحول دون تعرُّف الأجسام المضادة على بعض أجزاء البروتين الشوكي، وتُنتج هذه الأجسام عن طريق العدوى السابقة بالفيروس أو تلقي تطعيم ضده. لكن ستكون هناك حاجة إلى تجارب مختبرية ودراسات وبائية لتقدير الآثار الناتجة عن هذه الطفرات على أتم وجه.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تطوُّر الفيروس للإفلات من الاستجابات المناعية مثل هجمات الأجسام المضادة قد ينطوي أيضًا على خسارة بعض المزايا التطورية. على سبيل المثال، قد يؤدي نشوء طفرة في البروتين الشوكي تتيح مراوغة الفيروس للأجسام المضادة إلى إضعاف قدرته على التعرف على خلايا المضيف والارتباط بها. في ذلك الصدد، يقول جيسون ماكليلان، المتخصص في علم الأحياء البنيوي من جامعة تكساس في أوستن، إن منطقة الارتباط بمستقبِلات خلايا المضيف، الموجودة في البروتين الشوكي، وهي المستهدَف الرئيسي للأجسام المضادة المُحيِّدة للعدوى، صغيرة نسبيًا. وقد لا تستوعب إلا هذا القدر من الطفرات، كي تحتفظ في الوقت نفسه بقدرتها على أداء وظيفتها الرئيسية المتمثلة في الارتباط بمستقبِلات الإنزيم المحول للأنجيوتنسين (ACE2) في الخلايا المضيفة.

ويُحتمل أن تكرار التعرض لنسخ مختلفة من البروتين الشوكي، من خلال الإصابة بعدوى سلالات فيروسية مختلفة، أو الحصول على تطعيمات بلقاحات مُحدَّثة ضد الفيروس، أو كلا الوجهين، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تكوين وقاية مناعية يصعب على فيروس «سارس-كوف-2» التغلب عليها. كذلك من المستَبعد أن الطفرات التي تتغلب على الاستجابة المناعية لدى بعض الأشخاص سوف تؤدِّي إلى تثبيط هذه الاستجابات بين أفراد مجموعة سكانية بأكملها. ويبدو أن الاستجابات المناعية التي تشنّها الخلايا التائية، وهي من الأدوات المناعية الأخرى، تتسم بمرونة أكبر في الاستجابة للطفرات التي تطرأ على جينوم الفيروس.

وقد تؤدي مثل هذه العراقيل إلى إبطاء قدرة فيروس «سارس-كوف-2» على الإفلات من الاستجابات المناعية، لكن من المستَبعد أن تتمكن من شل هذه القدرة تمامًا، كما يقول بلوم. أما ماكليلان، فيقول إن ثمة أدلة واضحة على أن بعض الطفرات التي تنجح في مراوغة الأجسام المضادة لا تؤدي إلى خسارة كثير من المزايا التطورية، ويضيف: "سيظل الفيروس دائمًا قادرًا على إحداث طفرات في أجزاء من البروتين الشوكي".

المرحلة القادمة للفيروس

إن الكيفية التي يتطور بها فيروس «سارس-كوف-2» استجابةً للدفاعات المناعية لها تداعيات معينة في ما يخص انتقاله إلى مرحلة التوطُّن. في ذلك الصدد، يقول كوتشارسكي إنه لن يكون هناك مستوى أوّلي ثابت للإصابات بعدوى الفيروس، ويضيف: "يتصور كثيرون أن الإصابات بالفيروس تسلك اتجاهًا أفقيًا ومستوى ثابتًا، لكن هذا ليس ما يحدث حال توطُن العدوى". فبدلاً من ذلك، من المرجّح أن يتسبب الفيروس في فاشيات وأوبئة متفاوتة الحجم والنطاق، مثلما تفعل الإنفلونزا ومعظم حالات عدوى الجهاز التنفسي الشائعة الأخرى.

