q
تربّع الرئيس بايدن على رأس مكتبه محاضراً في مدعوّيه للاقتداء بالمُثل والقيم الإنسانية العامة، وكانت فرصته لالتقاط الصور وتسخيرها في خدمة الجدل الداخلي وأزمته الخاصة من عدم تحقيق أيٍّ من برامجه الطموحة التي وعد بها ناخبيه، وترسيخه الاصطفاف العالمي ضد روسيا والصين، على الرغم مما ينطوي عليه...
بقلم: د. منذر سليمان و جعفر الجعفري

لبّى نحو 112 دولة دعوة الرئيس الأميركي جو بايدن، الأسبوع الماضي، لعقد "قمة للديموقراطية" افتراضياً في واشنطن، لتخطّي "الأضرار التي تسبّبت بها سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب" على المستوى الدولي، وترجمة أيضاً لوعد انتخابي قطعه المرشح الرئاسي جو بايدن، في 11 تموز/يوليو 2020، قائلاً: "ينبغي علينا ترميم قدرتنا لقيادة العالم الحر، ومواجهة التحديات الجديدة معاً".

واستطرد المرشح بايدن متعهّداً باستضافة بلاده "خلال السنة الأولى من إدارتي" لقمة عالمية للديموقراطية، والبناء على "النموذج الناجح الذي طبّقناه خلال إدارة أوباما-بايدن بعقد قمة للأمن النووي"، عقدت جولتها الأخيرة في العام 2016 بمشاركة 53 دولة. أما شروط الانضمام إلى قمة الديموقراطية فقد حدّدها المرشح بايدن بأن المدعوّين "ينبغي عليهم الإعداد للتحلّي بتعهدات راسخة لمكافحة الفساد، ومحاربة الاستبداد، ودعم حقوق الإنسان داخل بلدانهم".

أما في دعوة الرئيس بايدن، في العام 2021، فقد حرص على عدم دعوة كل من روسيا والصين، وكذلك غضّ النظر عن تحديد الأسس والشروط المطلوبة من الدول المدعوّة، ومنها تايوان. وتلقّى عدد من الدول دعوات إلى المشاركة "على الرغم من سجلّها الذي يفتقر إلى إنجازات في المعايير الثلاثة" المحددة أعلاه ("معهد بروكينغز"، 7 كانون الأول/ديسمبر 2021).

كما افتقرت الدعوة إلى خطة عملية لما يُراد تحقيقه، باستثناء التقاط الصور، ولو عن بُعد، بوجود الرئيس الأميركي، مع الأخذ بعين الاعتبار التمثيل الواسع لدول اوروبية، وحضور العراق و"إسرائيل" حصراً عن الشرق الأوسط، ومشاركة دول لم تنعم بنُظم حكم تمثيلية سوى أنها تعادي روسيا، مثل أوكرانيا وبولندا، وتشكل رأس حربة لواشنطن في صراعها الكوني مع موسكو.

المؤسسات الأميركية، الخاصة والعامة، مولَعة بالبيانات الاحصائية والخوارزميات المتعددة كمعيار لترويج نظريات واستنتاجات معينة. وإحدى تلك المؤسسات المعتمدة لديها هي "مشروع العدالة الاجتماعية"، التي تُصدر بيانات دورية محورها قياس "معدلات الفساد والشفافية وتطبيق الأمن والمساواة". وصنّفت الدول العالمية في قائمة من 139 دولة، جاءت الولايات المتحدة في المرتبة 27 ضمن معايير التمسك بالقانون، مقابل الدانمارك التي احتلّت المرتبة الأولى.

واستنادا إلى "المعايير الثلاثة" المذكورة، من متطلبات الديموقراطية كشرط لحضور القمة، يمكن الاستدلال على جملة من التناقضات وازدواجية المعايير السياسية التي طبّقتها إدارة الرئيس بايدن. على سبيل المثال، دُعيت باكستان إلى المشاركة على الرغم من مرتبتها المتدنّية، 130 من مجموع 139، بينما حصلت بنغلادش على مرتبة أعلى لكنها غابت عن القمة. أما الهند، فجاء ترتيبها 79 من 139، لكنها حضرت على الرغم من تسجيلها تراجعات ملحوظة بنسبة 4% للقيود التي فرضتها على الحريات العامة، بحسب بيانات المؤسّسة المذكورة ("معهد بروكينغز"، 7 كانون الأول/ديسمبر 2021).

عارضت ثلّة من النخب الفكرية الأميركية اقتراح الرئيس بايدن للقمة، على الرغم من تأييدها الثابت له في الجولة الانتخابية. من أبرز رموزها استاذ التاريخ والاستراتيجية الأميركية في جامعة كولومبيا، ستيفن ويرثايم، وزميله ديفيد آدلر، مؤلف نحو 265 كتاباً للأطفال.

