q
لقد خلقت أزمة المناخ وعيًا تامًّا بالتاريخ؛ فالقرارات التي اتخذها البشر في الماضي لا يخفى أثرها البالغ والحاسم على الحاضر، وما نفعله في الحاضر قد يترك أثرًا بالغًا وحاسمًا على مستقبلنا، لا يخفى كذلك أنه يصعب علينا التخلص من ماضينا ونحن لا نزال -حتى الآن-...
بقلم يوسف تالبي، هانا نيلسون

لقد خلقت أزمة المناخ وعيًا تامًّا بالتاريخ؛ فالقرارات التي اتخذها البشر في الماضي لا يخفى أثرها البالغ والحاسم على الحاضر، وما نفعله في الحاضر قد يترك أثرًا بالغًا وحاسمًا على مستقبلنا، لا يخفى كذلك أنه يصعب علينا التخلص من ماضينا ونحن لا نزال -حتى الآن- نسلك في الغالب المسارات السلوكية ذاتها التي سلكناها سلفًا، بالرغم مما سبق، فإن مكافحة تغيُّر المناخ تتطلب "تغيرات سريعة وواسعة وغير مسبوقة في جميع جوانب المجتمع".

باعتبارنا متخصصين في التاريخ الاقتصادي، فإن دافعنا الأول في مواجهة تغيُّر المناخ يكمن في إدراك أن التحركات الحالية يمكنها الاستفادة من تحليلات لتحولات مشابهة جرت على نطاق واسع على مدار التاريخ، وبالمثل، فإن فهمنا لما أوقعنا في هذا المأزق غالبًا ما سيمنحنا مفاتيح مهمة تدلنا على ما نحتاج إليه للخروج منه.

من اللافت للنظر أن تتبُّع أصول الاقتصاد المعتمد على الوقود الأحفوري وازدهار صناعة السيارات القائمة على البنزين يؤدي بنا إلى أحجية؛ فمن غير المعروف للكثيرين أن السيارت الكهربائية، بل والبخارية، كانت تنافس بالفعل بقوة للهيمنة على السوق مطلع القرن العشرين، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت السيارات التي تعمل بالبنزين عام 1900 لا تمثل سوى 20% فقط من السيارات المُنتَجة، أما النسبة المتبقية فكانت موزعةً بين المحركات الكهربائية والبخارية.

في دراسة نُشرت حديثًا في دورية نيتشر إنيرجي (Nature Energy)، سعينا لفهم الأسباب التي أدت إلى سطوع نجم السيارات التي تعمل بالبنزين بدلًا من السيارات الكهربائية، يتمثل التفسير الأول في أن المركبات الكهربائية كانت أغلى تكلفةً وأقل جودةً من الناحية الفنية، لكننا اكتشفنا -مستعينين ببيانات متعلقة بأكثر من 36000 طراز من طرازات سيارات الركوب الأمريكية التي صُنِّعَت خلال الفترة بين 1895 و1942- أن المركبات الكهربائية كانت أعلى تكلفةً، لكن ليس بالمقارنة بأدائها؛ فالسيارت الكهربائية الأولى كانت أخف وزنًا وأقل حجمًا بمقاييسنا الحالية، مما سمح لها بأن تقطع ما متوسطه حوالي 90 ميلًا في الشحنة الواحدة خلال العقد الثاني من القرن العشرين.

لماذا إذًا فضَّل المستهلكون السيارات المعتمدة على البنزين؟ لقد أفضى بنا تحليلنا إلى الأهمية البالغة التي تمثِّلها البنية التحتية، والتي توافرت للسيارات الكهربائية في مرحلة متأخرة للغاية، وجدنا أن محدودية سبل الحصول على الكهرباء اضطرت منتجي السيارات الكهربائية إلى قصر إنتاجهم على المناطق الحضرية فقط، اختار مصنِّعو السيارات التكنولوجيا بناءً على الظروف التي كانت سائدةً أوائل القرن العشرين، بالرغم من التوسُّع الذي شهدته شبكة الكهرباء في العقود التالية، فإن هذا التوسُّع لم يؤدِّ إلى تحوُّل في القوة الدافعة المستخدَمة لتشغيل السيارات، ولم يبدأ العقد الثاني من القرن العشرين إلا وقد صارت صناعة السيارات -بصورة أساسية- مقتصرةً على خيار التكنولوجيا ذات الانبعاثات الكربونية الكثيفة.

صحيح أن كهربة صناعة السيارات توسعت في مرحلة مبكرة، لكن أغلب الأسر المعيشية لم تكن تتوافر لديها خدمات الكهرباء، أو كانت الخدمات دون المستوى، وذلك بحلول ثلاثينيات القرن العشرين، والسبب في ذلك يُعزى جزئيًّا إلى أن سوق الأسر المعيشية لم يكن مربحًا بالنسبة لشركات المرافق الخاصة، لم يكن ثَمَّ التزام سياسي واسع بتعميم خدمات الكهرباء، إلى أن أطلق الرئيس روزفلت مجموعة برامج "الصفقة الجديدة"، ثم "قانون كهربة المناطق الريفية"، التي منح بموجبهما قروضًا فيدرالية لتركيب الشبكات الكهربائية، بالرغم مما سبق، فإن "الصفقة الجديدة" تأخرت عقودًا حتى شملت منتجي المركبات الكهربائية.

