q
خطوة واحدة لو نفذتها الحكومة لكانت كفيلة بإحداث تحول سياسي واجتماعي وإداري كبير، ولو تم تطبيقها لعززت من هيبة الدولة بشكل واضح، والمفارقة أنها لا تحتاج إلى رصد ميزانيات مالية هائلة، إنما كانت تتطلب وجود إرادة حقيقية لدى الحكومة، الخطوة التي أتحدث عنها تتمثل في...

لو أردنا توصيف حكومة السيد مصطفى الكاظمي بجملة واحدة سنقول أنها كانت "حكومة شعارات هيبة الدولة"، لأن عبارة هيبة الدولة تكاد تكون الأكثر تكراراً في الخطاب الحكومي، بينما فشلت كل المؤسسات الرسمية في ترجمة الشعار إلى واقع يعيشه المواطن.

خطوة واحدة لو نفذتها الحكومة لكانت كفيلة بإحداث تحول سياسي واجتماعي وإداري كبير، ولو تم تطبيقها لعززت من هيبة الدولة بشكل واضح، والمفارقة أنها لا تحتاج إلى رصد ميزانيات مالية هائلة، إنما كانت تتطلب وجود إرادة حقيقية لدى الحكومة.

الخطوة التي أتحدث عنها تتمثل في تسهيل الإجراءات الإدارية للمواطنين (الذين لا يملكون واسطات) في المؤسسات الحكومية، وهذه بدورها سوف تؤسس لبناء رصين لهيبة الدولة.

ليست فكرة مثالية، ولا هي مستحيلة، بل وليست فكرة تواجه معارضة من قبل الجماعات المتنفذة كما تزعم كل الحكومات المتعاقبة، ولن تتآمر ضدها الدول العظمى والإقليمية.

اعطيك مثالاً لأثبت ما أقول: لو جاء مواطن بسيط لا يملك واسطة تسهل له الإجراءات الإدارية، واستقبله الموظف وتعرف على طلبه رغم عدم وجود واسطة، وقال له أجلس في مكانك وأنا سوف أكمل الطلب وأعطيك النتيجة النهائية، رغم عدم وجود واسطة وعدم التوصية بتوصيل السلام الحار لفلان صاحب الواسطة كما هو معهود من أصحاب الواسطات، هل هذا صعب على أي مؤسسة حكومية؟

لا ليس صعباً بالمطلق، مثلما يعمل الموظف بكل طاقته لتسهيل معاملة صاحب الواسطة، ويستقبله ويودعه بالسلام الحار "لكونه من طرف فلان"، يمكن لنفس الموظف إعطاء أقصى طاقته لنفس المواطن لكن بدون الواسطة.

ولتطبيق هذه الخطوة الصغيرة سوف نكون أمام وضعين:

الوضع الأول: هناك مؤسسات غير مزدحمة ولا يراجعها عدد كبير من المواطنين، ومن ثم يمكن تسهيل الإجراءات في هذا النوع من المؤسسات لمجرد أن يكون هناك توجه حكومي جدي في هذا الشأن.

بدلاً من بقاء الموظفين متسمرين أمام هواتفهم يتصفحون مواقع التواصل، عليهم القيام بواجباتهم وعدم تأجيل طلبات المواطنين.

الوضع الثاني: هناك مؤسسات مزدحمة بعدد المراجعين، وهنا نحتاج إلى برمجة المواعيد باستخدام الحجز الإلكتروني المسبق، لكن بشرط أن يكون موعد المراجعة هو نفسه موعد إكمال الإجراءات بدون أي تأجيل إلى اليوم التالي لأن ذلك لو حدث سوف يربك العملية.

لو أن المؤسسة تعرف أنها قادرة على إكمال 40 معاملة يومياً، وعلى هذا العدد يتم تقسيم المراجعين، ويمنع تأجيل أي معاملة لليوم التالي حتى لا تتراكم المعاملات، ولا يحدث إرباك في المواعيد.