وحذّر الثنائي المذكور، في مقال مشترك نُشر في صحيفة "الغارديان" البريطانية، في كانون الأول/ديسمبر 2020، من فشل القمة المزمعة، ومن شأنها "توجيه السياسة الخارجية الأميركية في مسار منحدر وفاشل لتقسيم العالم إلى معسكرين متقابلين، وإعلاء نزعة التصادم مقابل التعاون" بينهما، واستخدمها "كوسيلة لتعزيز نظرة التفوّق والاستثنائية الأميركية". وطالب الثنائي إدارة الرئيس المنتخب بايدن بالتمايز عن نهج سلفها"، والابتعاد عن تكرار انتاج معضلات القرن العشرين" ("ذي غارديان"، 22 كانون الأول/ديسمبر 2020).

عند هذا المنعطف تجدر الإشارة إلى بعض المسائل التي مرّ عليها الرئيس جو بايدن في ترويجه لوثيقة "إرشادات مرحلية للأمن القومي"، آذار 2021، في مطلع ولايته الرئاسية، وتحديده لمكامن الأخطار والنواقص التي تواجهها الدول الغربية، والتي استند إليها "كمعايير" لحضور القمة.

أوضح الرئيس بايدن أن "الديموقراطيات عبر العالم، من ضمنها تجربتنا الخاصة، تعاني من حصار متزايد. المجتمعات الحرّة باتت تواجه تحديات من داخلها متمثلة في الفساد، وعدم المساواة، والاستقطاب، والشعبوية، والتهديدات فوق الليبرالية لحكم القانون". وتعهّد آنذاك في بذل أقصى الجهود "لمعاجة حقيقية للعنصرية المتجذرة والارتقاء إلى مستوى التزامنا بمكوّنات بلادنا كدولة من المهاجرين".

ربما يتوصّل المرء إلى صورة مقاربة حقيقية للنموذج الأميركي من خلال الاجراءات الجارية للحد من حريات الرأي وتدابير القمع المقونن والتعدي الممنهج على الحريات العامة. من أبرز الأمثلة، الاعتداء على حرية الصحافي الاستقصائي الأكثر شهرة في العالم، جوليان أسانج، لكشفه "إحدى" المجازر التي ارتكبتها القوات الأميركية بحق المدنيين في العراق؛ واستغلال النائب العام الفيدرالي، ماريك غارلاند، "قانون الوطنية" لعام 2001 بطلبه من مكتب التحقيقات الفيدرالي، أف بي آي، التحقيق في توجهات "أولياء الطلبة المعارضين لبعض البرامج التعليمية" المدعومة من الدولة.

أما التحقيقات بشأن "الفساد الناعم"، الذي أشارت إليه بعض وسائل الإعلام، الخاص بقيادات من الحزبين، من بينهم رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، والتغطية الرسمية على ذاك النمط من الفساد، فلا تجد لها آذاناً صاغية، فضلاً عن تعرض المطالبين بها لمسائلات متعددة.

بيد أن ما شهدته الولايات المتحدة من "استقطاب حاد وفساد وفوضى وتحدي لسلطات إنفاذ القانون"، في "غزوة الكابيتول"، 6 كانون الثاني/يناير 2021، يؤشّر في ابرز جوانبه على "الفشل الذريع" للنموذج الأميركي في الديموقراطية المُراد تعويمه. في الجوهر، تدلّ تلك الأحداث على مواطن القصور الشديدة والأمراض المستعصية في صيغة حكم تبادل الحزبين للسلطة، يجسّدها عزوف أعداد متزايدة من الأميركيين عن المشاركة في الجولات الانتخابية المتعددة.

في المحصّلة، تربّع الرئيس بايدن على رأس مكتبه محاضراً في مدعوّيه للاقتداء بالمُثل والقيم الإنسانية العامة، وكانت فرصته لالتقاط الصور وتسخيرها في خدمة الجدل الداخلي وأزمته الخاصة من عدم تحقيق أيٍّ من برامجه الطموحة التي وعد بها ناخبيه، وترسيخه الاصطفاف العالمي ضد روسيا والصين، على الرغم مما ينطوي عليه من مخاطر حقيقية تهدد البشرية كافة.

النموذج الأميركي الجاهز للتصدير "عبر فوهة البندقية" والعقوبات، خبى بريقه واستنفذ أغراضه بوتائر متسارعة، ولم يعد صالحاً للاقتداء به أمام الأزمات العالمية الناجمة بدرجة كبيرة عن انعكاسات التدخلات العسكرية الأميركية عبر العالم.

* نشرة التقرير الأسبوعي لمراكز الابحاث الأميركية

اضف تعليق