ماذا لو كانت الكهرباء قد توافرت على نطاق أوسع؟ سعيًا منَّا إلى إبراز كفاءة النماذج التي طورناها، تخيلنا عالمًا مغايرًا للواقع، حيث انتشرت شبكات الكهرباء بوتيرة مشابهة لكن قبل 15 أو 20 عامًا من انتشارها في عالمنا الفعلي، تشير عمليات المحاكاة إلى أن هذا كان سيكفي لترجيح كفة المركبات الكهربائية، لا سيما في المناطق الحضرية الكبرى، أما في التصور غير الواقعي الأكثر معقولية -والذي اقترحه أيضًا مؤرخ التكنولوجيا ديفيد كيرش- فثمة منظومة نقل مزدوجة، حيث تخدم المركبات الكهربائية المناطق الحضرية الكبرى بينما تستحوذ السيارات المعتمدة على البنزين على أغراض السياحة والمناطق الريفية، لا شك أن منظومة النقل القائمة على الوقود الأحفوري تمثِّل السبب الرئيسي لأزمة المناخ التي نعيشها الآن، ولا نبالغ إن قلنا إن الأثر البشري على البيئة كان سيبدو مختلفًا بالكلية لو كانت تكنولوجيا السيارات قد سارت في اتجاه منظومة النقل المزدوجة أو حتى في اتجاه منظومة نقل معتمدة على الطاقة الكهربائية حصرًا، ولتراجعت نسب انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (علاوةً على التكاليف التشغيلية) تراجعًا كبيرًا، وفق تقديراتنا، وهو ما كان سيخفض ما يصل إلى 75% من الانبعاثات الكربونية لكل ميل قطعته وسائل المواصلات الشخصية عام 1940.

هل سينجح مسعانا هذه المرة؟ إن نموذج المركبات الكهربائية الحديثة يُعد بلا شك خير مثال على ما سبق أن أوردناه في هذا المقال، فتوافر محطات الشحن لا يزال يشكل عائقًا، وكذا البنية التحتية اللازمة لتقنيات الشحن التكميلية، كالطرق الكهربائية، ولا تزال المركبات الكهربائية حتى عام 2021 لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من مجموع المركبات المنتَجة، وتؤدي في كثير من الحالات دورًا معززًا لسوق المركبات بدلًا من أن تحل محل الطرازات المعتمدة على البنزين، تجدر الإشارة إلى أن كل سيارة جديدة يتم بيعها سوف تستغرق 20 عامًا كي يتم استبدالها، وهو ما يُعد تطورًا مثيرًا للقلق، خاصةً في ظل التقارير الواردة التي تتوقع أن يعتمد ما لا يزيد عن 30% فقط من السيارات على الطاقة الكهربائية بحلول عام 2050 في ظل السياسات الراهنة، بناءً على تلك التقديرات، فسوف نضطر إلى الانتظار سنوات قبل أن يُحدث التحول إلى المركبات الكهربائية تراجعًا بسيطًا في معدلات انبعاثات غازات الدفيئة المتصاعدة من قطاع النقل، لكننا لو نظرنا إلى الجانب المشرق فسنجد أن الدعوات المنادية بما يسمى "صفقات جديدة خضراء" -وهي دعوات تتفاوت فيما ترمي إليه من طموحات- قد أكدت أهمية البنية التحتية، وقد شهدنا مؤخرًا مبادرات سياسية تسير في هذا الاتجاه، ومن أمثلتها حزمة "لائق لنسبة 55" (فيت فور 55) التي تبنَّاها الاتحاد الأوروبي هذا العام، وقانون البنية التحتية الذي طرحه الرئيس الأمريكي جو بايدن، والذي جرت مناقشات طويلة بشأنه لكنه لم يدخل حيز التنفيذ حتى الآن، بالرغم من هذا الجانب بالمشرق، فعلينا ألا نغفل أن كثيرًا من خرائط الطريق الوطنية التي تتناول تخفيض الانبعاثات المستقبلية تعتمد على مسارات تتبع منحنى عصا الهوكي، وتُخفق عادةً في التطرق إلى أهمية البنى التحتية التكميلية أو تكامل المنظومة.

يُظهر ما أجريناه من تحليل أن النجاح في توفير بنية تحتية تكميلية أو عدمه قد يسرع تحولات مهمة واسعة النطاق أو يُبطئها، أو حتى يتسبب في توقفها، في حال لم تتوافر بنى (تحتية) لكسر قفل الكربون، فربما تصير تدابير كضرائب الكربون أو أرصدة الكربون الدائنة غير فعالة -للأسف- من الناحية العملية، رغم كونها سارية المفعول من الناحية النظرية، ولذلك فإننا نذهب إلى أن البنى التحتية التكميلية والحلول النُّظُمية ينبغي أن تلقى اهتمامًا يضاهي ما تتلقاه جهود تطوير التكنولوجيا، إن التركيز على البنية التحتية يمكن أن يحول وجهات النظر المتعلقة بدور السياسات من محاولة إصلاح إخفاقات السوق إلى خلق أسواق جديدة، هذا إلى جانب إيجاد حالة من الاستقرار طويلة المدى ورؤية واضحة للتوجه لدى منتجي المركبات ومستخدميها.

اضف تعليق