لا تدع الغثيات يصيب جسدك صديقي القارئ من طرح هذه الفكرة، اعتبر نفسك في مؤسسة حكومية وتقف في طابور الانتظار ولذلك أدعوك لأكمال المقال حتى النهاية، فأنا أعرف حجم خيبات الأمل التي تعرضت لها خلال رحلتك في التعامل مع المؤسسات الحكومية والنظام الإداري السيء في العراق، ويمكن أنك تشعر بحالة من اليأس لعدم وجود أي طريق لإصلاح ما وصلنا إليه.

هذا الكلام الذي أطرحه بعد مشاهدتي لأكثر من حالة، يتم فيها عرقلة معاملات مواطنين رغم أنها قانونية 100%، ولا يوجد فيها أي نقص، فيضطر المواطن للاستعانة بجماعات مسلحة أو جماعات عشائرية لإجبار المؤسسة الحكومية على ترتيب أوراقه بالشكل الذي يريد.

ففي الوقت الذي التزم فيه بتسلسل الإجراءات الرسمية أخذت معاملته ستة شهور.. تذكر هذا الرقم جيداً أخذت المعاملة منه ستة شهور، وفي النهاية تمت عرقلتها ورفضها.

لكنه لم يستسلم وضطر إلى طرق أبواب أحدى الجماعات المسلحة، وتمت إعادة جميع الإجراءات وإكمالها في ظرف خمسة ثلاثة أيام فقط... أنا هنا أتحدث عن تجربة حقيقية شاهدتها بعيني وكنت متابعاً لتفاصيلها.

وبعد أن أكمل المواطن إجراءاته سمعته كيف بدأ يمتدح الجماعة المسلحة التي انقذته من جحيم الإجراءات الحكومية الرسمية الظالمة، وبالفعل هي كانت إجراءات ظالمة، وكيف استفاد من المساعدة التي قدمتها الجماعة المسلحة بحيث أجبرت الموظفين على إتمام المعاملة في خمسة أيام.

أنا لا أبرر ذهاب المواطنين إلى الأبواب غير القانونية، لكنني أقول: أن تعقيد الإجراءات الرسمية يدفع المواطن إلى سلوك الطرق غير القانونية، وهذا يعني أنه ينتهك هيبة الدولة، بل ويتحول إلى عدو لدود لكل ما هو قانوني بسبب تجربته السيئة مع التطبيقات التعسفية للقانون في المؤسسات الحكومية العراقية.

في كل مرة أسمع من مواطن يبرر استخدامه الأساليب الملتوية وغير القانونية، ويبرز الأدلة التي تثبت أن الموظفين لا ينفع معهم سوى الواسطة والضغوطات بمختلف أنواعها.

اليوم أغلب المواطنين يضطرون للاستعانة بالواسطة من أجل إكمال معاملاتهم الإدارية في مؤسسات الدولة، وهذه الظاهرة تنتج لنا إشكاليتين خطيرتين:

الأولى: ضعف احترام المواطن للنظام الإداري الحكومي، لكونه لا يستطيع الإيفاء بالتزاماته تجاه المواطن، فتتشوه صورته ويتحول إلى مجرد هيكل قانوني أجوف تتلاعب به القوى المتنفذة في البلاد.

الثانية: اضطرار المواطن للاستعانة بالقوة التي تملكها جماعات سياسية أو عسكرية أو حتى عشائرية خارج إطار القانون، وهذا بدوره يزيد من الثقل السياسي والاجتماعي لهذه الجماعات ويجعلها بديلاً لعمل المؤسسات الحكومية.

لا نريد حكومة مثالية ولا نبرر لاستخدام الواسطة في المؤسسات الحكومية، لكننا نريد لفت الإنتباه إلى أن الحرب الحقيقية لاستعادة هيبة الدولة تبدأ من خلال تسهيل الإجراءات الإدارية في مؤسسات الدولة، لأن تعقيد هذه الإجراءات وتقاعس الموظفين عن أداء واجباتهم واستسهالهم تأجيل المواطنين إلى اليوم التالي، كل هذا يفتح الباب واسعاً أمام التدخل غير المبرر للواسطات والفساد المالي والإداري.

اضف تعليق