ويقول كوتشارسكي إنه لكي نتمكن من التنبؤ بنمط تلك الفاشيات، يعكف العلماء حاليًا على دراسة مدى السرعة التي يتعرض بها أفراد المجموعات السكانية المختلفة لأنواع عدوى الفيروس لأول مرة، وما إذا كان ذلك يرجع في الغالب إلى تطور الفيروس، أم ضعف الاستجابات المناعية، أم مَولِد أطفال جدد لا يتمتعون بمناعة ضده. وفي هذا السياق، يقول رامباوت: "أشعر أن الطفرات البسيطة التي تجعل جزءًا بعينه من مجموعة سكانية تفشت فيها العدوى سابقًا عُرضة لتجدد الإصابة مرة أخرى، ربما تكون المسار التطوري الأرجح".

ولعل السيناريو الأكثر مدعاة للتفاؤل مستقبلًا -وإن كان الأبعد عن الحدوث- في ما يخص تطوُّر فيروس «سارس-كوف-2» هو اتباعه المسار التطوُّري لفيروس الحصبة، بمعنى أن يكتسب الأفراد جرَّاء الإصابة بعدوى الفيروس أو تلقي تطعيم ضده حماية تدوم مدى الحياة منه، وأن يعتمد انتشاره إلى حد كبير على المواليد الجدد. وهنا، يقول بلوم: "حتى فيروس مثل الحصبة، الذي يعجز في واقع الحال عن التطور للإفلات من الدفاعات المناعية، لا يزال موجودًا".

وثمة سيناريو موازٍ لما قد يحدث في حال فيروس «سارس-كوف-2»، يرجّح بدرجة أكبر حدوثه، ويبعث نسبيًا في الوقت نفسه على التفاؤل، ألا وهو سيناريو تطوُّر «الفيروس المخلوي التنفسي» (RSV)؛ وفيه يُصاب معظم الأفراد بالفيروس في العامين الأولين من حيواتهم. ويعدّ «الفيروس المخلوي التنفسي» من الأسباب الرئيسية لإيداع الأطفال الرضع المستشفيات، لكن معظم حالات الإصابة به في مرحلة الطفولة تتسم بأعراض طفيفة. ويؤدي تراجع قوة الاستجابات المناعية مع التطور الفيروسي إلى السماح لسلالات جديدة من «الفيروس المخلوي التنفسي» بالانتشار عبر الكوكب كل عام، وإصابة البالغين بأعداد كبيرة، لكن بأعراض طفيفة بفضل تعرضهم للإصابة بالعدوى في طفولتهم. وتعقيبًا على ذلك، يقول رامباوت إنه إذا سار تطوُّر فيروس «سارس-كوف-2» على هذا المنوال، بمساعدة اللقاحات التي توفر حماية قوية ضد الأعراض الشديدة للمرض، "فسيصبح بالدرجة الأولى فيروسًا يصيب الأطفال".

ولنا في فيروسات الإنفلونزا مثال لسيناريو محتمل آخر، بل اثنين في الحقيقة. يتميّز فيروس الإنفلونزا من النوع "أ"، الذي يقف وراء أوبئة الإنفلونزا الموسمية العالمية كل عام، بسرعة تطوُّره وانتشار سلالات متحورة جديدة منه قادرة على الإفلات من الاستجابات المناعية التي استثارتها سلالات سابقة. والنتيجة ظهور أوبئة موسمية تكون مدفوعة إلى حد كبير بانتشار هذا الفيروس بين البالغين، الذين قد تستمر إصابتهم بالأعراض الحادة له. وتُضعف لقاحات الإنفلونزا شدة المرض وتبطئ من انتشاره، إلا أن التطور السريع لفيروس الإنفلونزا من النوع "أ" يعني أن اللقاحات لا تكون مناسبة دائمًا للتصدي للسلالات الآخذة في الانتشار من الفيروس.

لكن إذا تطوَّر فيروس «سارس-كوف-2» للإفلات من الاستجابات المناعية بوتيرة أبطأ من فيروس الإنفلونزا من النوع "أ"، فقد يشبه في تلك الحالة فيروس الإنفلونزا من النوع "ب"، الذي تعني وتيرة التطفُّر الأبطأ له، مقارنةً بالنوع "أ"، أن انتشاره مدفوع إلى حد كبير بحالات الإصابة لدى الأطفال، الذين تكون مناعتهم أضعف من البالغين.

ومن شأن السرعة التي يتطور بها فيروس «سارس-كوف-2» استجابةً للدفاعات المناعية أن تحدد أيضًا ما إذا كانت هناك حاجة إلى تحديث اللقاحات ووتيرة تحديثها. فيقول بيدفورد إنه من الوارد أن يحتاج المعروض من اللقاحات المتاحة حاليًا إلى تحديثه في وقت ما. وتجدر الإشارة إلى أنه في مسودة بحثية 5 نُشرت في سبتمبر الماضي، اكتشف فريق بيدفورد مؤشرات تفيد بأن فيروس «سارس-كوف-2» كان يتطور بوتيرة أسرع كثيرًا من فيروسات كورونا الموسمية، بل فاقت سرعتها حتى وتيرة تطوُّر فيروس الإنفلونزا من النوع "أ"، الذي يُطلق على النمط الرئيسي المنتشر منه اسم ««H3N2. ويتوقع بيدفورد أن يتباطأ تطوُّر فيروس «سارس-كوف-2» في نهاية المطاف حتى يصل إلى وتيرة تطفُّر أكثر ثباتًا. ويقول في هذا الصدد: "لا يمكنني الجزم بما إذا كان هذا الفيروس ذا وتيرة تطوُّر مماثلة للنمط الفيروسي «H3N2»، التي تستدعي معها تحديث اللقاحات كل عام أو اثنين، أو تتطلب تحديث اللقاحات كل خمس سنوات، أم أن وتيرته أسوأ".

وعلى الرغم من أن فيروسات الجهاز التنفسي الأخرى، بما فيها فيروسات كورونا الموسمية، مثل ««229E تطرح عديدًا من السيناريوهات المحتملة لتطوُّر فيروس «سارس-كوف-2»، فإن تطوُّره قد يسلك مسارًا مختلفًا تمام الاختلاف، على حد قول رامباوت وغيره من العلماء. ويتيح الانتشار الهائل للسلالة المتحورة «دلتا» وظهور سلالة «أوميكرون»، إلى جانب غياب العدالة في طرح اللقاحات في البلدان ذات الدخل المنخفض وفرض الحد الأدنى من التدابير الرقابية في بعض البلدان الغنية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أرضًا خصبة تسمح لفيروس «سارس-كوف-2» بتحقيق مزيد من القفزات التطورية المذهلة.

على سبيل المثال، أثارت وثيقة أعدَّتها مجموعة استشارية علمية تابعة لحكومة المملكة المتحدة في يوليو الماضي، احتماليةَ أن يشكّل الفيروس «سارس-كوف-2» خطرًا أكثر حدة، أو أن يصبح قادرًا على مراوغة اللقاحات الحالية عن طريق تغيير تركيبه الجيني لتختلط به عناصر من فيروسات كورونا أخرى. كذلك فإن استمرار انتشار الفيروس في المستودعات الحيوانية له، مثل حيوانات المنك أو الغزلان بيضاء الذيل، يعزز احتمالية نشوء طفرات مفاجئة به، مثل تلك التي تمكنه من الإفلات من الاستجابات المناعية أو تعزز حدة أعراض الإصابة به.

وقد يظل مستقبل فيروس «سارس-كوف-2» في أيدينا نحن البشر. فمن الممكن أن يؤدّي تطعيم أكبر عدد ممكن من الأشخاص ضده، بينما لا تزال فاعلية اللقاحات مرتفعة، إلى منعه من فتح الأبواب أمام طفرات من شأنها أن تؤدي إلى اندلاع موجات انتشار وبائية جديدة. من هنا، ختامًا، يقول رامباوت: "قد تكون أمام الفيروس حاليًا عدة اتجاهات بوسعه أن يسلكها، لكنه لم يمض في أي منها".

اضف تعليق